حكاية بائع الدندرمه (هدية العدد)

حكاية بائع الدندرمه (هدية العدد)
        

رسوم: صفاء نبعه

أيام الدندرمه

          في البدء تدوِّي «زمّارته»، ثم يرتفع صوت البائع، فيدخل بيوتنا سريعًا "دَنْدُرْمَه".

          «دندرمه» لها وقع السحر علينا، فهي تعني أن أيام الدراسة قد انقضتْ، وهلّتْ أيام اللعب.

          أسير أنا وأصدقائي وسط الحقول الهادئة، وعند عودتي تغضب أمي من ملابسي المُتسخة، وتقول:

          - مادمت تحب الحقول، فاذهب إليها، واعمل.. إن العمل عبادة يا مصطفى.

          لا أستطيع معارضة أمي فيما تقول. ويقول أبي، وهو جالس على طاولة الطعام:

          - أنت رجل يا مصطفى.

          جلستُ بجانبه، ثم أمسكتُ بيده.

          - أبي، أنا لا أحب العمل في الحقل.

          - وماذا تريد أن تعمل يا مصطفى؟

          نطقتُ بسرعة:

          - بائع دندرمه!

          سَكتَ أبي، وطال سكوته. وأنا في انتظار كلامه، وإذا قام، قمتُ معه. وإذا جلس، جلستُ بجانبه، ملتصقًا به. وبعد أن شرب كوب الشاي سألني:

          - لماذا يا مصطفى؟!

          - لأنني أحب الدندُرمة يا أبي!

          ابتسم أبي، وهزّ رأسه:

          - تصبح على خير يا بائع الدندرمه!

          وتركني وحدي مع أمنيتي .

          في اليوم الثاني سألني عن العمل، لم أرد على أبي، فأنا لا أعرف كيف أحصل على عربة لبيع الدندرمه. لمح أبي في عيني الحزن، فوضع يده على رأسي، وابتسم قائلاً:

          - يا مصطفى، أحلام الصغار لا يمكن أن تتحقق إلا بتعاون الكبار.

          فرحتُ كثيرًا, ومضيتُ إلى غرفتي، وتدثرتُ، ونمتُ أحلم بالعربة.

العربة

          تعال يا مصطفى، هرولتُ إلى أبي، وخرجنا من البيت، وأمسكتُ بيد أبي، وتعانق حُلمي مع رغبة أبي، وسرنا إلى عمي أمين صاحب مصنع الدندرمه. قابلنا عمي أمين بمودة، والابتسامة تعلو وجهه. وبعد أن شربنا الشاي قام أبي وصافح عمي أمين بحرارة.

          - سلّم على عمك أمين يا مصطفى.

          صافحتُ عمي أمين، وأمسكتُ بيده بقوة، فضحك، وقال:

          - أنا في انتظارك غدًا يا مصطفى.

          كنتُ في طريق عودتي للبيت سعيدًا، والابتسامة تعلو وجهي. وأبي كان فَرِحًا لفرحتي.

          في البيت، جلستُ مع أمي وأخي أحمد أحكي لهما عن عربة بائع الدندرمه. وكان النوم قد خاصم عيني.

          - استرح قليلًا يا مصطفى.. غدًا يوم عمل.

          - حاضر يا أبي.

          في الصباح الباكر أيقظتني زقزقة العصافير، مشيتُ إلى عمي أمين، وكانـتْ خطواتي سريعة، وأخي أحمد يحاول اللحاق بي. أحمد يلاحقني دومًا أينما ذهبتُ. لقد فرحتُ به هذه المرّة.. أكثر من المرّات السابقة. وكـان عمي أمين في انتظاري، فألقيتُ عليه السلام.

          - وعليك السلام يا مصطفى.

          وتركني وحدي قليلًا، ثم عاد بالعربة. وقفتُ أمام العربة قليلًا، وأخذتُ ألفّ حولها، وأتحسسها. أخيرًا تسلمتُ العربة.

          كانتْ العربة تمشي على عجلتين فقط، ولها غطاء من الخشب الملون بالأحمر والأخضر، ووسط العربة صفيحة كبيرة ونظيفة بها الدندرمه، وحول هذه الصفيحة الثلج المكسور، وللعربة أيضًا يدان من الخشب.. واحدة على اليمين، وواحدة على الشمال لدفع العربة إلى الأمام، ولاحظتُ علامات مكتوبة باللون الأسود: "مصنع عمي أمين.. ترخيص وزارة الصناعة رقم.."، وبالجانب الآخر "ترخيص وزارة الصحة رقم.."، كانتْ العربة جميلة، وأجمل كل هذه الأشياء تلك الزامرة التي لم أمسكها في حياتي، الزامرة التي تنادي على الأطفال، ويدخل صوتها العذب في كل الحواري والبيوت.

          كنـتُ أنا وأخي أحمد نلحس الدندرمه بفرح، وأحسستُ برائحة الدندرمه في ملابسي تعبتُ من دفع عربة الدندرمه.. لكنني فرحٌ بها.

          وقت الظهيرة، كانتْ الآذان تملأ قلوب السامعين، تركني أحمد من شِدّة الجوع، فجلستُ وحدي، عاد أخي أحمد، وأعطاني طعامًا قد أرسلته لي أمي.

          أحسستُ بالتعب الشديد، فجلستُ تحت شجرة كبيرة، ونظرتُ للعربة التي أصبحتْ ثقيلة جدًا، وقلتُ لنفسي:

          - لا يهم التعب يا مصطفى..لقد أصبحت بائعًا للدندرمه.

المكسب

          قبل أذان العصر لم أستطع دفع العـربة، لقد فقدتُ كل قوتي، قلتُ لنفسي: ما العمل يا مصطفى؟! كان إصراري على بيع ما تبقى من الدندرمه هو كل ما لدي!

          نداء الزامرة ساحر، والعربة جميلة، والأطفال يتمسكون بما يحبون، فساروا وراء العربة أينما ذهبتْ، قلتُ لنفسي: أكمل يومك مع فرحتهم، فأعطيتهم الدندرمه مجانًا، فساعدوني في دفع العربة، وأمسك واحد منهم بالزامرة بدلًا مني، ونفخ فيها بكل عزمه، فخرج الصوت ضعيفًا.. لكنه جميل، فضحكتُ منه، ونسيتُ بعض تعبي.

          كلما رأيتُ طفلًا أعرفه في المدرسة أختبئ منه حتى لا يراني، وفجأة التفّ حولي مجموعة من الأطفال الذين أعرفهم، في البداية طلبوا مني الدندرمه فأعطيتهم، وحين طلبتُ ثمنها جروا من أمامي! تسمّرتُ مكاني، وأمسكتُ بالعربة، هذه العربة أمانة، تحلّقوا حولي «مصطفى بائع دندرمه» وغنّوها أغنية.

          - العمل ليس عيبًا.

          صوتي ضاع وسط أغنيتهم، ثم دفعوا العربة بأقصى سرعة، وأنا أحاول منعهم، لم يمنعهم عن مضايقتي إلا شيخ الجامع.

          لم يبق شيء من الدندرمه، فحمدتُ الله، وتحسستُ جيبي العامر بالنقود.

          بعد المغرب ذهبتُ إلى عمي أمين.. صاحب مصنع الدندرمه، وكان أبي جالسًا في انتظاري، ابتسم لي.

          - هات النقود يا بائع الدندرمه!

          أعطيتُ أبي كل النقود التي في جيبي، عدّها بسرعة.

          - إنها لا تكفي إيجار العربة يا مصطفى! مكسب يومك ساح، كما ساحتْ الدندرمه في الحَرّ!

          أكملَ أبي الإيجار، ونادى على عمي أمين، وسَلّمه إيجار العربة، وألقى عليه السلام .وفي طريق العودة إلى البيت، سرتُ وراء أبي.. خجلًا منه.

          - يا مصطفى.

          أسرعتُ الخُطى إليه.

          - نعم يا أبي.

          - لا يهم المكسب الآن، المهم: المحاولة.

في طريق الربح

          قبل أن أنام دعاني أبي إليه.

          - لن أُكمِل لك إيجار العربة بعد اليوم يا مصطفى.

          وافقتُ أبي على ما يقول، وذهبتُ إلى غرفتي، وأخذتُ أراجع يومي. أحسستُ أن حُلّمي ضاع، وأنه لا يجب علي بعد الآن أن أبيع، أو أعمل شيئًا أحبه.

          خاصمني النوم . وجاءتْ أمي لتطمئن عليَّ.

          - ما بك يا مصطفى؟!

          حكيتُ لها عن تعبي من دفع العربة بعد أذان الظهر، وعن زملائي الذين ضايقوني، وعن الأطفال الذين أخذوا الدندرمه مجانًا ليساعدوني في دفع العربة، وعن حبي لبيع الدندرمه. ضمتني أمي إليها.

          - ساعد نفسك بنفسك، ولا تتخلَّ عن شيء تحبه، واعرف سبب خسارتك.

          ارتحتُ لكلام أمي، ونمتُ على الأمل والإصرار.

          في الصباح الباكر أيقظتني زقزقة العصافير، استعنتُ بالله، وصليتُ الصبح، وذهبتُ وحدي إلى عمي أمين.. صاحب مصنع الدندرمه. قابلني عمي أمين بابتسامة حلوة.

          - ماذا تريد يا مصطفى؟!

          - عربة دندرمه يا عم أمين.

          - أنت تبيع بالخسارة يا مصطفى، ووالدك أمس أكمل لك إيجار العربة.

          وتركني وحدي حينما نادى عليه أحد عُمَّاله، أحسستُ أن حُلمي ضاع مع الخسارة، كانت دموعي تغسلني من الفشل، ثم عاد عمي أمين.

          - لماذا لم تذهب إلى بيتك يا مصطفى؟!

          - أريد عربة دندرمه يا عم أمين.

          ابتسم عمي أمين، وضَمّني إليه.

          - يُعجِبني إصرارك يا مصطفى.

          وأعطاني العربة، وقال لي مبتسمًا:

          - كل يوم لك نصف صفيحة مملوءة بالدندرمه يا مصطفى.

          فرحتُ جدًا بالعربة هذا اليوم، ودفعتها بقوة وحب، وقبل أذان الظهر، بِعتُ كل الدندرمه وذهبتُ إلى عمي أمين، وأعطيته الإيجار، وعدتُ إلى البيت فرحًا بالربح.

حِكمَة عمي أمين

          جلستُ بجوار أبي ونحن نتناول طعام العشاء.

          - لقد كسبتُ اليوم يا أبي وأخرجتُ النقود، وأعطيتها له، ابتسم لي.

          - كسبت من التجربة يا مصطفى.

          فرحتي كانت أغنية جميلة تستمع إليها أسرتي، ووضعتْ أمي كوب العصير أمامي.. اشرب يا بائع الدندرمه، فرحتُ جدًا بمداعبة أمي لي، وبما حققته اليوم، المكسب بعد الخسارة شيء رائع . نظر أبي إليّ، والابتسامة تعلو وجهه.

          - احكِ لي ما حدث يا مصطفى.

          حكيتُ لهم عن الحل السحري الذي منحنى إياه عمي أمين، لقد أعطاني نصف صفيحة فقط مملوءة بالدندرمه، وقال لي:

          - أنت لا تستطيع العمل يومًا كاملًا يا مصطفى.

          - لقد علّمك حكمة صائبة يا مصطفى.

          - وما هي يا أبي؟!

          - «قليل دائم.. خير من كثير منقطع».

          وداومتُ على عملي طوال الصيف: أبيع كل يوم نصف صفيحة من الدندرمه، وأعود قبل أذان الظهر إلى البيت ومعي المكسب. لقد تعلّمتُ حكمة صالحة لكل وقت من عمي أمين.

 



تأليف: ممدوح عبدالستار   






غلاف هدية العدد