ارسمنا إذا أُعجبت برقصتنا!

ارسمنا إذا أُعجبت برقصتنا!
        

          يحكي الفنان التشكيلي «بول غوغان» لتاجر اللوحات الفنية «تيو فان جوخ» وهو يضع بين يديه هذه اللوحة لعرضها للبيع في متجره في باريس (فرنسا) في احد أيام شهر نوفمبر من عام 1888:

          لهذه اللوحة التي أسميتها قصة لابد أن أحكيها لك يا «تيو»... «الرقصة الدائرية لفتيات بروتان».

          فبعد مغادرتي سنة 1885 لـ «كوبنهاغ» بالدانمرك حيث تقيم أسرة زوجتي وأطفالي الخمسة، رجعت إلى باريس لانسداد أفق العمل بهذا البلد وللضائقة المالية بعد أن تركت أبنائي وزوجتي. لكنني سرعان ما غادرت باريس لأشتغل كلصَّاق للإعلانات بقرية «بون آفن» على الساحل الأطلسي (المنطقة الغربية لفرنسا)، حيث كلفة العيش زهيدة.. استأجرت غرفة في فندق عائلي. بدأت أشتغل لتوفير المال لأبعث به إلى أبنائي... تحملت البعد عنهم وانغمست في الكد والعمل... وأثناء تجوالي في أحد أيام شهر أغسطس الماضي من هذه السنة 1888، استرعت انتباهي ثلاث فتيات صغيرات، وهن يؤدين أغنية شعبية ويرقصن بشكل دائري بديع، جلست أمامهن أستمتع بشدوهن بصوت طفولي رخيم وبجمالية رقصهن... لم يتضايقن من وجودي ومتابعتي لهن، بل كن يبتسمن من حين لآخر وأنا أعبِّر لهن عن إعجابي من خلال قسمات وجهي واهتزاز رأسي.

          كن يرتدين اللباس التقليدي لمنطقة «بروتان» (غرب فرنسا)، وهو كما تعرف لباس جميل ومتميز، ووضعن على رءوسهن مناديل بيضاء لفت شعرهن بعناية، كما زين صدورهن بوردة حمراء... ألهمني هذا المشهد لرسم هذه اللوحة وتوثيق هذه اللحظة منذ اقتعادي الأرض لمتابعتهن.

          بعد أن أثنيت عليهن بالتصفيق تنويها بما قمن به، بادرتني إحداهن وهي الكبرى والأكثر جرأة -على ما يبدو- وتدعى «كاترين»:

  • هل لديك بنات لنعلمهن هذه الرقصة؟

          تنهدت عميقا وأنا أتذكر أبنائي وقد اشتقت لرؤيتهم.

          - نعم، لدي خمسة أطفال، ولدان: «كلوفيس» و«جون روني»، وثلاث بنات: «إميل»، «ألين» والصغيرة «باولا» ذات الأعوام الثلاثة الآن، ليتهم معي الآن، إنهم خارج البلاد، في الدنمارك.

  • مع كامل الأسف! وأنت ما اسمك، وما هو عملك؟

          أجبتهن: اسمي «بول غوغان»، وأعمل لصَّاقًا للإعلانات، ورسَّامًا في نفس الوقت.

  • أنت رسَّام! ارسمنا إذا أعجبتك رقصتنا.

          - أعدك وعدا صادقا... طاب مساؤكن.

          عندما التحقت مساء بغرفتي، كانت ذاكرتي البصرية محملة بما رأيت نهارا، وأردت الوفاء بوعدي من جهة، ومن جهة أخرى وجدت فيما شاهدت منظرًا جديرا بالرسم، فكان ميلاد هذه اللوحة يا «تيو» التي لم أنس فيها رسم جرو كان يرافقهن أثناء الرقص وينبح بصوت مبحوح من حين لآخر... إن لهذه اللوحة مكانة خاصة في نفسي... إنها تذكرني بالأيام الجميلة التي قضيتها في منطقة «بروتان»، والتي توثقت فيها علاقتي بصديقي الرسام «إميل برنار» الذي أسست معه اتجاها فنيا يتجاوز المدرسة «الانطباعية»... أتمنى لك ولي حظا سعيدا في بيع هذه اللوحات، إنني أستعد للسفر لـ «آرلر» لزيارة أخيك «فانسون فان جوغ» وقضاء بقية فصل الخريف معه.

 



بقلم: أحمد واحمان