حوار مع ملكة الفواكه (هدية العدد)

حوار مع ملكة الفواكه (هدية العدد)
        

رسمها: د. محمد عبدالله

          خذني حالاً معك قبل أن يأتي أحد بعدك ويضعني مع بقية التفاح في كيس بلاستيكي.

          هذا ما سمعته من صوت يصدر من رف التفاح بالجمعية التعاونية.

          دهشت كثيرًا، فلم يحدث من قبل أن حدثني أي نوع من أنواع الفاكهة ولا الخضراوات ولا اللحوم أو البقول، ونظرت حولي فلم أجد أحدًا من الناس في الجمعية ينتبه للأمر، ولا حتى والدي الذي سبقني إلى رفوف فاكهة أخرى.

تفاحة واحدة لا تكفي

          حملت التفاحة بين يدي، واقتربت من والدي وترددت في أن أقول له أو لا أقول عما حدث. التفت لي والدي ونظر إلى ما بيدي، وقال: تفاحة واحدة فقط يا عمر، ليس من المعتاد أن نشتري تفاحة واحدة. اذهب وزن كيلو أو أكثر. نظرت له ولكن في الحقيقة كنت في عالم آخر. فقال لي: ما بالك يا عمر.. ألم تسمعني؟

          قلت له: هذه التفاحة... ولم أكمل كلامي وإذا به يبادرني قائلا: هذه التفاحة منظرها جميل جداً، لم أر مثلها من قبل، من أين أتيت بها؟

          - من على هذا الرف. وأشرت إلى الرف الذي وجدتها فيه.

          نظر والدي إلى الرف وقال: هناك تفاح كثير على الرف، ولكن هذه التفاحة لا تشبه التفاح الموجود هناك. وأضاف: خلها معك، وأضف إليها عدة تفاحات أخرى لتكمل كيلو جرامًا.

          نفذت أمر والدي، وأتيت بتفاحات أخرى، ولكن لاحظت التململ والقلق باديًا على وجه تفاحتي الرائعة. فقلت لها: صبرًا قليلاً حتى نذهب إلى المنزل، وهناك استمع إلى قصتك. ابتسمت التفاحة في خجل فاحمرّ قشرها أكثر.

اغسلها جيدًا

          أخرجت ما اشتريناه من الجمعية، واحتفظت بتفاحتي. نظرت لي أمي وقالت: ألا تصبر يا عمر حتى نتناول الفاكهة بعد الغداء، فأخبرتها أنني جوعان جدًا، وسألتهمُ هذه التفاحة حتى يحين وقت تناول الغداء. فقالت: اغسلها جيدا قبل أن تأكلها.

          غسلتُ التفاحة، وجففتُها، ودخلت غرفتي ووضعتها على مكتبي، فإذا بها تشع نوراً.

          سألتها: أيها التفاحة ما قصتُك؟

أنا التفاحتان

          نظرت التفاحة حولها وهمستْ قائلة: أنا تفاحة الجنة، وتفاحة نيوتن.

          - الاثنان معا؟

          - نعم. نفس البذرة.

          - لم أفهم؟

          - أنا التفاحة التي أكل منها آدم في الجنة، وأنا التفاحة التي سقطت على العالم إسحق نيوتن.

          - أنت تزيدين الأمر تعقيدًا. من فضلك وضَّحي أكثر.

          - التفاحة ضاحكةً: ألم تعرف أن هناك تفاحة سقطت من الشجرة على شاب إنجليزي يُدعى إسحق نيوتن، فاكتشف قانون الجاذبية؟

          - نعم.. درست هذا، وقرأته ضمن قراءاتي الحرة، وعرفت أن إسحق نيوتن عاش في الفترة من 1643 وحتى 1727م وكان فيزيائيًا وكيميائيًا وعالم رياضيات وعالم فلك وفيلسوفًا.

          - نعم.. هو كل ذلك.

          - وما هي علاقتك به؟

قررت أن أساعد نيوتن

          - في عام 1666 كان عمر هذا الفتى 24 عامًا، وكنت أنا قد نضجت على شجرة التفاح مع إخوتي في حديقة والدته، وكنت أعرف أن هذا الشاب المجتهد يبحث ويفكر عن أسباب سقوط الأشياء وقوة هذا السقوط، وكان عقله مليئًا بالمعادلات والأرقام واللوغارتمات والإحصائيات، وكل ما يتعلق بعالم الرياضيات والفيزياء والميكانيكا في عصره، وكان يتصور أن الجاذبية الأرضية تمتد إلى القمر.

          - وماذا حدث له بعد ذلك؟

          - بينما كان يتجول متأملاً في الحديقة، قررتُ أن أساعدَه، فسقطتُ على رأسه لأنبهه إلى شيء مهم، ثم خطر في باله أن قوة الجاذبية التي أسقطتني من على الشجرة إلى الأرض ليست قاصرة على مسافة معينة من الأرض، وأنه لا بد أن هذه القوة ممتدة أكثر مما يظن الناس. وقال لنفسه: لمَ لا تكون الجاذبية عالية بعلو القمر، وإذا كان، فلا بد أن يؤثر هذا على حركتها وربما يحفظها في مدارها، وعندها أخذ يحسب ماذا ستكون نتيجة ذلك الافتراض. وسأل نفسه: لماذا تسقط التفاحة دائمًا على الأرض بشكل عمودي؟ لماذا لا تنحرف يمينًا أو يسارًا أو إلى أعلى، وتتجه دائمًا إلى مركز الأرض؟

          وهكذا أخذ يفكر ويفكر، وأنا بين يديه يتأملني ويشمني، لقد أحب رائحتي، وحاول أن يستنطقني بأشياء وأرقام وحسابات ومعادلات ومسافات تدور في عقله، وكلما نظر إلى وجهي يستنبط أشياء وأفكارًا إلى أن صاغ قانون الجاذبية.

          - لقد درست هذا القانون.

قانون الجاذبية وروّاد الفضاء

          - بفضل هذا القانون أُعدت أبحاث الفضاء، وذهب رواد الفضاء إلى القمر، وهم يسبحون دون جذب أو مدارات سواء في المركبة الفضائية أو على سطح القمر.

          وبفضل هذه القانون أيضًا، صاغ نيوتن قوانين الحركة، ومنها: «لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ويضاده في الاتجاه». فكانت هذه القوانين الأسس الأولى لعلم الديناميكا (الحركة).

          - ليس بفضل هذه القوانين فقط، ولكن بفضلك أنت أيضًا، فإذا لم تسقطي عليه بهذه الطريقة، ما كان توصل إلى قانون الجاذبية الشهير.

تفاحة الجنة

          احمرّ قشرُ التفاحة خجلاً من ثنائي عليها وإشادتي بها، وقلت لها: لم أفهم بعد علاقتك بتفاحة الجنة التي قالوا عنها إنها سبب خروج أبينا آدم وأمنا حواء من الجنة؟

          - أنا التفاحة نفسها التي امتدت يد آدم إليها على الشجرة.كيف؟

          - أنا في الأصل هذه التفاحة. وبذرتي هي التي تم وضعها في أرض حديقة والدة إسحق نيوتن في إنجلترا، فنمتْ وترعرتْ في هذه الحديقة.

          - بالله عليك؟

          - نعم.. فبذرنا لا يذهب هباء، ولكنه يعيش دهورًا وينتقل من مكان إلى مكان، وعندما يجد التربة الصالحة والعناية الجيدة يبدأ في الإثمار، وكان من حظي أن تنتقل إحدى بذوري إلى إنجلترا في القرن السابع عشر لأستقر في حديقة والدة نيوتن في بلدة اسمها لينكولينشير، ويحدث ما يحدث.

          - وكيف جئت إلينا هناتبتسم التفاحة: أنا جئت في صندوق مع عدد كبير من التفاحات من الولايات المتحدة الأمريكية، لذا يسموننا «التفاح الأمريكاني».

          - كيف؟

          - ذهبت بذرتي بعد ذلك إلى الأراضي الأمريكية، وتحكمت فينا الشركات الزراعية الكبيرة العملاقة، وشركات التصدير والاستيراد العابرة للقارات، حيث يضعوننا في شاحنات كبيرة بها ثلاجات لنعيش أطول فترة ممكنة، وهذه الثلاجات تخنقني، وتكاد تميتني.

كنت أجمل تفاحة

          - كنت أجمل تفاحة على الشجرة المباركة في الجنة، وبسبب وجود الألياف الغذائية الموجودة بكثرة في قشرتي، ومادة اسمها السليلوز الموجودة في تلك الألياف، فإنه يحدث أن تتحرك أمعاء من يأكلني فتأخذ ما يفيد جسمه، وتطرد الفضلات أو البواقي خارج الجسم.

          - هذا شيء طبيعي يحدث لكل الأجسام بعد الأكل؟

          - مهلاً يا صديقي، فلم يكن هذا شيئًا طبيعيًا في الجنة، حيث لا يوجد إفرازات وفضلات للجسم هناك.

          - يعني في الجنة حياة أخرى مختلفة عن حياتنا في الدنيا؟

          - بالتأكيد، وللجنة قوانين أخرى غير تلك التي في الدنيا.

          - وماذا حدث بعد ذلك؟

          - حرّم الله على آدم وحواء الاقتراب من الشجرة، ولكن الشيطان وسوس لهما أن يأكلا منها.

          - نعم، وهذا ورد ذكره في القرآن الكريم. فماذا حدث لك بعد ذلك؟

تفاحة من نور

          - قلت إنني كنت التفاحة الوحيدة على الشجرة التي بها تلك الخصائص الغذائية، لذا حرّم الله أكلي حتى لا يضطر آكلي (أو من يأكلني) إلى إخراج ما في جوفه من فضلات وإفرازات لا تتناسب ووجوده في الجنة، حيث كل شيء من نور وفي نور.

          - ألم تكوني أنت من نور؟

          - كنت من نور، ومازلت أحمل هذه الخصائص النورانية، في بذرتي وفي قشري، وفي أعماقي. وأودع الله فيَّ بعض الخصائص لحكمة لا يعلمها إلا هو، ونهى عن أكلي. ومن لم يستجب يخرج عن طاعة الله، ويستحق العقاب.

          - ولكن الشيطان وسوس لآدم وحواء أن يأكلا منك.

          - نعم أنت تعرف بقية القصة.

          - لا أعرفها كلها، هناك أشياء لا أعلمها؟

          - مثل ماذا؟

          - كيف هبطت إلى الأرض مثلاً؟

7500 صنف

          - هبطت بهبوط آدم وحواء، و هبطت معهما، وانتشرت بذوري وزراعتي في الأرض، وساد الاعتقاد بأن شجرة التفاح هي أول الأشجار التي تمت زراعتها في الأرض.

          - معنى ذلك أن كل التفاح الذي في الدنيا ينتسب إليك.

          - ليس كله، لأنه بتقدم العلم وأساليب الزراعة أصبحت هناك عمليات تهجين وخلط بين البذور، فهناك تفاح أصيل ينتمي إلى الشجرة الأصلية التي أنتمي إليها، وتفاح هجين أو مهجَّن لا ينتسب إلينا، وإن كان يحمل الكثير من صفاتنا، لدرجة أنه يوجد الآن أكثر من 7500 صنف من أصناف التفاح.

          - ما أهم هذه الصفات التي يحملها التفاح الأصيل؟

          - نحن التفاح، ننتمي إلى فصيلة النباتات الوردية، واتفق علماء الزراعة على أن اسمنا العلمي هو مالوس سلفسترس، أو بايرس مالس. والتفاح الأصيل غذاء ودواء معاً، وعندما ينظر إليه الإنسان يسره منظره، لدرجة أن البعض قال: «للتفاح ثلاث لذّات: لذّة النظر، ولذّة اللمس، ولذّة الذوق». وهم يعنون بذلك التفاح الأصيل، لأن التفاح غير الأصيل لا تجد فيه تلك الصفات التي يقدرها الإنسان العارف لنا ولفضلنا، حتى الخلفاء والملوك والأمراء والرؤساء، وأيضا الأطباء والعلماء.

سرُّنا في قشرنا

          - وماذا أيضا؟

          - لقشرة التفاح الأصيل أهمية خاصة، لدرجة أن البعض يعتقد أن سرنا في قشرنا، فهذه القشرة تحتوي على نسبة عالية من مادة تسمى «فلافانويد»، وهي غنية بالألياف الغذائية غير الذوّابة، وخاصة الألياف التي تسمى «البكتين» وهي تزيل ترسبات الكوليسترول (الدهون التي في الدم)، ولها القدرة على امتصاص الماء من الأمعاء، وتقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب والربو، كما تعمل ضد الأكسدة، وتمنع الجزيئات الضارة في الجسم من تدمير الأنسجة وتكاثر الخلايا السرطانية فيه، فضلا عن أنها تحسن وظائف الرئتين. وينصح دائما بأكل التفاح بقشره بعد غسله جيدًا.

          - تذكرت الآن لماذا طلبت أمي أن أغسلك جيدًا قبل الأكل. كانت تظن أنني سآكلك؟

          - ألن تأكلني؟

          - أبدًا.. سأظل احتفظ بكِ دائما، نتحدث معًا ونتحاور معًا، وربما تهبينني سرًا من أسرارك الخفية، كما وهبت إسحق نيوتن في شبابه قانون الجاذبية.

          - أنا لست تفاحة خالدة أو ذهبية، بمعنى إذا لم تأكلني أنت، سيأكلني غيرك، أو سأتحلل وأتعفن، مادمت موجودة هنا في الدنيا.

          - ولكنك موجودة ـ كما ذكرت لي ـ منذ القدم.

          - بذرتي هي التي تعيش وتتحول وتنتقل وتهاجر وتزرع من جديد. أما أنا كتفاحة بالجسم الذي تراه الآن أمامك، فلا أعيش كثيرًا.

          - هذا كلام خطير، فلماذا إذن اخترتني في الجمعية كي تتحدثي إلي وطلبت مني أن آخذك، قبل أن يأخذك غيري؟

          - عندما رأيتك توسَّمت فيك الأدب والعلم والذكاء وحسن الحوار مع الآخرين. وظني فيك لم يخب.- شكرًا واسمحي لي أن أسأل عن التفاح غير الأصيل؟

تفاح غير أصيل

          - التفاح غير الأصيل تجده يمرض سريعًا ويعطب ويصيبه العفن والتقرح أو الجرَب، بعد أيام قليلة من قطفه من على الشجرة، أما التفاح الأصيل فهو يعيش زمنًا أطول، ولا يمرض بالسرعة التي يمرض بها التفاح غير الأصيل. وعلى الرغم من تعدد ألواننا: أحمر وأصفر وأخضر، وأحيانًا يكون هناك مزج بينها فنشبه قوس القزح، فإن التفاح غير الأصيل تجد لونه باهتًا وقشرته غير مستوية أو بها بعض التعرجات، ورائحته غير عطرية، وعندما تشق إحدى التفاحات غير الأصيلة بالسكين، تجد أحيانًا عفنًا ودودًا بداخلها.

          - وبالتالي فإن التفاح غير الأصيل يباع بأرخص من التفاح الأصيل؟

          - بالتأكيد، فأنتم تقولون دائما: «الغالي ثمنه فيه». وقد لاحظت توسعًا كبيرًا في زراعة التفاح الأصيل وغير الأصيل في أماكن كثيرة من العالم، غير موطننا الأصلي الذي زرعنا فيه من قبل وهو أوربا والأناضول (تركيا) والقوقاز (جنوب روسيا) وشمال الهند.

          الآن دول كثيرة تزرعنا وتصدرنا ودول كثيرة أخرى تستوردنا. حتى أن إجمالي الإنتاج العالمي من التفاح بلغ في السنوات الأخيرة 55 مليون طن، يزرع خُمسها (أي أكثر من عشرة ملايين طن) في الصين، يليها الولايات المتحدة (التي أتيت منها ضمن شحنة تصدير كبيرة لبلادك).

غذاء ودواء

          - إلى أي سبب تُرجعين تزايد الإقبال على التفاح في العالم الآن؟

          - لأسباب وفوائد صحية واقتصادية، ويبدو أن الناس بدأوا يعرفون أهمية التفاح من الناحية الصحية، وبدأوا يؤمنون بالعبارة التي تقول: «تناول تفاحة واحدة يوميًا يبعدك عن الطبيب». وأنتم تقولون «الوقاية خير من العلاج».

          - هذا من الناحية الصحية، فماذا عن الفائدة الاقتصادية التي جعلت زراعة التفاح في العالم تزيد في السنوات الأخيرة؟

          - بسبب إقبال الناس على التفاح لفوائده الصحية، ولأنه «غذاء ودواء معاً»، زادت مساحات زراعة التفاح في مناطق كثيرة في العالم، وزادت نسبة التفاح المهجّن، والتفاح غير الأصيل، وتفاوت سعر التفاح في كل بلد، وتفاوتت الأسعار حسب النوع والصنف.

          - هذه معلومات عظيمة جدًا، غدًا في المدرسة سأحكيها لزملائي.

لن آكلك

          طرقٌ على الباب، وأسمع أمي تقول:

          - هيا يا عمر حان وقت الغداء.

          - تفضلي معي يا تفاحتي العزيزة.

          - شكرًا.. وأنا في انتظارك بعد الغداء لنكمل حديثنا، وأسمعك ماذا قال عني الشعراء والأدباء العرب، قبل أن تأكلني.

          - لن آكلك.

 



كتبها: أحمد فضل شبلول   






غلاف هدية العدد