الصّينُ.. بِلادُ الْعَجائب! قصة: العربي بنجلون

الصّينُ.. بِلادُ الْعَجائب! قصة: العربي بنجلون
        

رسوم: ماهر عبدالقادر

          لَمَّا أعادَتْني الطَّائِرَةُ الْوَرَقِيَّةُ إلى الشَّاطِئِ، وَجَدْتُ أخي الصَّغيرَ يَنْتَظِرُني، فَأقْبَلَ عَلَيَّ فَرِحًا، لِيُخْبِرَني بِأنَّهُ في غِيابي مارَسَ حَرَكاتٍ رِياضِيَّةً صَعْبَةً، وتَدَرَّبَ على السِّباحَةِ والْغَوْصِ في الْماءِ، طيلَةَ الأيَّامِ الَّتي قَضَيْتُها في الْيابانِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَعُدْ طِفْلًا خائِفًا!

          قُلْتُ لَهُ باسِمًا: وبِماذا سَتُفيدُكَ الرِّياضَةُ والسِّباحَةُ والْغَوْصُ؟!.. هَلْ تَظُنُّ أنَّ طائرَتَكَ سَتُكْرِمُكَ مِثْلي بِرِحْلَةٍ إلى الْيابانِ؟

          أخَذَ مِنِّي الطَّائِرَةَ قائِلًا: اُنْظُرْ جَيِّدًا ماذا سَأَفْعَلُ!

          بَسَطَ الْوَرَقَةَ، كما كانَتْ في الأوَّلِ، وشَكَّلَ مِنْها قارِبًا صَغيرًا، ثُمَّ رَسَمَ في مُقَدِّمَتِهِ وَجْهَ طِفْلَةٍ صينِيَّةٍ جَميلَةٍ: إذا كانَتِ الطَّائِرَةُ حَمَلَتْكَ إلى الْيابانِ، بَلَدِ الاِبْتِكاراتِ الْعَجيبَةِ، فَإنَّ الْقارِبَ سَيَحْمِلُني إلى الصِّينِ بَلَدِ الاخْتِراعاتِ الْغَريبَةِ، ولَنْ أخْشى الْبَحْرَ، ولَوْ كانَ هائجًا، لأَنَّني أصْبَحْتُ أُتْقِنُ الْعَوْمَ والتَّجْديفَ...!

          في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، أخَذَ الْقارِبُ يَتَّسِعُ ويَكْبُرُ شَيْئًا فَشَيْئًا، والطِّفْلَةُ الصِّينِيَّةُ تُنادي عَلَيْهِ صائِحَةً: تَعالَ بِسُرْعَةٍ، لا تُضَيِّعْ هَذِهِ الْفُرْصَةَ!

          قَفَزَ أخي بِخِفَّةٍ إلى الْقارِبِ، فَانْطَلَقَ بِهِما حينًا، وهُما يُلَوِّحانِ بِأيْديهِما، فيما بَقيتُ أنا في مَكاني، أتَتَبَّعُهُما بِعَيْنَيَّ ذاهِلًا!

          قُلْتُ في نَفْسي: عَجَبًا!.. سَيُكْرِمُ الْقارِبُ أخي بِرِحْلَةٍ إلى الصِّينِ!

          ظَلَّ الْقارِبُ يَسيرُ في الْبَحْرِ، وكُلَّما وَصَلا إلى جَزيرَةٍ، نَزَلا بِها لِيَأْخُذا مِنْ سُكَّانِها ما يَحْتاجانِ إليه مِنْ غِذاءٍ وماءٍ. وبَعْدَ أيَّامٍ، حَلاَّ بِميناءِ شَنْغَهايْ، أكْبَرِ الْمَوانِئِ، وأكْثَرِ الْمُدُنِ الصِّينِيَّةِ سُكَّانًا، فَطَوى أخي الْقارِبَ، ووَضَعَهُ في حَقيبَتِهِ الظَّهْرِيَّةِ!

          قالَتِ الطِّفْلَةُ الصِّينِيَّةُ: إنَّ اسْمَ شَنْغَهايْ يَعْني (فَوْقَ الْبَحْرِ) وهِيَ توجَدُ عِنْدَ مَصَبِّ نهر الْيانْغْتسي، أوْ تْشانْغْ جْيانْغْ، أيْ نَهْرٌ طَويلٌ. هَيَّا نَتَجَوَّلْ في هَذِهِ الْمَدينَةِ الصِّناعِيَّةِ والتِّجارِيَّةِ، الَّتي يَأْتيها النَّاسُ مِنْ كُلِّ الدُّوَلِ الْعَرَبِيَّةِ والأُوربِّيَّةِ لِلسِّياحَةِ والتَّسَوُّقِ.

          وما إنْ خَطا أخي أولى خَطَواتِهِ، حَتَّى أصابَتْهُ دَهْشَةٌ كَبيرَةٌ رَآهُ!..فَها هِيَ أرْبَعَةُ آلافٍ وخَمْسُمِئَةِ ناطِحَةِ سَحابٍ، أيْ عِمارتٌ شاهِقَةٌ لا يَحُدُّها الْبَصَرُ، تَرْتَفِعُ بِأرْبَعِمِئَةٍ وثَمانِيَةٍ وثَمانينَ مِتْرًا، تَمْتَدُّ على جانِبَيْ شارِعِ بونْدْ الْعَريضِ، الْمُطِلِّ على النَّهْر!

          ويا لَلْغَرابَةِ، ماذا يَرى؟!.. هَذِهِ قِدْرٌ ضَخْمَةٌ، تَشْغَلُ حَياَّ كامِلًا، ولَها بابٌ كَبيرٌ ونَوافِذُ زُجاجِيَّةٌ، رُبَّما لِيَخْرُجَ مِنْها الْبُخارُ. هَلْ يَطْهونَ فيها أطْعِمَةَ سُكَّانِ الْمَدينَةِ؟.. ضَحِكَتْ مِنْها الطِّفْلَةُ: لا، إنَّها لَيْسَتْ قِدْرًا حَقيقِيَّةً، وإنَّما هِيَ مُتْحَفٌ يَتَّخِذُ شَكْلَها، ويَعْرِضُ حَوالَيْ مِئَةٍ وعِشْرينَ ألْفَ قِطْعَةٍ أثَرِيَّةٍ، طينِيَّةٍ ونُحاسِيَّةٍ وخَشَبِيَّةٍ!

          سارا قَليلًا، فقابَلَهُما أكْبَرُ بُرْجِ تِلْفازٍ في الْعالَمِ. دَخَلا إحْدى قاعاتِهِ، فَوَجَدا فيها مِئاتِ الأطْفالِ يَلْعَبونَ ويَمْرَحونَ، ويَقْرَأونَ الْكُتُبَ والْمَجَلاَّتِ، ويُمارِسونَ هِواياتِهِمُ الْمُفَضَّلَةَ. ولَيْسَ بِعَجيبٍ، لأنَّ اسْمَهُ «الْبُرْجُ الْمُعَلِّمُ» فَفيهِ يَتَعَلَّمونَ كُلَّ شَيْءٍ جَميلٍ، يُفيدُ عُقولَهُمْ وصِحَّتَهُمْ وسُلوكَهُمْ!. ولَمْ يَفُتْهُما أنْ يَزورا مَتاهَةً مُكَوَّنَةً مِنَ الشَّجَرِ والصَّخْرِ وبِرَكِ السَّمَكِ، تُسَمَّى «يْويْوانْ».. والْقَرْيَةَ الْمائِيَّةَ «جو جْوانْغَ» الَّتي تَشْتَمِلُ على آثارٍ لِقُصورٍ ودورٍ وأبْوابٍ وأقْواسٍ وساحاتٍ، تَعودُ إلى ألْفِ سَنَةٍ. وحَديقَةَ الْحَيَواناتِ، تَضُمُّ النَّادِرَ الْوُجودِ مِنْها (قَليلَها) كَالْبانْدا والْكْوالا والْقِرْدِ الذَّهَبِيِّ والنَّمِرِ والتِّمْساحِ، وهاتِ يا حَيَواناتٌ!.. سَأَلَ أخي الطِّفْلَةَ:

          ـ بِكَمْ تَبْعُدُ الْعاصِمَةُ بِيجينُ عَنْ شَنْغَهايْ؟

          ـ حَوالَيْ ألْفٍ وثَلاثَمِئَةٍ وثَمانِيَةَ عَشَرَ كيلومِتْرًا!

          تَلأْلأَتْ عَيْنا أخي دَهْشَةً: واوْ!.. مَسافَةٌ طَويلَةٌ، لا نَسْتَطيعُ قَطْعَها!

          طَمْأَنَتْهُ الطِّفْلَةُ: هُناكَ قِطارٌ فائِقُ السُّرْعَةِ، يَسيرُ مَسافَةَ خَمْسِمِئَةٍ وخَمْسينَ كيلومِتْرًا في السَّاعَةِ، أيْ تَلْزَمُنا ساعَتانِ وعِشْرونَ دَقيقَةً تَقْريبًا لِنَصِلَ إلى بِيجينَ!

          ـ إذَنْ، لِنَذْهَبْ حالًا!

          لَمْ يَشْعُرا بِطولِ الْمَسافَةِ، فَالْقِطارُ مُكَيَّفٌ، والْمَقاعِدُ مُتَباعِدَةٌ ومُريحَةٌ، وعَرَباتُهُ هادِئَةٌ، لا يُسْمَعُ فيها هَديرُ الْعَجَلاتِ، أو ِالصَّفيرُ الْمُنَبِّهُ. وبَيْنَ الْحينِ والآخَرِ، يَمُرُّ النَّادِلُ، لِيُحْضِرَ ما يَطْلُبُهُ الرُّكَّابُ مِنْ مَأْكولاتٍ ومَشْروباتٍ، وجَرائِدَ ومَجَلاَّتٍ!

          وبِمُجَرَّدِ أن تَرَجَّلا مِنَ الْقِطارِ، أدْرَكَ أخي الْفَرْقَ الْكَبيرَ بَيْنَ شَنْغَهايْ وبِيجينَ (بكين)، فَالأولى مَدينَةٌ حَديثَةٌ، والثَّانِيَةُ تاريخِيَّةٌ، يَصِفونَها بِـ«الْمَدينَةِ الْمُحَرَّمَةِ» لأنَّها كانَتْ مَقَرًاّ للإمْبَراطورِ الْحاكِمِ، وبِها مُتْحَفُ أثاثِهِ الْفاخِرِ، ومَقابِرُ كُلِّ حُكَّامِ «مينْجْ» و«تْشينْغْ» الأرْبَعَةِ والْعِشْرينَ السَّابِقينَ، لفترة 500 عاما تقريباً. وتَنْتَشِرُ، هُنا وهُناكَ، مَعابِدُ مُقَدَّسَةٌ، كَمَعْبَدِ السَّماءِ. ومَساجِدُ لا تُحْصى، أقْدَمُها «نْيوجيهْ» في شارِعِ الْبَقَرِ، يَعودُ تاريخُهُ إلى سَنَةِ 996..!

          تَوَقَّفا عِنْدَ واجِهَةِ مَكْتَبَةٍ، تَعْرِضُ أنْواعًا شَتَّى مِنَ الْكُتُبِ والْحَواسيبِ، فَقالَ أخي لِلطِّفْلَةِ مُتَأَسِّفًا: لَوْ تَعَلَّمْتُ اللُّغَةَ الصينِيَّةَ، لأَخَذْتُ مَعي كُتُبًا ومَجَلاَّتٍ لأَقْرَأَها في بَلَدي الْعَرَبِيِّ!

          اِرْتَسَمَتْ على شَفَتَيْها ابْتِسامَةٌ رَقيقَةٌ، وتَساءَلَتْ: ولِماذا تُريدُ أنْ تَتَعَلَّمَ الصِّينِيَّةَ، ونَحْنُ ما نُتَرْجِمُهُ إلى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ونَطْبَعُهُ، أكْثَرُ مِنْ أيَّ دَوْلَةٍ في الْعالَمِ!

          لَمَعَتْ عَيْناهُ تَعَجُّبًا: أحَقًاّ ما تَقولينَ أمْ تُجامِلينَني؟!

          جَذَبَتْهُ إلى الْمَكْتَبَةِ: إذا لَمْ تُصَدِّقْني، فَتَعالَ تَتَأَكَّدْ بِنَفْسِكَ!

          دَخَلا الْمَكْتَبَةَ، فَوَجَدا أطْفالًا صِغارًا وكِبارًا يَقْتَنونَ كُتُبًا مُتَنَوِّعَةً (يَخْتارونَها لِيَشْتَروها) مِنْها الصِّينِيَّةُ ومِنْها الإنْجَليزِيَّةُ ومِنْها الْعَرَبِيَّةُ. فَأخَذَ مَجْموعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ مَعَ الطِّفْلَةِ فَرِحًا بِهَذا الصَّيْدِ الثَّمينِ!

          اِلْتَفَتَتِ الطِّفْلَةُ إلى أخي: الآنَ، سَنَقْصِدُ أُعْجوبَةً مِنْ عَجائِبِ الدُّنْيا السَّبْعِ!

سور الصين العظيم

          سارَتْ بِهِما الْحافِلَةُ سِتِّينَ كيلومِتْرًا مِنْ بِيجينَ إلى مِنْطَقَةِ تْشانْغْبينْغْ. وعِنْدَما نَزَلا مِنْها، شاهَدَ أخي سورًا ضَخْمًا، فَأدْرَكَ بِفَطانَتِهِ (عَرَفَ بِنَباهَتِهِ) أنَّ الأُعْجوبَةَ الَّتي تَعْنيها الطِّفْلَةُ، هِيَ سورُ الصِّينِ الْعَظيمُ، الَّذي عَمِلَ في بِنائِهِ مِلْيونُ سَجينٍ في عَهْدِ تْشِنْ شي هْوانْجْ لي، أوَّلِ إمْبْراطورٍ بَسَطَ حُكْمَهُ على الصِّينِ كُلِّها، ما بَيْنَ سَنَتَيْ 221 و 206 قَبْلَ الْميلادِ، كما واصَلَتِ الْبِناءَ الأُسَرُ الْحاكِمَةُ في الْقُرونِ التَّالِيَةِ، لِحِمايَةِ الْبِلادِ مِنْ جُيوشِ الدُّوَلِ الأُخْرى!

          قالَ أخي مُنْبَهِرًا (حائرًا مُنْدَهِشًا): ما أعْظَمَ هذا السُّورَ!..إنَّ الْمَناظِرَ الطَّبيعِيَّةَ الْجَذَّابَةَ تُحيطُ بِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وتُغْري (تُحَبِّبُ) بِالْبَقاءِ أيَّامًا بَيْنَ جِبالِهِ الْخِصْبَةِ وأوْدِيَتِهِ الْجارِيَةِ!

          وتَقَدَّمَ إلى السُّورِ لِيَقيسَهُ بِعَيْنَيْهِ، فَلاحَظَ أعْلاهُ أضْيَقَ مِنْ قاعِدَتِهِ، إذْ يَبْلُغُ عَرْضُهُ ثَلاثَةَ أمْتارٍ وسَبْعَةَ سَنْتِيمِتْراتٍ، بَيْنَما قاعِدَتُهُ تَبْلُغُ تِسْعَةَ أمْتارٍ وسَنْتِيمِتْرًا واحِدًا. وفي كُلِّ مَسافَةِ مِئَتَيْ مِتْرٍ يوجَدُ بُرْجٌ بِطولِ اثْنَيْ عَشَرَ مِتْرًا. أمَّا طولُ السُّورِ فَيَصِلُ إلى ألْفَيْنِ وأرْبَعَمِئَةِ كيلومِتْرٍ، لَكِنَّ الطِّفْلَةَ نَبَّهَتْهُ إلى أنَّهُ يَزيدُ ويَنْقُصُ عِنْدَ اكْتِشافِ أوِ انْدِثارِ أجْزاءٍ مِنْهُ!

          وهُنا قالَ لَها بِحَماسَةٍ: هَيَّا نَحْسُبْ طولَهُ لِنَتَأَكَّدَ، ولَوْ كَلَّفَنا شُهورًا!

          وافَقَتْهُ الطِّفْلَةُ، فَسارَتْ مَعَهُ بِضْعَةَ كِيلُومِتْراتٍ، وعِنْدَما بَلَغَا أعْلى نُقْطَةٍ، داعَبَهُما هَواءٌ مُنْعِشٌ، فَأَخْرَجَ أخي مِنْ حَقيبَتِهِ الْقارِبَ الْوَرَقِيَّ، وبَسَطَهُ على حاشِيَّةِ السُّورِ، ثُمَّ طَواهُ مَرَّاتٍ، إلى أنْ شَكَّلَ مِنْهُ طائِرَةً.

          قالَتْ لَهُ الطِّفْلَةُ: ألا تُريدُ أنْ تُكْمِلَ عَدَّ طولِ السُّورِ؟

          رَدَّ ضاحِكًا: وهَلْ جُنِنْتُ، فَأَقْطَعَ بِرِجْلَيَّ مَسافَةَ ألْفَيْنِ وأرْبَعِمِئَةِ كيلومِتْرٍ فَأَكْثَرَ؟!

          سَأَلَتْهُ: وماذا سَتَفْعَلُ الآنَ؟

          رَدَّ: سَأَعودُ إلى وَطَني!.. وَداعًا أُخْتي، وإلى اللِّقاءِ!

          في ذَلِكَ الْحينِ، تَمَدَّدَ جَناحا الطَّائرَةِ يَمينًا وشِمالًا، فَوَضَعَ قَدَمَيْهِ فَوْقَهُما يُثَبِّتُهُما. ولَمْ تَلْبَثْ إلاَّ قَليلًا، وحَلَّقَتْ بِهِ في السَّماءِ الْعالِيَةِ مَعَ الطُّيورِ، عائدًا إلى الْوَطَنِ الْعَرَبِيِّ الْجَميلِ..!

 



العربي بنجلون