العودة إلى الأرض

العودة إلى الأرض
        

رسوم: حسام التهامي

          كان القلق والوجوم مرتسمين على أوجه أعضاء  مجلس الوزراء المجتمعين في القاعة الكبرى بالقصر الرئاسي لقارة أطلنطس. كان كل اثنين أو ثلاثة يجلسون متقاربين يتحاورون في همس. بعد قليل سمع الجميع صوت موسيقى يدركون معناه، فهبوا واقفين ينتظرون دخول الرئيس. انفتح باب في صدر القاعة، ودخل منه رجل تبدو على ملامحه سمات الوقار، حيث توجه إلى المقعد الخالي الموجود في صدر مائدة الاجتماعات وأشار لوزرائه بالجلوس. جلس الجميع في صمت منتظرين ما سيقوله الرئيس عن الأخبار السيئة الخطيرة التي أبلغهم بها في الصباح الباكر وزير البحث العلمي لقارة أطلنطس. ألقى الرئيس نظرة على المجتمعين لكي يتأكد من حضور جميع أعضاء مجلس الوزراء ثم بدأ في الحديث قائلا: أعرف أن وزير البحث العلمي أبلغكم  بالكارثة التي ستصيب قارتنا، ونحن مجتمعون الآن لكي نبحث عن الحلول التي تخرجنا بأمان من هذه الكارثة. ولكننا نريد أولا أن يقدم لنا الوزير تقريرا موجزا عن المعلومات التي لديه.

          فرد الوزير أمامه مجموعة من الأوراق فوق المائدة وراح يقرأ منها في صوت مضطرب:

          - نعم سيدي الرئيس، إن مرصد الأبحاث الجيولوجية يتنبأ بوقوع زلزال مدمر بعد شهر من الآن. أو بالضبط بعد تسعة وعشرين يوما وثلاث عشرة ساعة وسبع دقائق واثنتي عشرة ثانية. ستبلغ قوة هذا الزلزال سبعا وتسعين درجة، وهي قوة كافية لتدمير كل المباني الموجودة على سطح القارة مهما بلغت قوتها ومتانتها، بل إنها ستؤدي إلى غرق القارة نفسها تحت سطح المحيط.

          عاد الرئيس يدور بنظره على وزرائه وهو يقول: إن الحضارة التي بناها أجدادنا في آلاف السنين مهددة بالفناء. بل إن حياتنا وحياة أبنائنا في خطر شديد.وأريد أن أسمع آراءكم واقتراحاتكم للخروج من هذه الأزمة بسلام.

          رفع وزير الفضاء يده مستأذنا في الحديث ثم قال: سيدي الرئيس، لقد اجتمعت بخبراء الوزارة بعد سماع هذه الأنباء السيئة مباشرة، وهم يقترحون خطة للخروج من هذه الأزمة بأقل أضرار ممكنة.

          توقف الوزير قليلا ليرى أثر كلامه على وجوه زملائه، فبادره الرئيس قائلا: تفضل بعرض خطتك بسرعة، فليس لدينا وقت نضيعه.

          - نعم يا سيدي، تعلمون أن سفننا الفضائية قامت بزيارات متعددة للكوكب الأخضر، وأن الدراسات التي أجريناها على بيئة ذلك الكوكب أثبتت أنها مماثلة لبيئة كوكب الأرض تقريبا. ولذلك فإنه يصلح للحياة.

          - ما هو اقتراحكم بالضبط؟

          - إن لدينا عددا من سفن الفضاء الأسرع من الضوء يكفي لنقل كل سكان القارة إلى الكوكب الأخضر خلال خمسة عشر يوما. فإذا بدأنا في الهجرة إلى الكوكب الأخضر خلال الأيام القليلة القادمة نستطيع أن ننقذ أهل قارتنا من الفناء.

          - ولماذا لا نهاجر إلى إحدى القارات الأخرى على كوكبنا؟ أليس ذلك أسهل كثيرا؟

          تدخل وزير الثقافة والتراث في الحديث قائلا: هذا مستحيل يا سيدي. تعلمون أن أهل هذه القارات جميعا يعيشون حياة بدائية همجية كلها حروب وصراعات وقتال. إنهم لايزالون يعيشون في الكهوف وفوق أشجار الغابات. وأبحاث علمائنا تقول إنهم لن يبلغوا مستوى الحياة الذي بلغناه إلا بعد عشرين ألف عام. لن نستطيع أن نعيش وسط هؤلاء الناس.

          - ولكن كيف سيعيش عشرة ملايين من الناس على الكوكب الأخضر؟ لا بيوت لنا هناك ولا مصانع ولا مزارع ولا مدارس ولا جامعات. فهل نعيش في العراء؟

          تدخل وزير البناء والإنشاءات قائلا:  لا تقلق يا سيدي. تعلمون أن التقدم العلمي في قارتنا بلغ في القرن الأخير حدا مذهلا. ونحن نستطيع أن ننشئ فوق الكوكب الأخضر نسخة كاملة من كل بيت وكل طريق وكل مصنع أو مزرعة أو مبنى موجود على سطح قارتنا خلال خمسة عشر يوما على الأكثر. ولن يشعر أي مواطن أطلنطي بأنه انتقل إلى مكان غريب.

          كانت علامات القلق لاتزال مرتسمة على وجه الرئيس وهو يقف مؤذنا بانتهاء الاجتماع وموجها حديثه إلى وزرائه: نسقوا جهودكم معا وأعدوا خطة كاملة بأسرع وقت ممكن حتى نعرضها على الشعب. هذا قرار مصيري لا بد أن يقول الشعب رأيه فيه أولا.

          ذاع الخبر الخطير بين كل سكان أطلنطس، ولم يكن للناس حديث إلا عن الزلزال والدمار الذي سيجلبه. ولكن شيئا من الاطمئنان سرى بين الناس عندما علموا بتفاصيل خطة الهجرة إلى الكوكب الأخضر، فقد كانوا يريدون النجاة بحياتهم وحياة أبنائهم وبناتهم بأي طريقة من الطرق.

          في بيت صغير أنيق كان الدكتور أدهم يروح ويجيء  في غرفة المعيشة وقد سيطرت عليه حالة من القلق والاضطراب. بينما كانت زوجته الدكتورة حورية ترمقه من مكانها في ركن الغرفة وهي تهدهد طفلهما الرضيع في مهده الصغير. وفجأة بدأ الدكتور أدهم في الحديث بصوت مشحون بالتوتر والحزن:

          - كيف نهجر كوكبنا؟ كيف نهجر قارتنا؟ حتى لو أقمنا على الكوكب الأخضر نسخة من كل طوبة على قارة أطلنطس، فسوف نكون غرباء عن وطننا. إننا ننتمي لأهل كوكب الأرض حتى لو كنا نسبقهم بآلاف السنين في الحضارة والتقدم. وبدلا من أن نهرب ونترك كوكبنا علينا أن نجد حلا آخر يضمن لنا البقاء على كوكب الأرض.

          قالت الدكتورة حورية في صوت حنون وهي تحاول أن تهدئ من قلقه وحزنه: لا تيأس يا أدهم. يستطيع أهل أطلنطس أن يعودوا للأرض في الوقت الملائم، عندما يستطيع أهل القارات الأخرى أن يحققوا ما حققناه من تقدم وعلم وسلام.

          - بعد عشرين ألف عام؟ من الذي سيعود؟ أحفاد أحفاد أحفاد أحفادنا؟ ولماذا يعودون؟ سيكونون قد اعتبروا الكوكب الأخضر وطنهم وكوكبهم ولن يكون لديهم أي حافز للعودة إلى الأرض.

          - وما الذي بيدنا أن نفعله؟ هل نستسلم للزلزال الذي سيدمرنا جميعا؟ أم نذهب لنعيش في الكهوف وفوق الأشجار؟

          - لا. إن لدي خطة أخرى. سأعرضها اليوم في اجتماع المجلس العلمي، وإذا لم يوافقوا عليها، فسوف يكون من حقي أن أنفذها أنا وأنت وابننا ماجد. لا أريد أن يتربى ماجد خارج كوكب الأرض.

          في المساء كان أدهم يهبط الدرجات الخارجية لمبنى المجلس العلمي والغضب ظاهر على ملامح وجهه. تجمع الصحفيون حوله يحاولون معرفة ما دار خلف الأبواب المغلقة للمجلس العلمي، ولكنه أشاح بوجهه وتوجه إلى طائرته الخاصة الواقفة إلى جوار الرصيف وانطلق بها في سماء المدينة عائدا إلى بيته.

          عندما نظرت زوجة الدكتور أدهم إلى وجهه استنتجت ما دار في اجتماع المجلس العلمي، وعرفت أن المجلس رفض خطته البديلة. وعلى الرغم من أنه لم يكن أطلعها بعد على تلك الخطة فقد انتقلت إليها حالة الإحباط التي كانت تسيطر عليه.جلس الدكتور أدهم على أقرب مقعد في غرفة المعيشة ثم بدأ في الحديث بصوت خفيض:

          - رفضوا خطتي، ولكنهم أذنوا لي بأن أتصرف بالشكل الذي أقتنع به. ومعنى هذا أننا نحن الثلاثة نستطيع ألا نهاجر إلى الكوكب الأخضر.

          - وماذا سنفعل يا أدهم؟ لا تنس أن لدينا طفلا رضيعا.

          - ومن أجل هذا الطفل لن نهاجر.

          - ألن تطلعني على خطتك؟

          - بالتأكيد. ولكنهم طلبوا مني عدم الإعلان عنها حتى لا يتسبب ذلك في حدوث انقسام بين صفوف الشعب إلى مؤيدين ومعارضين لخطة الهجرة إلى الكوكب الأخضر.

          وبدأ الدكتور أدهم يشرح الخطة لزوجته:

          - سننطلق بسفينتنا الفضائية بسرعة الضوء. ثم نبدأ في الدوران حول كوكب الأرض. ولأننا نسير بسرعة الضوء فإن الزمن سوف يتوقف داخل سفينتنا الفضائية الخاصة.

          - ماذا تقصد يا أدهم بأن الزمن سوف يتوقف. أنا لا أدرك هذه الأمور جيدا، فأنت تعلم أنني طبيبة ولست مهندسة فضاء مثلك؟

          - يعني أننا نحن الثلاثة لن نتقدم في السن مهما مر الزمن فوق سطح الأرض، حتى ولو لآلاف السنين؟

          - ما زلت لا أفهم.

          - سوف أوضح لك. أليس الفارق الحضاري بيننا وبين بقية سكان الأرض عشرين ألف عام؟

          - نعم، هكذا يقول العلماء.

          - سوف نظل ندور حول الأرض لمد عشرين ألف عام بمقاييس الزمن الأرضي. ولكننا لن نشعر بمرور الزمن ولن  نتقدم في العمر ليوم واحد داخل سفينتنا الفضائية.

          - وماذا بعد ذلك؟

          - بعد عشرين ألف عام سيكون سكان القارات الأخرى قد وصلوا للمستوى العلمي والحضاري الذي نعيشه نحن الآن.

          - صحيح.

          - عند ذلك نعود إلى الأرض ونعيش حياة كالتي نعيشها الآن، وكأننا لم نفارق قارتنا ولا كوكبنا لحظة واحدة.

          - خطة رائعة يا أدهم. متى سنبدأ في الرحيل؟

          - في فجر الغد.

          عند الفجر كان الدكتور أدهم وزوجته يقفان فوق سطح البيت إلى جوار سفينتهما الفضائية الأسرع من الضوء. كانت الدكتورة حورية تحمل ابنهما الرضيع ماجد بين يديها والدموع تسيل على خديها. وبينما كان الدكتور أدهم يصعد الدرجات القليلة المؤدية إلى داخل السفينة راح يلوح بإحدى يديه في الفراغ ويقول وكأنه يحادث شخصا ما:  إلى اللقاء يا كوكبنا الحبيب، لن نغيب عنك طويلا.

          جلس أدهم على مقعد القيادة وأغلق باب السفينة بينما كانت زوجته تهدهد ماجد في فراشه الصغير كما كانت تفعل وهي في غرفة المعيشة في بيتهما الصغير على الأرض. ضغط أدهم على زر الانطلاق لكي تبدأ رحلة العشرين ألف عام.

          بعد ثوان كانت السفينة قد اتخذت مسارها حول الأرض التي كانت تظهر من خلال النافذة ككرة زرقاء صغيرة في حجم البرتقالة. وكان عداد مستدير صغير معلق على حائط السفينة يشير إلى السنوات التي قطعتها السفينة في الفضاء بمقياس الزمن الأرضي.

          كانت الدكتورة حورية تقضي الوقت بين هدهدة الصغير ماجد ومراقبة عداد الزمن الأرضي مترقبة لحظة العودة إلى الأرض، وبين النظر من نافذة السفينة وتأمل البرتقالة الزرقاء التي يغلبها الحنين إليها. وبعد زمن لا تعرف مقداره لاحظت أن عداد الزمن الأرضي يشير إلى رقم عشرة آلاف. فراحت تربت على كتف الدكتور أدهم وهي تقول:  لقد مرت عشرة آلاف عام، لماذا لا نعود إلى الأرض الآن؟

          - الآن؟ إنهم الآن يعيشون في عصر يسمونه القرن الواحد والعشرين، صحيح أنهم تقدموا كثيرا، لم يعودوا يعيشون في الكهوف ولا فوق الأشجار. أصبحت لديهم حضارة لا بأس بها، وبدأوا في السفر إلى الفضاء. ولكنهم لايزالون يمارسون الحروب ويقتلون بعضهم بعضًا، ويبددون الأموال في صنع أسلحة الدمار. لاتزال لديهم جرائم وسجون. ولايزالون يستعملون الوقود الحفري الذي يلوثون به الهواء. أمامهم عشرة آلاف عام أخرى لكي يصلوا إلى ما وصلنا إليه في قارة أطلنطس.

          - لا يهم. كل زمن وكل مكان يوجد فيه طيبون وأشرار. تعال نهبط الآن وسوف نجد ناسا طيبين نعيش بينهم.

          - ولكن قارة أطلنطس لم تعد موجودة. فقد دمرها الزلزال ودفنها تحت ماء المحيط.

          - هذا أيضا لا يهم. هناك ست قارات أخرى نستطيع أن نعيش في إحداها.

          - أي قارة تفضلين؟

          - ليس هناك فرق. المهم أن نعود إلى الأرض وأن نهبط في مكان يسود فيه الحب والسلام.

          - لا أستطيع أن أخالف لك رغبة. هيا بنا نعود إلى الأرض.

          وضغط الدكتور أدهم على زر الهبوط.

 



قصة: حمدي أبوكيلة