مذكرات عصفورة

مذكرات عصفورة
        

رسم: مجدي نجيب

          حلَّ الخريفُ، أوراقُ الأشجارِ الصّفراءُ والبرتقاليةُ تتساقطُ فتحملها النسماتُ على أجنحتها بعيداً عن موطنها. آن أوانُ رحلتنا الفصليةِ نحو المناطقِ الدافئةِ وإذا لم نفعلْ ذلك نكنْ عرضةً للأخطارِ.

          كنا نطيرُ أسراباً تضمُّ مئاتٍ بل آلافَ الطيورِ، يقودنا بعضُ الأفرادِ ذوي الخبرةِ. وبعدَ أيامٍ منَ الطيرانِ شعرتُ بالتعبِ، وقبلَ أن أهوي نحو الأرضِ استأذنتُ قائدَ السّربِ لتمضيةِ بعضَ الوقتِ في المنطقةِ التي نمرُّ فوقها، ثم ألحقُ بهم حينَ استعيدُ قدرتي على الطيرانِ. وكانتِ المنطقةُ عبارةً عن قريةٍ صغيرةٍ بيوتها من الطينِ تحيطُ بها البساتينُ، وتسطعُ شمسها منذُ ساعاتِ الصّباحِ فتمنحها الدفءَ والجمالَ. لكن التعبَ والنعاسَ أخذا مني مأخذاً فرحتُ في سُباتٍ عميقٍ، وحين نهضتُ كانتْ إشراقةُ شمسُ اليومِ التالي، وكنتُ أتضورُ جوعاً، نظرتُ إلى السّماءِ فلم أجدْ أثراً لرفاقي وكانتِ المسافةُ قد صارتْ بيننا أياماً فخشيتُ أن أتوه أو أكونَ وجبةً شهيةً لأحدِ الطيورِ الجارحةِ.

          بحثتُ عن طعامٍ أقوّي به جسمي فوجدتُ في إحدى الحواكيرِ القريبةِ بعضَ ثمارِ التينِ والعنبِ، تناولتُ بعضاً منها. وكنتُ حزينةً لأنني فقدتُ أهلي وأصدقائي، وسأضطرُ لانتظارِ عودتهم فصلاً كاملاً وربما فصلين. كنتُ أفكرُ بهم، تراودني الأحلامُ الجميلةُ بلقائهم لنطيرَ معاً ضمنَ السّربِ إلى الجنوبِ حيثُ الدفءُ والغذاءُ والمأوى، لكنني مع مرورِ الوقتِ فقدتُ الأملَ في اللحاقِ بهم، فقررتُ أن أنتظرهم حتى موسمِ العودةِ، كنتُ محظوظةً فقد كانَ الخيرُ في هذه القريةِ وفيراً.

          كونتُ صداقاتٍ مع الطيورِ الموجودةِ على أشجارِ الحواكير، وحين حلَّ الشّتاءُ وهو كما تعلمون طويلٌ ببرده وثلوجه، قلقتُ كيفَ سأحمي نفسي منه؟ فطمأنني الأصدقاءُ أن بيوتَ القريةِ دافئةٌ وسنجدُ مأوى تحتَ شرفاتها الطينيةِ. تحسّنتْ أحوالي وأصبحتْ علاقتي جيدةً مع الطيورِ حتى الأليفةِ منها (الدجاج والحمام  والبط وغيرها), وكثيراً ما كنا نتشاركُ الطعامَ معها فقد كانَ وفيراً حيثُ تقدّمُ تلك الفلاحةُ الطيبةُ وجباتٍ شهيةً من الحبوبِ وفتاتِ الخبزِ.

          أخذتْ حياتي طريقها نحو الاستقرارِ تدريجياً، حاولوا إقناعي بالبقاءِ والبدءِ بحياة جديدةِ، أبني على إحدى الأشجارِ أو تحتَ إحدى الشّرفاتِ عشاً مع أحدِ الطيورِ الصّديقةِ وننجبُ جيلاً جديداً من العصافيرِ, رفضتُ رغمَ أن نداءَ الأمومة يلحُ علي كثيراً. لكن ومع مرورِ كلِّ هذا الزمنِ لم ينسني أصدقائي وبلدي، شوقي يزدادُ للقائهم كلَّ يومٍ.

          وذاتَ صباحٍ وبينما كنا نتسامرُ على أحدِ الأغصانِ التي اكتستْ بالأوراقِ الخضراءِ، عذراً فقد كدتُ أنسى أن أخبركم بأن فصلَ الربيعِ قد حلَّ ونشرَ عباءته على الطبيعةِ فارتدتْ ثوبها السندسي, وكما قلتُ سابقاً بينما كنا نتسامرُ سمعتُ جلبةً قويةً في الجو كانتْ تقتربُ من سماءِ القريةِ، عرفتهم إنهم أهلي وإنهم في طريقِ العودةِ، فطلبتُ من أصدقائي مرافقتي للتعرفِ عليهم واستقبالهم، كانتِ السّعادةُ تغمرني بعودتهم، وكانوا سعداءَ لأنني لاأزالُ على قيدِ الحياةِ.

          شكرتُ أصدقائي الجددَ على كلِّ ما قدّموه لي من محبةٍ واهتمامٍ، ثم ودّعتهم  متمنيةً لهم حياةً ملؤها السّعادةُ والأمانُ، واتفقنا على أن نلتقي في موسمِ الهجرةِ القادمِ حينَ نتجهُ نحو الجنوبِ، وهكذا عدتُ سعيدةً مع أهلي إلى وطني دونَ أن أنسى ضيافةَ طيورِ تلك القريةِ الجميلةِ.

 



حسنة محمود