رَحَلْتُ.. ورَأَيْتُ: سَنْغَفورَةُ.. بِلادُ الأسد!: قصة: العربي بنجلون

رَحَلْتُ.. ورَأَيْتُ: سَنْغَفورَةُ.. بِلادُ الأسد!: قصة: العربي بنجلون
        

رسوم: إياد حمادة

          قَضى صَديقي عَلِيٌّ عُطْلَتَهُ الصَّيْفِيَّةَ عِنْدَ عَمِّهِ في ألْمانْيا، ولَمَّا عادَ، زُرْتُهُ في مَنْزِلِهِ، أُهَنِّئُهُ على رُجوعِهِ إلى أرْضِ الْوَطَنِ وأُسْرَتِهِ وأصْدِقائهِ. لَكِنَّ الْمُفاجَأةَ الَّتي بَهَرَتْنِي، ولَمْ تَخْطُرْ بِبالي، هِيَ أنَّهُ أحْضَرَ مَعَهُ مِنْ هُناكَ «آلَةَ الزَّمَنِ»!

          سَأَلْتُهُ مُتَعَجِّباً: ماذا تَعْني بِآلَةِ الزَّمَنِ؟! هَلْ هِيَ ساعَةٌ، أمْ بَوْصَلَةٌ، أمْ حاسوبٌ، أمْ لُعْبَةٌ آلِيَّةٌ..؟!

          أجابَنِي باسِماً: لاهِيَ بِهَذِهِ ولابِتِلْكَ!..إنَّها حُجَيْرَةٌ (تصغير حجرة) تَسَعُ شَخْصَيْنِ، ما أنْ تُغْلِقَ بابَها، حَتَّى تُسافِرَ بِكَ إلى أيَّةِ دَوْلَةٍ في لَمْحَةِ الْبَصَرِ، سَواءً كانَتْ تِلْكَ الدَّوْلَةُ توجَدُ في الْماضي أوْ في الْحاضِرِ أوْ في الْمُسْتَقْبَلِ!

          قُلْتُ لَهُ وأنا لاأُصَدِّقُهُ: وأيْنَ هِيَ هَذِهِ الْحُجَيْرَةُ الْعَجيبَةُ الْغَريبَةُ؟!

          أخَذَنِي مِنْ يَدي إلى غُرْفَتِهِ، وأشارَ بِأُصْبُعِهِ إلى حُجَيْرَةٍ دائرِيَّةِ الشَّكْلِ، رَمادِيَّةِ اللَّوْنِ: اُنْظُرْ، هاهِيَ!.. سَأفْتَحُ الْبابَ لِنَدْخُلَها!

          طَأْطَأْنا رَأْسَيْنا، ودَلَفْنا إلى الْحُجَيْرَةِ، ثُمَّ جَلَسْنا الْقُرْفُصاءَ:إلى أيْنَ تُريدُ أنْ تُسافِرَ؟

          سَألَني عَلِيٌّ، فَأجَبْتُهُ باسِماً: أريدُ أنْ..أزورَ دَوْلَةً.. آسْيَوِيَّةً!

          أَغْلَقَ الْبابَ، فَتَحَرَّكَتِ الْحُجَيْرَةُ قَليلاً، ثُمَّ أخَذَتْ تَدورُ وتَدورُ بِسُرْعَةٍ فائقَةٍ إلى أنْ تَوَقَّفَتْ بِنا، وثَبَتَتْ في مَكانِها. فَفَتَحْنا الْبابَ، وأخْرَجْنا رَأسَيْنا نُطِلُّ على أرْضٍ خَضْراءَ، وسَماءٍ زَرْقاءَ، أيْ لاتَنْتَشِرُ فيها الأَدْخِنَةُ الَّتي تَنْفُثُها الْمعامِلُ والأَفْرانُ، ووَسائلُ النَّقْلِ، كَالْحافِلاتِ والشَّاحِناتِ..!

          هَلْ تَتَخَيَّلونَ أيْنَ وَجَدْنا نَفْسَيْنا، وماذا رَأيْنا؟!..صَدِّقوني، أنا نَفْسي لَمْ أعْرِفْها في الْبِدايَةِ، حَتَّى سَألْتُ طِفْلاً في سِنِّي، كانَ ماراًّ بِالْقُرْبِ مِنَ الْحُجَيْرَةِ، فَأَخْبَرني بِأنَّنا في جَزيرَةٍ صَغيرَةٍ، اسْمُها «سَنْغَفورَةُ» وهِيَ كُلُّها بِلادٌ في مَدينَةٍ، وعاصِمَةٌ في الْوَقْتِ نَفْسِهِ، توجَدُ بَيْنَ الْمالايو وماليزْيا وأنْدُونيسْيا، ولاتَتَعَدَّى مِساحَتُها 682 كيلومِتْراً مُرَبَّعاً!

          أمَّا صَديقي عَلِيٌّ، فَقَدْ أسْلَمَ نَفْسَهُ لِسُلْطانِ النَّوْمِ، وتَرَكَني لِوَحْدي، لَمَّا وَجَدَ الْمَكانَ هادِئاً، وأحَسَّ بِالرَّاحَةِ التَّامَّةِ، والْهَواءِ الْعَليلِ يُداعِبُهُ..!

          وأرَدْتُ أنْ أُهْدِيَ شَيْئاً لِلطِّفْلِ السَّنْغَفورِيِّ، فَلَمْ أجِِدْ في جَيْبي إلاَّ «عَلَكَةً» قَدَّمْتُها لَهُ قائلاً: تَقَبَّلْ مِنِّي هَذِهِ الْهَدِيَّةَ الْبَسيطَةَ، فَنَحْنُ الأَطْفالَ في كُلِّ أرْجاءِ الْعالَمِ نُحِبُّ الْحَلوى كَثيراً!

          عَبَسَ في وَجْهي، وعَلا صَوْتُهُ مُعْتَرِضاً: لالا، أعِدْها إلى جَيْبِكَ، فَالْعَلَكَةُ في بَلَدِنا مَمْنوعَةٌ!

          اِنْفَجَرْتُ ضاحِكاً: ماذا تَقولُ، ياصَديقي؟!..اَلْعَلَكَةُ مُجَرَّدُ حَلْواءَ نَمْضَغُها، وعِنْدَما تَنْتَهي حَلاوَتُها وطيبَتُها نَرْميها أرْضاً!

          قالَ: ولِهَذا مَنَعوها!..يَنْبَغي أنْ تَعْرِفَ أنَّ بَلَدي كانَ مُتَأَخِّراً جِداًّ، لاطُرُقَ فيهِ مُبَلَّطَةٌ ولاأرْصِفَةَ مُرَصَّفَةٌ، ولامَنازِلَ نَظيفَةٌ، ولاحَدائقَ ولامُنْتَزَهاتٍ. وتَنْتَشِرُ الأَكْواخُ والدُّورُ الْمُخَرَّبَةُ في كُلِّ مَكانٍ، ولَيْسَ لَهُ شُرْطَةٌ وجَيْشٌ يَحْمِيانِهِ، والنَّاسُ يُسْكِنونَ مَعَهُمُ الْحَيَواناتِ كَالدَّجاجِ والْغَنَمِ والْقِطَطِ والْكِلابِ، ويَسْتَضيئونَ بِالْقَناديلِ والشَّمْعِ. وكانَ الْكِبارُ والصِّغارُ مُدْمِنينَ على تَناوُلِ شَيْئَيْنِ: الْعَلَكَةِ والتَّدْخينِ، وهُما مَعاً يَشْتَرِكانِ في مَجْموعَةٍ مِنَ الأَضْرارِ: يُسَوِّسانِ الأَسْنانَ ويَقْضِيانِ عَلَيْها، ويُسَبِّبانِ لِصاحِبِهِما أمْراضاً جِسْمِيَّةً، لِما يَحْتَويانِ عَلَيْهِ مِنْ مَوادَّ صِناعِيَّةٍ..!

          قُلْتُ لَهُ مُتَعَجِّباً: لَكِنَّني لاأرى إلاّ الطُّرُقَ والأرْصِفَةَ والأسْواقَ والأحْياءَ النَّظيفَةَ، والْعِماراتِ الشَّاهِقَةَ، والْحَدائقَ والْمُنْتَزَهاتِ الْغَنَّاءَ، والسَّماءَ الصَّافِيَةَ. ولاأسْتَنْشِقُ غَيْرَ الْهَواءِ النَّقِيِّ الْخالِي مِنَ التَّلَوُّثِ. أَأُكَذِّبُ عَيْنَيَّ وأَُصَدِّقُكَ أَنْتَ؟!!

          أجابَني باسِماً: حَقاًّ ماتَقولُ، صَديقي!..لَقَدْ أصْبَحَتْ بِلادي مِنْ أوائلِ الدُّوَلِ النَّظيفَةِ في الْعالَمِ مُنْذُ عامِ 1975 كَما أصْبَحَتْ مِنَ الْبُلْدانِ الأَكْثَرِ ازْدِهاراً ورُقِياًّ بِفَضْلِ مينائِها الْكَبيرِ، الَّذي يَسْتَقْبِلُ السُّفُنَ التِّجارِيَّةَ مِنْ كُلِّ الدُّوَلِ، وبِفَضْلِ سُكَّانِها الْهُنودِ والصِّينِيِّينَ والْماليزِيِّينَ والأَنْدُونيسِيِّينَ والْباكِسْتانِيِّينَ والأُروبِّيِّينَ، الَّذينَ وَضَعوا يَداً في يَدٍ، وبَنَوْا بِلادَهُمْ. فَبَعْدَ أنْ كانَتْ أرْضُها «قاحِلَةً» صارَتْ «خِصْبَةً» تُفيدُهُمْ بِخَضْرَواتِها وفَواكِهِها، ووُرودِها وزُهورِها. وبَعْدَ أنْ كانَ سُكَّانُها يَسْكُنونَ «الأَكْواخَ» شَيَّدوا لَهُمْ «ناطِحاتِ السَّحابِ» وعَبَّدوا الطُّرُقَ ونَظَّفوها، وأنْشَأوا «قِطارَ الأنْفاقِ» وخَطَّ السِّكَكِ الْحَديدِيَّةِ. وهاتِ يامَدارِسُ ومَلاعِبُ ومَسابِحُ وحَدائقُ، حَتَّى أصْبَحَ الْعالَمُ كُلُّهُ يُعْطي  بِها الْمَثَلَ الْحَيَّ في نَظافَتِها وتَقَدُّمِها وتَطَوُّرِها، وتَعاوُنِ سُكَّانِها بِرَغْمِ اخْتِلافِ أجْناسِهِمْ وأدْيانِهِمْ ولُغاتِهِمْ وعاداتِهِمْ وتَقاليدِهِمْ!

          والآنَ، هَلْ تُريدُ أنْ تَتَجَوَّلَ مَعي في أحْيائها وأسْواقِها، لِتَتَأَكَّدَ بِنَفْسِكَ مِمَّا قُلْتُهُ، أمْ سَتَخْلُدُ إلى النَّوْمِ كَصاحِبِكَ؟

          صِحْتُ في سُرورٍ: طَبْعاً، سَأُرافِقُكَ في هَذِهِ الْجَوْلَةِ، يالَها مِنْ فُرْصَةٍ حَسَنَةٍ، لاتَأتي ولَوْ في الْحُلْمِ، هَيَّا بِنا!

          والْتَفَتُّ إلى صَديقي عَلِيٍّ، فَرَأيْتُهُ مازالَ غارِقاً في نُعاسِهِ!

          قُلْتُ لَهُ في نَفْسي:  لِتَبْقَ نائماً، لَقَدْ حَرَمْتَ نَفْسَكَ مِنَ التَّجْوالِ في هَذِهِ الدَّوْلَةِ ـ الْمَدينَةِ الرَّائِعَةِ!

          ثُمَّ تَوَجَّهْتُ  مَعَ الْوَلَدِ السَّنْغَفورِيِّ إلى شارِعِ  «أورْشارْدْ رْوودْ» فَشاهَدْنا الأشْجارَ الْمورِقَةَ الْخَضْراءَ تُزَيِّنَ جانِبَيْهِ، وتَمُدُّ ظِلالَها على الْمارِّينَ. والْمَراكِزَ التِّجارِيَّةَ مُصْطَفَّةً، تَعْرِضُ أنْواعاً مِنَ الْحَواسيبِ والأثاثِ والألْبِسَةِ والألْعابَ والآلاتِ، والْباعَةَ والْمُتَسَوِّقينَ مِنْ جِنْسِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَتِهِ، لَكِنَّ الإنْجَليزِيَّةِ هِيَ اللُّغَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَهُمْ. كَماشاهَدْنا مَعابِدَ «بوذا» الْخاصَّةَ بِالْهُنودِ، والْمَساجِدَ الْخاصَّةَ بِالْمُسْلِمينَ، والْكَنائِسَ الْخاصَّةِ بِالأُروبِّيِّينَ..!

          وكَمْ أعْجَبَني شاطِئُها الَّذي يَبْلُغُ طولُهُ ثَلاثَةَ كيلومِتْراتٍ ونِصْفاً، لِما يَحْويهِ مِنْ أنْشِطَةٍ رِياضِيَّةٍ، كَالتَّجْديفِ والتَّزَحْلُقِ وسِباقِ الْمَراكِبِ الشِّراعِيَّةِ ورُكوبِ الْخَيْلِ، بَلْ كَمْ أعْجَبَتْني الدَّلافينُ اللَّطيفَةُ، والأُطُمُ الظَّريفَةُ، وهِيَ تَطْفو وتَغوصُ في الْبَحْرِ، وتُسابِقُ أمْواجَهُ!

          ومِنَ الشَّاطِئِ الرَّمْلِيِّ الْجَميلِ، تَوَجَّهْنا إلى «حَديقَةِ الْحَشَراتِ» فَوَجَدْنا ألْفَيْنِ وخَمْسَمائَةِ فَراشَةٍ مابَيْنَ بَيْضاءَ وصَفْراءَ ومُلَوَّنَةٍ، وعَشَراتٍ مِنَ الدِّيدانِ الْعِمْلاقَةِ، والْعَقارِبِ والْعَناكِبِ والْخَنافِسِ الْمُتَنَوِّعَةِ الأَشْكالِ والأَلْوانِ. ورأيْنا في «حَديقَةِ الْحَيَواناتِ» مايَزيدُ عَلى ثَلاثَةِ آلافٍ وسِتِّمِئَةٍ مِنَ الثَّدْيِياتِ والزَّواحِفِ والطُّيورِ الْقَليلَةِ الْوُجودِ، مِثْلَ الْقِرْدِ الأبْيَضِ، وثَعْلَبِ الْماءِ..!

          سَألْتُ مُرافِقي، ونَحْنُ عائدانِ إلى «آلَةِ الزَّمَنِ»: لِماذا تَنْصِبونَ تَماثيلَ الأسَدِ في كُلِّ مَكانٍ، رَغْمَ أنَّني لَمْ أُشاهِدْ ولَوْ أسَداً حَقيقِياًّ في بَلَدِكُمْ؟!

          اِبْتَسَمَ ابْتِسامَةً خَفيفَةً، وأجابَني: يُحْكى أنَّ سَفينَةَ أميرٍ رَسَتْ بِالشَّاطِئِ، ولَمَّا تَرَجَّلَ مِنْها، نَظَرَ بَعيداً، فَتَخَيَّلَ لَهُ أسَدٌ جاثِمٌ بَيْنَ الصُّخورِ!

          نادى على رِجالِهِ أنْ يَحْتَرِسوا مِنَ الأسَدِ صائِحاً: سَنْغَ سَنْغَ سَنْغَ!

          أيْ أسَدٌ، وأضافوا إلى الْكِلِمَةِ «فورَةَ» يَعْني «بَلَدٌ» فَسُمِّيَتْ «سَنْغَفورَةُ ـ بَلَدُ الأسَدِ» ومُنْذُ سَنَةِ 1986 أصْبَحَ الأسَدُ شِعاراً لِوَطَني. ولِكَيْ يَظْهَرَ جَميلاً، لايَخافُهُ الأطْفالُ، احْتَفَظوا بِرَأسِهِ فَقَطُّ، وأضافوا إلَيْهِ جِسْمَ «حورِيَةِ الْبَحْرِ»!

          أخْرَجْتُ الْعَلَكَةَ مِنْ جَيْبي، وألْقَيْتُ بِها في صُنْدوقِ الْقُمامَةِ، ثُمَّ شَكَرْتُ مُرافِقي ووَدَّعْتُهُ قائلاً: منْذُ هَذِهِ اللَّحْظَةِ، سَأُحافِظُ على صِحَّةِ جِسْمي وسَلامَتِهِ، وسَأحْمي وَطَني الْعَزيزَ مِنَ التَّلَوُّثِ، حَتّى يَصيرَ نَظيفاً جَميلاً مِثْلَ وَطَنِكَ أوْ أكْثَرَ!

          هَزَّ رَأْسَهُ، وقالَ: هَذا ماأتَمَنَّى أنْ تَفْعَلَهُ، وتَنْصَحَ بِهِ كُلَّ الأطْفالِ!

          ورَجَعْتُ إلى الْحُجَيْرَةِ، فَوَجَدْتُ عَلِياًّ مازالَ نائِماً، يَغِطُّ غَطيطاً عالِياً، كَأنَّهُ لَمْ يَنَمْ عاماً كامِلاً!

          أغْلَقْتُ الْبابَ بِرِفْقٍ، كَيْلا أوقِظَهُ، فَانْطَلَقَتْ «آلَةُ الزَّمَنِ» عائِدَةً بي إلى وَطَني!

          وحينَما تَوَقَّفَتْ عَنِ الدَّوَرانِ والْحَرَكَةِ، اسْتَيْقَظَ صَديقي، مُتَسائلاً: أيْنَ نَحْنُ الآنَ؟..هَلْ وَصَلْنا إلى الْبَلَدِ الآسْيَوِيِّ أمْ مازِلْنا في مَكانِنا؟

          أجَبْتُهُ باسِماً، وأنا أفْتَحُ الْبابَ:إذا أمْضَيْتَ حَياتَكَ نائِماً، فَإنَّكَ لَنْ تَسْتَفيدَ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ الآلَةِ الْعَجيبَةِ الْغَريبَةِ!

 



العربي بنجلون