الفهد الأزرق

الفهد الأزرق
        

رسوم: حسام التهامي

          وقف فهد أمام المرآة وهو يتقافز ويُلكم الهواء بقبضتيه كأنه يقف على حلبة الملاكمة يلعب مباراة مصيرية. كان فهد يتميز بجسم رياضي فارع الطول، بارز العضلات، عريض الصدر كما يليق بملاكم يحصد البطولات بلا منافس.

          جاءه صوت أم فهد من الخلف وهي تقول:

          - ارحم نفسك يا ابني. متى تعتزل هذه الرياضة العنيفة وتريح قلبي؟

          - ليس الآن يا أمي. ليس قبل أن أفوز بلقب بطل العالم.

          - تعرف يا فهد. كلما خرجت لكي تلعب مباراة وضعت يدي على قلبي ودعوت ربي أن يعيدك بالسلامة. ولا يطمئن قلبي إلا عندما تعود إلى البيت.

          - لا تقلقي يا أمي. ابنك حاصل على الميدالية الذهبية في الوزن الثقيل ثلاث سنوات متتالية. وإذا فزت في مباراة اليوم فسأسافر للعب في تصفيات بطولة العالم.

          - سلامتك عندي أغلى من كل بطولات العالم يا فهد.

          استدار فهد إلى أمه وانحنى يقبل رأسها وهو يقول:

          - اطمئني يا أمي، وادع لي أن أفوز بمباراة اليوم.

          - ربنا يوفقك يا ابني ويحقق كل أحلامك ويرجعك بالسلامة.

          بعد دقائق كان فهد يرتدي ملابس الخروج وهو يحمل على كتفه حقيبة رياضية. وعند باب المنزل كانت تنتظره سيارته الرياضية الحمراء. فتح باب السيارة وجلس على مقعد القيادة وانطلق مسرعًا.

          عندما وصل فهد إلى باب النادي كان هناك صف طويل من الشباب الذين ينتظرون دورهم للدخول إلى النادي وفي يد كل منهم بطاقة حضور المباراة التي دفع فيها مبلغًا كبيرًا من المال. ترك الشباب أماكنهم في الصف وتجمعوا حول فهد، وراحوا يتسابقون على مصافحته وهم يشجعونه ويعبرون عن تمنياتهم له بالفوز. وكان فهد سعيدًا بهتافات الشباب وصيحاتهم التي تعالت من حوله:

          كان أكثر ما يسعد فهد أن يناديه المشجعون المعجبون به بلقب «الفهد الأزرق»، حيث كان حريصًا منذ بداية ممارسته للعبة الملاكمة على ارتداء زي رياضي أزرق تميز به عن كل الملاكمين الآخرين.

          بعد قليل كان فهد في غرفة خلع الملابس مرتديًا زيه الأزرق، جالسًا في مواجهة مدربه الذي راح يلقي عليه آخر ملاحظاته وتوجيهاته:

          - لا تنسَ يا فهد، ركز على استغلال فرق الطول بينك وبين سالم. تذكر أن عظام وجه سالم بارزة، فإن وجهت ضرباتك إلى رأسه فستسبب له جروحًا تمنعه من التركيز تمامًا. لا تكف عن القفز والحركة على الحلبة طوال الوقت، فهذا سوف يربكه ويشتت انتباهه ويجعله غير قادر على مواجهة لكماتك.

          عندما حان موعد بدء المباراة كان فهد يجلس في ركن الحلبة، والمدرب إلى جواره من الخارج يلقنه آخر تعليماته. وفي الركن المقابل كان سالم يجلس هو الآخر مستمعًا إلى تعليمات مدربه. بينما كانت مقاعد المشاهدين ممتلئة عن آخرها بالمشجعين، وكان واضحًا أن فهد يتمتع بحب وتشجيع الأغلبية الساحقة من الجمهور، كان الأطفال والشباب يحملون الأعلام الزرقاء ويلوحون بها في الهواء، وكان الكثيرون منهم يحملون لافتات كتبوا عليها عبارات مثل: «الفهد الأزرق إلى الأمام»، «إلى بطولة العالم يا فهد»، «بالضربة القاضية يا فهد يا أزرق».

          دق الجرس معلنًا بداية المباراة، فوقف فهد وسالم وبدأت معركة قاسية. لم يكن سالم خصمًا سهلاً فقد وصل إلى هذه المباراة النهائية بعد عشرات المباريات التي فاز فيها كلها. ولكن فهد كان يبدو متميزًا بجسمه الطويل الفارع الذي أتاح له أن يوجه ضربات موجعة إلى رأس سالم، وهو يتقافز على الحلبة في رشاقة منفذًا توجيهات مدربه. في نهاية الجولة الأولى رفع الحكم يد فهد معلنًا فوزه بالنقاط. في الجولة الثانية بدا تفوق فهد أكثر وضوحًا حيث بدأت الجروح تظهر فوق حاجبي سالم وخديه، وبدأت تسيل منها قطرات من الدماء. بدأ اللاعبان يلتحمان عن قرب والحكم يفرق بينهما بيديه. وفجأة وجه فهد لكمة قوية إلى فك سالم فأسقطه على أرض الحلبة، وأخذ الحكم يشير بأصبعه تجاه سالم وهو يعد: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة. وعندما وصل الحَكَم إلى رقم 6 كان سالم قد قام واقفًا واستأنف اللعب في مواجهة فهد. وفي نهاية الجولة الثانية أيضا كان فهد فائزًا بالنقاط.

          بعد دقيقة من بداية الجولة الثالثة وجه فهد لكمة إلى جبهة سالم أسقطته على أرض الحلبة. وعندما وصل الحكم إلى رقم عشرة كان سالم لا يزال غير قادر على الوقوف. أمسك الحكم بيد فهد ورفعها إلى أعلى معلنًا فوزه بالضربة القاضية. تعالت هتافات الجمهور السعيد بفوز فهد، وبعد قليل حملوه على الأعناق وداروا به في أرجاء النادي وهم يهتفون بحياة الفهد الأزرق.

          في صباح اليوم التالي استيقظ فهد مبكرًا، وراح يتصفح الصفحات الرياضية في صحف الصباح، كان سعيدًا برؤية صورته منشورة في كل الصحف وبالثناء الذي أفاض به المعلقون الرياضيون على قوته ورشاقته ومهارته. ولكن فجأة وقعت عيناه على خبر مؤلم، كان الخبر يقول إن الملاكم سالم يرقد في مستشفى المدينة غائبًا عن الوعي نتيجة الإصابات التي أصابت فكه ورأسه في مباراة أمس. ترك فهد الجريدة من يده وانطلق بسيارته متجهًا إلى المستشفى. ولم ينسَ أن يمر في طريقه على محل لبيع الزهور لكي يشتري باقة من الورد يقدمها لزميله سالم.

          وقف فهد أمام غرفة سالم بالمستشفى وهو يحمل الزهور بين يديه، وقبل أن يمد يده ليفتح الباب خرجت من الغرفة سيدة كبيرة في السن، تبدو على ملامحها علامات الحزن الشديد. وبمجرد أن رأته صاحت في وجهه بغضب:

          - لماذا جئت إلى هنا؟ لا نريد أن نراك، ولا نريد منك زهورًا. أنت الذي فعل كل هذا بابني.

          انسحب سالم بهدوء وهو يقول لنفسه: «معذورة. لو كانت أمي مكانها لفعلت أكثر من ذلك».

          عندما وصل فهد إلى البيت دخل غرفته وأخذ يتأمل عشرات الكئوس والميداليات المرصوصة على الأرفف، وشهادات التقدير المعلقة على الحائط والتي حصل عليها منذ بدأ يمارس رياضة الملاكمة. وكلما وقعت عيناه على شيء منها راح يذكر نفسه بالمباراة التي فاز عنها بهذه الميدالية أو تلك الكأس أو الشهادة. وراحت تقفز إلى ذهنه صورة لزميل له في اللعبة وهو يسقط على الحلبة ولا يقوى على الوقوف على قدميه. كان فهد يقول لنفسه: «كيف كنت قاسيًا إلى هذا الحد؟ لقد علمونا في المدرسة أن الرياضة رسالة حب وسلام، ولكن هذه اللعبة كلها عنف وقسوة وشراسة».

          بعد كثير من التفكير والتأمل اتخذ فهد قراره النهائي، وخرج من البيت متوجهًا إلى صديقه وليد الذي يعمل صحفيًا بجريدة «عالم الرياضة»، استقبله وليد بابتسامة عريضة، وعانقه عناقا حارًا وهو يقول في سعادة: «أهلاً بالبطل. سأكون أول صحفي ينشر خبر فوزك ببطولة العالم».

          جلس فهد صامتًا من دون أن يعلق على كلام وليد، فنظر إليه وليد نظرة استغراب وهو يقول:

          - أرى أنك مهموم بشيء. هل هذه ملامح بطل فاز أمس فقط بالضربة القاضية، وهو في طريقه الآن للعب على لقب بطل العالم؟

          - اسمع يا وليد. عندي خبر مهم أرجو أن تنشره في الصفحة الأولى من صحيفتك في صباح الغد.

          - هاتِ ما عندك يا صديقي. لعلي أحقق خبطة صحفية بفضل أخبارك الجديدة.

          - أنا قررت أن أعتزل رياضة الملاكمة.

          - ماذا تقول؟! إنك في عز مجدك، وبطولة العالم في انتظارك.

          - لا يا وليد. يكفي ما حصل لسالم. لا أريد أن أمارس العنف بعد اليوم تحت اسم الرياضة. أرجو أن تنشر هذا الكلام على لساني مع خبر استقالتي.

          - كما تحب يا فهد. لكنك فاجأتني بمفاجأة لم تكن على البال.

          في صباح اليوم التالي صدرت جريدة «عالم الرياضة»، وخبر اعتزال فهد يحتل عنوانها الرئيسي في صدر الصفحة الأولى، وتحتها صورة لفهد وهو يرتدي حلة أنيقة ورابطة عنق بدلاً من زيه الرياضي الأزرق المعتاد.

          كانت أم فهد هي الإنسان الوحيد الذي غمرته السعادة بسبب القرار الذي اتخذه ابنها، فراحت تهنئه مرة وتواسيه مرة أخرى، ثم تعود لتشجعه على أن يفكر في عمل جديد يمارسه بعد اعتزال الملاكمة.

          ظل فهد لعدة أيام يفكر في هذا الأمر وهو في حيرة شديدة. صحيح أنه اعتزل الملاكمة، ولكنه لا يريد أن يصبح بعيدا كل البعد عن الرياضة والرياضيين. لقد قضى معظم أيام حياته في عالم الرياضة، وليس من السهل عليه أن يتخذ لنفسه عملاً بعيدًا عنها. وأخيرًا توصل فهد لقرار يحقق له ما أراد، ويوفق به بين اعتزاله للملاكمة بعنفها وقسوتها والبقاء قريبًا من عالم الرياضة والرياضيين.

          خلال الأيام القليلة التالية رتب فهد كل شيء، فاشترى محلاً تجاريًا كبيرًا في قلب أكبر أسواق المدينة، ونوى أن يجعل منه أكبر محل لتجارة الأجهزة والأدوات والملابس الرياضية. وهكذا يقدم خدمة للرياضيين في كل الألعاب ويكون على اتصال بالمدربين واللاعبين كبارًا وصغارًا. ووضع فهد في محله كل ما يخطر على البال من أدوات وأجهزة، من كرات ومضارب وملابس رياضية وأثقال حديدية، وكل شيء، كل شيء، ما عدا شيئًا واحدًا، هو قفازات الملاكمة.

 



قصة: حمدي أبو كيلة