حكايات من الكويت: فبراير.. شهر الحرية في الكويت (هدية العدد)

حكايات من الكويت: فبراير.. شهر الحرية في الكويت (هدية العدد)
        

رسوم: صباح كلا

          في كل عام يحتفل شعب الكويت فيه بيومين:

          25 فبراير.. ذكرى يوم الاستقلال.. حين استقلت الكويت من معاهدة الحماية التي كانت تربطها ببريطانيا وأصبحت دولة لها إرادتها الحرة وعلمها الخاص ومقعدها في الأمم المتحدة.. إنه تاريخ بعيد بعض الشيء يذكره الآباء والأجداد.

          26 فبراير.. ذكرى يوم التحرير.. عندما تخلصت الكويت من آثار الاحتلال الغاشم الذي قامت به قوات النظام العراقي السابق على أراضيها  في 2 أغسطس عام 1990، وقد دام الاحتلال سبعة شهور كاملة قبل أن يأتي هذا اليوم الموعود، يوم يذكره الأبناء الذين أصبحوا كبارا الآن.

          لقد تخلصت الكويت من آثار هذه المحنة، وأعادت بناء نفسها، وعاد السلام والأمان يرفرفان على ربوعها (كل مكان فيها)، ولكن تبقى الحكايات والمعاني التي تمثلها هذه الدولة في موقعها على ضفاف الخليج، فهي جغرافيًا في أطراف الوطن العربي، ولكنها بالفعل والدور الذي تقوم به في قلب هذا الوطن العربي، وهذه الحكايات من التاريخ ومن الحاضر، ومن التجربة الإنسانية التي عاشها أهل الكويت في هذه البقعة من الأرض.

كلمة الله في الكويت

          الإسلام هو الدين الرسمي للكويت،  الذي تتمتع به أغلبية شعبها، وقد نصت المادة الثانية من دستور الكويت على أن الدين الرسمي للكويت هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي لكل ما فيها من قوانين بعد أن أكدت المادة الأولى من الدستور على أن الكويت دولة عربية، وشعبها جزء من الأمة العربية.

          وهناك قصة تروى حول دخول الإسلام للكويت..

          في السنة السابعة من الهجرة خرج جيش من المسلمين يحملون راية الله، يقودهم واحد من صحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو «أبو العلاء الحضرمي»، وكما يدل عليه اسمه، فقد جاء من «حضرموت» جنوب الصحراء العربية، وكان من أعرف الناس بمنطقة الخليج وقبائلها، لذلك حمّله الرسول الكريم رسالة إلى حاكم البحرين المنذر بن ساوي، يدعوه فيها  للدخول في دين الإسلام هو وقومه.

          كان اسم «البحرين» يطلق على منطقة واسعة، تمتد من حدود العراق شمالاً إلى آخر حدود قطر جنوبًا، وكانت الكويت التي عرفت قديما باسم «كاظمة» تقع وسط  هذه الصحراء الممتدة، ولم يكن «المنذر بن ساوي» حاكمًا حقيقيًا لهذه المنطقة، ولكنه كان تابعًا لملوك فارس الذين كانوا يسيطرون على إمبراطورية واسعة، وكانت الرسالة التي يحملها أبوالعلاء الحضرمي إليه وإلى قومه من القبائل العربية تعني استقلالهم عن نفوذ الفرس، واستردادهم لكرامتهم.

          ولكن الأمور لم تسر على ما يرام..

          تاه جيش المسلمين في الدهناء، وهي الصحراء الجافة التي لا توجد فيها قطرة ماء، ومع ذلك واصل الجيش سيره، وظل الجنود يقاومون ولا يشربون إلا قطرات ضئيلة حتى نفد الماء الذي كانوا يحملونه، ثم هبطت عاصفة رملية جعلت الإبل تشرد (بعدت عن الطريق) بعيدًا بما عليها من متاع وزاد، وامتدت الصحراء مثل فخ من المستحيل الخلاص منه. ولم يخيم الغم على قوم مثلما خيم عليهم، خاصة بعد أن أصبح قائدهم أبو العلاء الحضرمي مريضًا، يسير في مقدمة الجند متحاملا على نفسه، وبجانبه صاحبه أبو هريرة يعانيان معًا من المرض والجوع والعطش.

          كان الجنود يرتعدون تحت برد الليل، ويختنقون تحت وهج الشمس في النهار، ويخوضون متاهة من الرمال الجدباء لا قوت فيها حتى للغربان، وعندما بدأت تباشير الفجر، وقف أبو العلاء الحضرمي يخطب فيهم قائلاً:

          - أيها الناس لا تخافوا ولا تجزعوا، ألستم مسلمين، ألم تخرجوا جميعا في سبيل الله، الله إذن يتولاكم وهو رحيم بكم.

          نادى المؤذن لصلاة الفجر، كان في الجنود من بقي على طهوره من الليلة الماضية، ومنهم من تيمَّم بالرمل، وقاموا جميعهم للصلاة، وبدأت الشمس رحلة صعودها فواصلوا السير، ثم توقفوا جميعا في عجز، وقال أبو هريرة:

          - نحن في حاجة إلى معجزة.

          ولكن الشمس واصلت ارتفاعها، ولمعت على حافة الأفق لمعة غريبة، قالوا لبعضهم:

          - لعن الله السراب.

          وظلوا هامدين، ثم لمع السراب مرة أخرى. صعد رجل فوق تل مرتفع، وصاح بأعلى صوته: ماااااء، ولكن الدليل الذي يقود الجنود وهو أعرف أهل البلاد بها،  قال لهم ساخرًا:

          - ماء وسط الصحراء، كالثلج في قلب الجحيم.

          ولكن الرجل الذي رأى الماء هبط من فوق التل وأخذ يعدو كالمجنون، لم يكن يسعى وراء سراب هذه المرة، كانت هناك عين ماء حقيقية، تنبثق من جوف الرمل الجاف وتنساب في ينبوع عذب، أحس الجنود بالحياة تعود إلى عروقهم، أخذوا يشربون ويهيلون (يرشون) الماء على رؤوسهم ويملأون قرابهم الجافة.

          وبعد برهة (وقت قصير) ارتفع غبار في الجو، ونظر الجنود في حذر خوفًا من أن يباغتهم أي هجوم، ولكنهم وجدوا الإبل الشاردة عائدة بما عليها من أحمال، لم يفقد منها شيء.

          وواصل الجيش سيره ولكن أبا هريرة تذكر فجأة أنه نسي قربته الجلدية الوحيدة بجانب الماء، فقال له الدليل:

          - أنا أدرى الناس بهذه البلاد، دعني أعد بك إلى عين الماء.

          وانتهزا فرصة راحة الجيش وعادا معًا، هبطا إلى نفس الوادي، ولكن لم تكن هناك عين، ولم تكن هناك قطرة واحدة من الماء، وهتف الدليل في حيرة:

          - هذا هو المكان وأقسم على ذلك، نفس الصخور، ونفس تضاريس الرمال، إلا أنه لا أثر للماء.

          تلفتا حولهما في حيرة، أشار أبو هريرة إلى قربة الماء، كانت لاتزال موجودة ممتلئة بالماء حتى آخرها، تماما كما وضعها أبو هريرة على حافة الغدير، إلا أنه ليس هناك غدير، وصمت أبو هريرة برهة ثم قال:

          - كنت أعرف أنه لا توجد عين في هذه المنطقة، وأن ما سقينا منه كان آية من آيات الله.

          وعادا أدراجهما (المكان الذي جاءا منه)..

          يؤكد العديد من المؤرخين أن هذا المكان الذي نبعت منه عين الماء كان في منطقة «الجهراء» وهي من أقدم مناطق الكويت، وقد تم  فيها اكتشاف آثار العديد من الآبار القديمة، وأن الله قد رعى هذا البلد ووهبه نعمه الوفيرة، لأنه ذات يوم أنقذ جيش المسلمين من الهلاك. ولايزال الخير موصولاً في أهل الكويت إلى الآن.. والدليل على ذلك تلك القصة المستقاة من الواقع التي ستجدها في السطور القادمة، وهي ليست قديمة ولكنها حكاية من تاريخ الكويت المعاصر.

نحنُ قومٌ..  نخاف الله

          رغم طبيعتها الحارة، وصعوبة العيش بها، كانت الكويت هي الملجأ الآمن للقبائل العربية التي تبحث عن الاستقرار، فقد كانت الصراعات بين القبائل البدوية في جوف الصحراء لا تهدأ، وكان موقع الكويت على الخليج يوفر لها ميزات كثيرة، فهي ميناء بحري ترسو فيه السفن، وممر بري تعبر منه القوافل إلى بقية جزيرة العرب وبلاد العراق والشام، وكانت مياه الخليج بها عامرة بالثروة السمكية ومحارات اللؤلؤ، كل هذا جعل منها مكانًا مستقرًا وصالحًا للعيش، وقد برزت الكويت كدولة من منتصف القرن السابع عشر عندما تحولت من قرية صغيرة، إلى مدينة متسعة، ثم إلى إمارة مستقلة بنفسها. ولكن جزيرة «فيلكا»، التي تبعد عن الشــــاطئ الكويتي نحو 20 كيلو مترا، قد شهدت تاريخًا أبعد من ذلك، وتم فيها اكتشاف آثار لمدينتين من العصر البرونزي، ويؤكد علماء الآثار أنها كانت مركزًا مهمًا للتجارة يربط بين حضارة بلاد الرافدين والهند. وقد أدرك شعب الكويت، الذي تكون عبر العديد من هجرات القبائل، أنه لا مكان للصراع في المنطقة التي يعيش فيها، فالحياة صعبة بما يكفي، الماء قليل، والأرض لا تعطي بسخاء، ومهنة الغوص بحثًا عن اللؤلؤ واحدة من أشق المهن، لذلك كان لا بد لهم من التكاتف والتكافل بينهم جميعًا. ومنَّ الله على أهل الكويت بالخير واكتشفت آبار النفط في عام 1935 فلم ينسوا أيام الشقاء، وظلوا على نفس دأبهم في تقديم الخير للآخرين. وعندما حدث غزو النظام العراقي السابق اضطرت الحكومة الكويتية إلى نقل مقرها إلى مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية، من هناك كانت تدار العملية السياسية المصاحبة لحرب التحرير، وكانت هناك العديد من الاجتماعات بين سمو الأمير والمسئولين ورجالات الكويت للاطمئنان على أحوال الكويتيين داخل الكويت وخارجها، ولكن في هذا اليوم كان يتم التجهيز لاجتماع جديد، لا يناقش أمور الحرب والتعبئة، ولكنه اجتماع  للجمعيات الخيرية التي كانت تعمل في الكويت قبل الغزو، لتجيب عن سؤال محدد.. ماذا نفعل؟

          كانت هذه الجمعيات تقوم بمشروعات عديدة في بعض من دول العالم خاصة في آسيا وإفريقيا.. إنشاء المساجد والمدارس، حفر آبار المياه العذبة، كفالة الأطفال اليتامى، تقديم المعونات للمحتاجين وضحايا الكوارث، عيادات طبية، مستشفيات، شبكة من الأعمال والمشروعات التي لا يعلم بها أحد، وكان هناك المئات، بل الآلاف من فقراء المسلمين يعتمدون على هذه المشروعات، ولكن الغزو العراقي كان بمنزلة الكارثة التي أصابت الجميع، لم يفقد الكويتيين بلدهم فقط، ولكن آلاف المحتاجين فقدوا أيادي العون التي كانت تمتد إليهم في الأزمات.

          وفي الاجتماع تعالت الأصوات المحتجة:  كيف يمكن أن نقدم العون للآخرين ونحن في أمس الحاجة إليه؟ الاقتصاد الكويتي معطل، وتكلفة الحرب باهظة، وأهل الكويت متناثرون في كل مكان؟

          وفي المقابل تعالت أصوات أخرى تعارضهم:  ولكن هؤلاء الناس يعتمدون علينا، أيتام ومطلقات وأرامل، وماذا عن المشروعات التي أقمناها، إذا تخلينا عنها فسوف تخرب ومن الصعب استعادتها وتشغيلها مرة أخرى؟

          طالت المناقشات، ولكن حب الخير انتصر في النهاية، قرر أهل الكويت عدم إيقاف أي واحد من هذه المشروعات الخيرية، وسوف يتم دعمها كما كانت قبل الحرب، ولن يقصر أحد في سبل الخير التي يسعى إليها.

          وعلى باب المؤتمر سأل أحد الصحفيين، أحد رجالات الكويت المشاركين في المؤتمر: ألم تخافوا من زيادة حجم الأعباء المالية بسبب إصراركم على استمرار تقديم هذه المعونات؟

          قال الرجل: نحن قوم نخاف الله أولاً.

الوطن يسع الجميع

          وهذه قصة أخرى حقيقية من أيام الغزو والاحتلال.. رواها لي الرجل الذي عايشها، زميل في مجلة العربي اسمه حمدي أبوزيد، ويعمل مديرًا ماليًا للمجلة.

          كان حمدي واحدًا من الذين رفضوا مغادرة الكويت وقت الغزو، لقد فضَّل أن يعيش مع رفاقه وأصدقائه رغم أن الظروف كانت بالغة الخطورة، كان الطعام شحيحًا، وجنود الغزو يقتلون ويقبضون على الناس لمجرد الشبهة، ومع ذلك فضل البقاء.

          في ذات يوم فوجئ حمدي بمن يطرق على باب بيته، كان القادم واحدًا من الأصدقاء،  يحمل في يده قفصًا مليئًا بعصافير الجنة الزاهية الألوان، قال:

          - أنا مسافر اليوم، لم تعد الكويت آمنة علي ولا على أولادي، ولكني لا أستطيع أن آخذ هذه الطيور معي، ولا استطيع أن أتركها تموت جوعًا.. لذلك جئت بها إليك لتقوم برعايتها..

          دُهش حمدي من هذا الطلب، لم يكن قد اقتني طيورًا أو حيوانات من قبل، ولكنه لم يستطع أن يرفض استضافة هذه الطيور المستأنسة، فهو يعرف أنها لو تركت أو حتى أطلق سراحها فسوف تموت، لذلك أخذ القفص وودَّع صديقه، ووضع الطيور في أحد الأركان وانتظر أن تغني، فلم تغن، كان الزمن صعبًا على الجميع.. 

          ولا يدري حمدي كيف انتشر الخبر، فبعد أيام قليلة فوجئ بزائر آخر يحمل قفصًا فيه ببغاء ملون، يرجو منه أن يقبله حتى لا يموت بسبب رحيله، وفي يوم آخر جاء قفص فيه مجموعة طيور الكناري الصفراء، ثم جاءت سلحفاة ظهرها مطلي بالألوان، وقطة فارسية بيضاء وأطرافها سوداء، وكلب صغير ذو فراء كثيف، ظل جالسًا في أحد الأركان خائفًا من القطة. تحوّل بيت أبوزيد إلى حديقة حيوانات صغيرة، وكانت المشكلة التي تواجه حمدي كل صباح.. كيف يطعم كل هذه المخلوقات البريئة وهو لا يجد طعامًا لنفسه؟ كانت نقوده قد نفدت منذ زمن، واختفت الأطعمة من الأسواق والمحلات، وبدأت الطيور التي كان صوتها خافتًا تصدر أصواتًا عالية وتتحرك في عصبية لتعبر عن جوعها..  

          خرج أبوزيد من البيت حائرًا ويائسًا، تجوَّل في شوارع الكويت الخالية على غير هدى، كل ما فعله أنه كان يحاول أن يتجنب الحواجز ونقاط السيطرة التي يقف عليها جنود الاحتلال، وفي إحدى الضواحي الهادئة، شاهد واحدًا من رجال لجان التكافل، عرفه على الفور وهو يشاهده يتسلل في حذر ويدق باب أحد البيوت، ويسلم المساعدات التي يحملها بسرعة إلى أهل البيت.

          كانت هذه اللجان الشعبية تعمل بطريقة سرية رغم أنف الاحتلال، وكانت مهمتها تقديم المساعدات إلى المرابطين الذين فضلوا البقاء في الكويت، وعندما كان الرجل يستعد للانصراف وقف حمدي في طريقه وهو يلقي عليه السلام، رد الرجل السلام وهو يتأمله،  لم يدر حمدي ماذا يقول، عزت عليه نفسه أن يطلب المساعدة، ولكن الرجل  بادره بالقول:  هل أنت بحاجة إلى المعونة يا أخي؟

          قال حمدي: لست وحدي.. هناك من يحتاج إليها أكثر مني.

          تساءل الرجل: تعني أن هناك أشخاصًا آخرين؟

          قال حمدي: ربما من الأفضل أن تأتي معي وترى بنفسك.

          سارا معا إلى المنزل، وما أن فتح الباب حتى حدَّق الرجل مذهولاً فيما يراه:

          - يارب السموات.. أنت تملك غابة صغيرة..

          وحكى له حمدي في كلمات قليلة كيف تجمعت كل هذه المخلوقات من حوله، والمشكلة التي يواجهها، وقال:  أستطيع أن أتحمل الجوع.. ولكن هذه المخلوقات لن تتحمل.

          قال الرجل: أعرف ذلك، ولكننا نواجه صعوبات كبيرة في توفير الطعام للناس..

          قال حمدي: هل سنتركها تموت؟

          قال الرجل: كلا.. كل من يعيش على هذه الأرض من حقه الحياة.. سأخبر زملائي في اللجنة وسنعمل جميعًا على إنقاذها.

          وبرَّ الرجل بوعده وواصل إحضار الطعام بانتظام، ونجت غابة حمدي الصغيرة من الموت.

قصرُ السِيف العامرُ.. لو دامت لغيرك..

          -  كيف يمكن أن تطل الخيول على هذا المنظر الجميل للبحر بينما يقع بيت الحاكم بجانب السوق .. وسط زحام المدينة؟

          هكذا كان يفكر الشيخ مبارك الصباح وهو يتأمل إسطبل الخيول الذي يطل على البحر، بجانب الميناء، كان هو الحاكم السابع للكويت، وكان أهلها يجلونه (يحترمونه ويقدرونه) ويطلقون عليه «مبارك الكبير» فقد توسعت الكويت في عهده واكتسبت أهمية اقتصادية كبرى، وأصبح الأسطول الكويتي يربط بين الهند وشرق إفريقيا، والجزيرة العربية والعراق، كما أن العديد من الشخصيات المهمة ورجال السياسة والرحّالة كانوا يحرصون على زيارة الكويت، وشعر الشيخ بأن دولته البازغة في حاجة إلى قصر يكون رمزًا للحكم، ولذلك كان قراره بنقل إسطبل الخيل الذي كان يشوه منظر المدينة بعيدًا عن فرضة البحر (مكان وقوف السفن) التي ترسو فيها السفن وان يبني مكانه القصر.

          ولم يستمد القصر اسمه من سلاح السيف كما يتبادر للذهن، ولكن لأنه يقع على سِيف البحر، وهو الاسم الذي يطلقه أهل الكويت على ساحل البحر، وبدأت عملية البناء في عام 1907، واستخدمت فيه المواد البسيطة نفسها التي يبني بها أهل الكويت منازلهم، الطين وأحجار البحر والخشب، وأخذ القصر الطابع  الإسلامي في المعمار والزخارف والأبهاء والأقواس ومازال محافظًا على هذا الطابع حتى الآن.

          وعندما تولى الشيخ سالم المبارك الحكم أضاف له أجنحة جديدة، وأمر بوضع حكمة على بوابة القصر مازالت موجودة حتى الآن: «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك»، وهي كلمات إن دلت على شيء فعلى تواضع ساكني هذا القصر، ومازال القصر يتميز ببرج صغير يطل على البحر، وفي نهايته قبة مطلية بصفائح من الذهب الخالص، وتحتوي على ساعة ذات أجراس يستطيع سماعها كل من يسير في شارع الخليج، وقد أصبح قصر السيف رمزًا للدولة، ومقرًا للأمير حاكم الكويت من آل الصباح، وعمر القصر الآن يقارب مائة وأربع سنوات، ولكن عمر إمارة آل الصباح للكويت أقدم من ذلك بكثير..

          في عام 1752 هاجر آل الصباح من قبيلة العتوب إلى الكويت قادمين من نجد، وكانت الكويت قرية صغيرة يسكنها جمع من الصيادين والتجار، يعانون من الغارات الكثيرة التي يشنها عليهم البدو وقطاع الطرق، كانوا في حاجة إلى مَن يحميهم ويوفر لهم الأمان، وهكذا تم عقد اتفاق بين أهل الكويت وآل الصباح على أن يتولوا حمايتها  والدفاع عنها، واتفق الجميع على اختيار الشيخ صباح بن جابر بن سليمان حاكمًا على الكويت، وكان هو الحاكم الأول، وقد أوفى آل الصباح بميثاقهم مع الأهالي، فقد استطاعوا، ليس فقط مقاومة غزوات البدو، ولكن المحافظة على استقلال الكويت وسط القوى الكبرى التي كانت تتحكم في المنطقة: الإنجليز من ناحية، والعثمانيون من الناحية الأخرى، وأصبح للكويت بعد ربع قرن فقط أسطول من السفن يخرج للصيد والتجارة والبحث عن اللؤلؤ، وقد بلغ عدد حكام الكويت من آل الصباح 15 حاكمًا، آخرهم، وليس الأخير، الأمير الحالي سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح.

          ومثلما تطورت الكويت، تطور قصر السيف واتسعت مساحته وأضيفت له أبنية جديدة، ولكن سنوات الثمانينيات كانت شؤما على هذا القصر الأثري، فقد دمره حريق بسبب من ماس كهربائي، وقبل أن يكتمل إعادة بنائه  مرة أخرى، داهمه الغزو العراقي ليدمر ما تم إنجازه، وخرّبوه، ودمرت واجهة القصر، وقصفت كلمات التواضع التي كانت مكتوبة على بوابته، وتهاوى برج الساعة الشهير.

          وتحرر «قصر السِيف» أيضًا مع تحرير الكويت، عادت إليه يد البناء لتعيد تعميره من جديد،  توسع القصر العتيد ليشمل الديوان الأميري وديوان ولي العهد وديوان مجلس الوزراء، واستعاد بهاءه القديم، فقد احتفظ مبناه الخارجي بشكل العمارة الخليجية، وعادت الزخارف الإسلامية إلى داخله في شكل الأقواس والأروقة، واكتست الجدران بالمنمنمات الفارسية وقطع الفسيفساء الزرقاء، وتدلت من الأسقف الثريات ذات الطابع الأندلسي التي تنير أبهاءه، وأصبح قصر السيف واحدًا من أجمل القصور ذات المعمار العربي على مستوى العالم.

جابر العيش

          «العيش» في لغة أهل الكويت هو الأرز، ولا تكاد وجبة تخلو منه، فلماذا ربط الكويتيون اسم حاكمهم بهذا النوع من الطعام؟

          كان جابر بن عبدالله الصباح هو الحاكم الثالث للكويت، تولى الحكم عام 1814 في فترة مضطربة مليئة بالفتن والحروب، ولكنه كان عاقلاً حكيمًا وبالغ الكرم، ومازال أهل الكويت يضربون المثل بكرمه ويقولون كأنه حاتم الطائي وقد عاد من جديد، فقد كان شديد الإحساس بالمساكين والفقراء، وأقام من أجلهم أول مائدة مجانية دائمة.

          في كل يوم كان طباخ الشيخ الخاص يخرج من القصر ومعه مساعدوه وهم يجرون عربة صغيرة، عليها أكياس الأرز أو العيش والدهن، وأوانٍ ضخمة من النحاس، يذهبون إلى مكان مخصص في منتصف السوق حيث يبدأون عملية الطهي، وعند الظهر تكون رائحة العيش المطهي قد ملأت أنوف كل من في السوق، ويهرع إليها كل الجوعى، البائعون والحمالون والغرباء وعابرو السبيل والمسافرون وحداة القوافل والشحاذون والأطفال الصغار، كانت هذه الوجبة المجانية الساخنة، لا تنقطع في أيام الحر أو البرد، ومهما كانت المصاعب الداخلية التي يمر بها الشيخ، ومهما كان الدخل قليلاً، وكان الدخل قليلاً بالفعل لأن معظمه يأتي من مكوس  (عوائد) الجمارك والقوافل العابرة، ولكن جابر العيش لم يقطع وجبته الساخنة.

          تأخرت فقط ذات يوم.. عندما دخل عليه الطباخ صائحًا:

          - لقد سرقونا ياسيدي.. سرقوا منا العيش.

          قال الشيخ جابر مندهشًا: كيف.. ماذا حدث؟

          قال الطباخ:

          - ذهبت إلى السوق ومعي جوالان من العيش، ثم رأيت صديقًا قديما.. قادما مع إحدى القوافل، سرت معه قليلاً إلى المكان الذي يضع فيه بضاعته، اقسم أنني لم أذهب بعيدًا ولم اغب طويلاً، ولكن حين عدت لم أجد الجوالين.

          وكان الشيخ جابر حليمًا فلم يبد أي مظهر للغضب، قال للطباخ:

          - خذ جوالين آخرين.. وأسرع بالطهي .. لا أريد للناس أن يعتقدوا أننا قد قصرنا في حقهم. وانصرف الطباخ ولكن الشيخ لم يكف عن التفكير، من ذا الذي تجرأ على سرقة «عيش» حاكم البلاد، هذا اللص لم يعتدِ فقط على فعله للخير، ولكنه اعتدى على سلطته وعلى هيبته، ماذا سيقول الأعداء المتربصون به إذا عرفوا أنه فقد هيبته بين الرعية، منذ أيام قليلة كان المندوب الإنجليزي قد جاء لمقابلته ومعه وفد كبير، طلبوا منه أن يرفع العلم الإنجليزي على أرض الكويت حتى يعرف الجميع بولائه للإمبراطورية البريطانية، ولكنه رفض ذلك، ورفض أيضًا أن يسمح لهم بإقامة أي نوع من المباني داخل الكويت، ماذا سيقولون إذا عرفوا أن أحدهم سرق أجولة الأرز التي يهبها للفقراء؟

          لم يخبر الشيخ أحدًا بما حدث، لم يستدع صاحب الشرطة، ولكنه خرج وحيدًا من بيته، وأخذ يطوف بالأسواق، اطمأن على أن الوجبة قد أعدت، متأخرة قليلاً ولكن أفضل من ألا تأتي، ظل يدور في الشوارع القريبة من السوق، وفي كل مرة يتوقف ويرفع رأسه للسماء متأملاً، وأخيرا وجد الإشارة التي كان يبحث عنها، أسرع في السير، دار وسط الحواري حتى توقف أمام أحد البيوت ودقَّ الباب بطرف عصاه، وعندما فتح الباب وشاهد صاحب البيت الشيخ جابر شخصيًا، فاضطرب وتراجع مرتبكاً، وقال الشيخ في هدوء:

          - لقد جئت استرد جوالي العيش اللذين سرقتهما.

          كان الجوالان بالفعل في فناء المنزل، بجانبها عربة صغيرة من الواضح أنه استخدمها في السرقة، كان واحد من الجوالين مفتوحًا، والرجل قد بدأ يقسم الأرز الذي فيه إلى أكوام متساوية، وظل الرجل واقفا مذهولا، وقال الشيخ:

          - أعد الجوالين كما كانا واحملهما للمكان الذي سرقتهما منه، وبعد ذلك ستنال عقابك..

          كان الرجل يرتعد وهو يرى وجه الشيخ الغاضب، ولكنه قال أخيرًا بصوت مضطرب:

          - أنا آسف حقا يا سيدي.. سأفعل كل ما تأمر به.. ولكن كيف عرفت مكاني..؟

          أشار الشيخ إلى السماء التي كانت مزدحمة بالطيور التي تحوم فوق المنزل وهو يقول:

          -  الطيور قادتني إليك.

صباح جديد

          دقة خافتة على الباب.. رنة جرس قصيرة.. لمسة من أصابع لا تريد أن تزعج أحدًا، زائر خفيف الوطأة، وعندما يفتـــــح صاحب البيت يفاجأ بأن زائره هــــو أبو ناصر.. الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح.

          هكذا يدخل الشيخ في هدوء إلى «الديوانية»، دون ضجة أو احتياطات أمنية ضخمة، يجلس مع الحضور ويشاركهم الحديث في بساطة ودون تكلف، يسمع أكثر مما يتكلم، ويتأمل كل ما حوله بعيون يقظة وذاكرة حساسة، وقد جعله هذا الأمر شديد القرب من أهل الكويت، يعرف مشكلاتهم وأمانيهم وانتقاداتهم أيضًا.

          فالديوانية أو المجلس هي عادة تفرّد بها أهل الكويت، برلمان شعبي مصغر، يتساوى فيه الجميع ويتم مناقشة أي موضوع، في كل مساء يجتمع الأصدقاء والمعارف في أي مجلس خاص داخل البيت ليعقدوا الديوانية، هناك أنواع كثيرة من هذه الديوانيات، نوع للأصدقاء وأفراد العائلة الواحدة، ونوع آخر تتم فيه الأعمال وتناقش فيه الأمور السياسية، وأحيانا ما تكون الديوانية فرصة لتداول المعلومات والأخبار السياسية قبل نشرها في الصحف، وإبرام الاتفاقيات والعقود بين رجال الأعمال، وحل الخلافات الشخصية، وهي تفتح مجالاً للأصدقاء لتبادل التهاني والتعازي والتصالح.

          من هذا المصدر الغني بالمعلومات كان الشيخ صباح يعرف نبض الشارع الكويتي على الطبيعة، مباشرة ومن دون وسيط..

          ومثلما كان الشيخ صباح يعرف الكويت من الداخل جيدًا.. كان يعرف العالم الخارجي بنفس الدرجة، وربما لا يوجد سياسي معاصر يفهم العالم وتعقيداته الدولية كما يفهمها هو، فقد جعلته أعباء مناصبه كوزير للخارجية لسنوات طويلة يطوف بالدول كلها ويتعرف عليها عن قرب، وقد أصبح عميدًا لكل وزراء الخارجية في العالم وعاين عن قرب كل الأزمات والمشكلات الدولية.

          في هذا الشهر تمر خمسة أعوام على تولي سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح مقاليد الحكم في الكويت، وهو الأمير الخامس عشر في تاريخها، والحاكم الرابع الذي يحمل اسم صباح، لذلك يمكن أن نطلق عليه صباح الرابع، وحين  تولى الحكم في يوم 29 يناير عام 2006 قال الجميع: لقد أشرق على الكويت صباح جديد.

          إنه أمير الابتسامة التي لا تغيب عن وجهه أبدًا، رغم أنه يعمل بدأب وجهد عظيمين، ولا يوجد منصب تولى إدارته إلا وترك عليه بصمة كبرى، فهو واحد من الرجال الكبار الذين قاموا ببناء الدولة الحديثة في الكويت.

          في صدر شبابه في الخمسينيات عندما تولى دائرة الشئون الاجتماعية قام باستحداث مراكز للتدريب الفني والمهني من أجل فتح فرص العمل أمام الشباب واهتم بإنشاء الأندية الرياضية والجمعيات النسائية ورعاية الطفولة والأمومة ورعى فن المسرح.

          وعندما تولى عمله في دائرة المطبوعات والنشر قام بإنشاء مطبعة الحكومة التي قامت بدور كبير في خدمة الثقافة العربية، لا في الكويت فقط ولكن في العالم العربي أيضًا، فقد أصدرت مجلة «العربي»، ونشرت أهم كتب التراث العربي، وطبعت العديد من السلاسل الثقافية المهمة.

          وبعد استقلال الكويت في عام 1961 تحولت الدوائر الحكومية إلى وزارات، وتولى الشيخ صباح وزارة الإرشاد والأنباء فساهم في تطوير وسائل الإعلام وأصبحت الوزارة تضم الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح والسياحة والرقابة على النشر.

          ولكن المنصب الذي ترك عليه طابعًا مميزًا، وعرفه العالم كله من خلاله، كان منصب وزير خارجية الكويت الذي تولاه عام 1963 وظل فيه حتى عام 2003 عندما أصبح رئيسا لوزراء الكويت، وقد شاهد في عام توليه منصب الخارجية تلك اللحظة التاريخية التي ارتفع  فيها علم الكويت خفاقًا فوق مبنى الأمم المتحدة بعد أن تم قبولها عضوًا بها، وقد حرص طوال هذه السنوات على ألا يقتصر عمله على الجهود الدبلوماسية فقط ولكن على مد يد المساعدة من أجل تمويل العديد من المشروعات التنموية في البلاد العربية والإسلامية.

          وعندما كانت نيران الحرب والفتنة تشتعل في أي بلد عربي كان الشيخ صباح دائمًا في مقدمة الحضور، يسعى إلى التهدئة والمصالحة، كان موجودًا للمصالحة في اليمن ووقف الحرب بين الشمال والجنوب، وفي الخلافات بين الفصائل الفلسطينية، وفي الحرب الأهلية اللبنانية، وقد حمل دومًا القضية الفلسطينية في قلبه ودافع عنها في كل المحافل الدولية.

          وواصل رحلته الكبيرة مدافعًا عن الحق الكويتي عندما تعرضت الكويت للغزو في عام 1990 وظل صامدًا حتى تم التحرير.

          وكانت كل هذه الأدوار تؤهله ليتولى المنصب الأكبر في السياسة الكويتية حين تم اختياره منذ خمس سنوات أميرًا للكويت.

          ومازال أمير الابتسامة الدائمة يواصل دوره ويؤكد إنجازاته.

 



محمد المنسي قنديل   






غلاف هدية العدد