أهْلاً بالحُرِّيَّةِ

أهْلاً بالحُرِّيَّةِ
        

رسوم: ريما كوسا

          يا إلـَهـِي! مَاذَا أَصَابَنِي؟ أَنََا جَمَالٌ أَعْجَزُ عَن حِفْظِ دُرُوْسِي! الكـُلّ يَعْلـَمُ أَنَّني مُجْتـَهِدٌ ذَكِيٌ، لَكِنْ، لـَمْ أعُدْ أَُُطِيْقُ المَدْرَسَة َ، حتى أنني صِرْتُ أُشَاغِبُ أثـْنَاءَ الدَّرْسِ.

          سَأَتْرُكُ المَدْرَسَةَ، بَكـَتْْ أُمِّي عِنْدَمَا عَلِمَتْ بِـِقـَرَارِي، أَبِي رَاحَ يَصِيْحُ: جَمَالٌ فـَقـَدَ عَقـْلـَهُ، وامْتـَنـَعَ عَن ِ الكـَلامِ مَعِي، حَتـَّى أَخِي الصَّّغِيْرُ (هَانِي) خَاصَمَنِي عِنْدَمَا شَاهَدَ أُمِّي تـَبْكِي.

          مَلأتُ لَوَازِمَ مَدْرَسَتِي في صُنـْدُوْقٍ كَبِيْرٍ، وَضَعْتُهُ في السَّقِيْفَةِ (السندرة). وَدَاعَاً للقـُيُودِ، وأهْلاً بالحُرِّيَّةِ.

          أهْلاً بالحَاسُوبِ، صِرْتُ أجْلِسُ أمَامَهُ لِسَاعَاتٍ طَويْلـَةٍ، أُمِّي كـَرِهَتِ الدُّخُوْلَ إلى غُرْفـَتِي، (بَسْمَةُ) تـَقُوْلُ عِنْدَمَا يَسْأَلُ عَنـِّي أَحَدٌ: جَمَالٌ في السِّجْنِ. سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: جَمَالٌ حَكَمَ على نَفـْسِهِ بِالسِّجْنِ المُؤبَّدِ، لـَكِنـَّهُمْ، لا يَعْلـَمُوْنَ، كَمْ هَذا السِّجْنُ مُمْتِعٌ بِالنـِّسْبَةِ لِيْ! أَتـَعَرَّفُ فِيْهِ على عَوَالْـِمَ جَدِيْدَةٍ، أَفـْتَحُ نَوَافِذ َ المَكْتَبَاتِ، المُخْتَرَعَاتِ، أَتَسَلـَّى مَعَ الفـَتَيَاتِ، وآخِرُ واحِدَةٍ كَانَتْ (غَزُّوْل)  هي مَنْ أَحْبَبْتُهَا حَقِيْقَة.ً

          مَا هَذِهِ الرِّسَالَةُ يا (غَزَلُ)؟!

          (جَمَالُ! لقَدْ أَوْهَمْتـُكَ بأَنـَّني أُحِبُّكَ، كَانَتْ مُزْحَة، سَامِحْنِي).

          مَزْحَة؟! والوَقـْتُ الذِي أَضَعْتـُهُ، ومَدْرَسَتِي، ومُسْتَقبَلي؟ كـُلُّ هَذا انـْتَهَى بِمُزْحَةٍ!

          أَغْلـَقـْتُ الحَاسُوْبَ بِسُرْعَةٍ، الغُرْفَة ُ رَاحَتْ تَدُوْرُ بِي، أَشْعُرُ بِأَلـَم ٍ في عَيْنَيَّ، مُنـْذ ُ زَمَن ٍ كـُنـْتُ أَشْعُرُ بِذَلِكَ، لـَكِنَنِي أَهْمَلـْتُ الأَمْرَ، ظـَهْرِي يُؤْلِمُنِي، وَرُكـْبَتَاي أَيْضَاً، ارْتَمَيْتُ على السَّرِيْرِ، دَخَلـَتْ أُمِّي فـَجْأة، رَاحَتْ تَصِيْحُ: جَمَالُ! مَا بِكَ؟ تَبِعَهَا أَبِي وهُو يَقـُوْلُ: هَذا مَا كـُنْتُ أَحْسُبُ حِسَابَهُ.

          في صَبَاحِ اليَوْمِ التـَّالي، اسْتِيْقـَظـْتُ مُبَكـِّرَاً. وَقـَفـْتُ أَمَامَ النـَّافِذَةِ، (مَاجِدٌ) و(وسِيْمٌ) يَسِيْرَان مُتَأَبِطـَيْن ِ ذِرَاعَيْهِمَا، (سَالِمٌ) يَسِيْرُ مُسْرِعَاً، وبِيَدِهِ كـِتَابٌ، (عَامِرٌ) يَخْرُجُ مِنَ المَكْتَبَةِ. يا إلـَهِي! إنـَّهُم ذَاهِبُوْنَ إلى المَدْرَسَةِ، وأنَا أقِفُ هُنَا كَالأبْلـَهِ.

          كَمْ أنَا مُتَلـَهِّفٌ لِرُؤْيَةِ صَفـِّي، ومَعْرِفَةِ مَا يَحْدُثُ فِيْهِ! فـَكـَّرْتُ، كـَيْفَ سَأدْخُلُ المَدْرَسَةََ؟ أنَا خَجِلٌ مِن نَفـْسِي، مِن المُدِيْرِ، المُعَلـِّمَاتِ،  الطـُّلابِ، مِن مُسْتَخـْدَم (ساعي) المَدْرَسَةِ (أبي زَهْرة). يَا للخَيْبَةِ!

          آهٍ، لو أنـَّنِي أمْلِكُ طـَاقِيَة َ الإخـْفَاءِ، لكـُنْتُ حَقــَّقـْتُ حُلـْمِي الجَمِيْلَ، فَأدْخُلُ المَدْرَسَة َ دُوْنَ أنْ يَرَانِي أحَدٌ، وأعْرِفُ مَاذا يَحْدُثُ في صَفـِّي.

          سَأتَخـَيَّلُ أنـَّني ألـْبسُ طـَاقِيَة َ الإخـْفَاءِ، هَا أنَا أدُوْرُ حَوْلَ سُوْرِ المَدْرَسَةِ، أتَأمَّلُ  جُدْرَانَهَا، نَوافِذَهَا، بَابَهَا الوَاسِعَ، شَعَرْتُ بِغَصَّةٍ فِي حَلـْقِي، دَخَلـْتُ البَاحَة َ، الجَمِيْعُ دَخـَلـُوا الصُّفـُوْفَ، يا إلـَهـِي! شَجَرَةُ الصَّنَوْبَرِ الصَّغِيْرَةُ، أنَا مَنْ شَارَكَ في زِرَاعَتِهَا، صَعَدْتُ الدَّرَجَ بِلـَهْفَةٍ، دَخـَلـْتُ المَمَرَّ، آهٍ، ما أجْمَلـَهَا! لـَوْحَة ُ الطـِّفْل ِالذي يُنـَظـِّفُ أسْنَانَهُ، أنَا و(مَاجِدٌ) قـُمْنَا بِرَسْمِهَا سَأُسْرِعُ قـَبْلَ أنْ يَبْدَأ الدَّرْسُ.

          آهٍ، صفـِّي، الطـُّلابُ، مَا أجْمَلَ انْهـِمَاكـهم بالـْكـُتـُبِ والمَقـَاعِدِ! كـُلُّ شَيْءٍ فِيْهـِم جَمِيْلٌ.

          جَلـَسْتُ على آخِرِ مَقـْعَدٍ، هُوَ فَارِغ ٌ مُنـْذ ُ بِدَايَةِ العَام ِ، ولو أَنـَّنِي مُشْتَاقٌ لأجْلـُسَ في مَكـَانِي قـُرْبَ (مَاجِدٍ)، لـَكِنْ، هُنَا أفـْضَلُ لِكـَي لا أُثِيْرَ أيَّ اسْتِغـْرَابٍ مِنْ حَولِي.

          آهٍ، فـَوْقَ السَّبُوْرَةِ لـَوْحَة ٌ لأَطـْفـَال ِ غَزَّةَ، أنَا مَنْ عَلـَّقَهَا، وَثـَبَّتَ عَلـَيْهَا جُمْلـَة َ (في القـَلـْبِ يَا غَزَّةُ).

          (سَاِلمٌ) يُوَشْوِشُ (مَاجِداً) وَيضْحَكـَان، (هَيْفـَاءُ) تَضْفِرُ شَعْرَ (نَدَى)، (عَادِلٌ) يَمْسَحُ اللوْحَ. يا إلهـِي! أنا(جَمَالٌ) أتْرُكُ مَدْرَسَتِي! مَاذا فـَعَلـْتُ بِنَفـْسِي!

          الآنِسَة ُ (دَلالُ) تَدْخلُ، عَمَّ الهُدُوْءُ في الصَّفِّ فـَجْأة ً، تَبِعَهُ صَوْتُ تَقـْلِيْبِ الكـُتُبِ والدَّفَاتِرِ. الآنِسَة ُ تَطـْلـُبُ إعْرَابَ كـَلِمَةٍ مُعَيَّنَةٍ، دَبَّ خِلافٌ بَيْنَ الطـُّلابِ، قَالـَتِ الآنِسَة ُ: لو أنَّ جَمَالاً هُنَا، لـَعَرِفَ الجَوَابَ حَالاً.

          رَفَعْتُ يَدِيْ، صِحْتُ بِلـَهْفَةٍ: أنَا هُنَا يَا آنِسَة ُ، أنَا هُنَا، فَالـْتَفَتَ الجَمِيْعُ إلى الخَلـْفِ.

          قَالـَتِ الآنِسَة ُ: مَنْ مِنْكـُم يَقـَلـِّدُ صَوْتَ جَمَالٍ؟

          لم يَرُدَّ أحَدُ، بَعْضُ الطـُّلابِ ظـَلـُّوا يَلـْتَفِتـُون مُسْتَغـْرِبِيْن، ثمَّ تَابَعَ الجَمِيْعُ نِقَاشَهُم.

          يا إلـَهي! لـَم أسْتَطِعْ حَبْسَ دُمُوْعِي، كـَانَ يَجِبُ عَليَّ ألا أتـَكـَلـَّمَ. المُهـِمُّ الآنِسَة ُ مَا زَالـَتْ تـَتَذَكـَّرُنِي، وتَعْتَرِفُ بِتَمَيُّزِي، حَتـَّى نَبْرَةُ صَوْتِي، مَازَالـَتْ تَحْفَظـُهَا.

          مَا أجْمَلَ صَوْت رَنِيْن ِ الجَرَس ِ! أخَذ َ الجَمِيْعُ بِالخـُرُوْج ِ، (مَاجـِدٌ) يَضَعُ يَدَهُ على كـَتِفِ (سَالِمٍ)، (زِيْنَة) تَقـْسِمُ (السَنْدَويْتشَ) وتـُعْطِي (رِهَامَ) قِسْمَاً.

          قَطـَعَ شـُرُوْدِي صَوْتُ أُخـْتِي (بَسْمَةَ)، تـُنَادِيْنِي، تَرْبِتُ على كـَتِفِي، وهِي تَقـُوْلُ: (جَمَالُ)! مَا بِكَ؟ أأنـْتَ تَبْكِي؟! 

          قـُمْتُ، وأنَا أَقـُوْلُ لـَهَا: تَعَالِي، يا (بَسُّوْمُ)!

          لـَمْ يًُصَدِّقْ أفـْرَادُ أُسْرَتِي، عِنـْدَمَا شَاهَدُوا (بَسْمَة) تَسْنِدُ لِي السُّلـَّمَ، وأنَا أُنـْزِلُ صُنْدُوْقَاً كـَبِيْرَاً، كـُنْتُ قَد وَضَعْتـُهُ على السَّقِيْفََةِ يَوْمَ تَرَكـْتُ المَدْرَسَة َ. والآن، أهْلاً بالحُرِّيَّةِ.

 



سريعة سليم حديد