حَجُّ والدي: قصة: محمد عز الدين التازي

حَجُّ والدي: قصة: محمد عز الدين التازي
        

رسم: حلمي التوني

          في يَومٍ من الأَيَّام، دَعَانَا وَالِدِي الْمُسَمَّى السَّي إسماعيل التاجر بالقيسارية  إلى مجْلِسِهِ أَنَا وإِخْوَتِي فؤاد وعزيز وعائشة، وكانت والدتنا السيدة مريم حاضرة معه. استوى مجلسنا فقَالَ لَنَا:

          - تَعْرِفُونَ يَا أَبْنَائِي أَنَّ الْحَجَّ رُكْنٌ من أَرْكَانِ الإِسْلاَم.

          فَرَدَدْتُ، أنا أحمد، حتى أَسْبِقَ إِخْوَتِي في الجَوَاب:

          - نَعْرِفُ ذلك يا وَالِدِي.

          وبَادَرَ أَخِي الأَكْبَرُ فُؤَادٌ فَقَال:

          - هو الرُّكْنُ الخَامِسُ من أَرْكَانِ الإسْلاَم، بعد شهادة أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والصلاة والصوم والزكاة.

          وقَالَ أَخِي الأَصْغَر عَزِيز:

          - وهو وَاجِبٌ على من اسْتَطَاع إليه سبيلا.

          قالت أختنا عائشة:

          - لكن كل المسلمين يشتاقون إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأداء الشعائر.

          نَظَرَ إِلَيْنَا الوَالِدُ السي إسماعيل وهو يَبْتَسِم، وعَلاَمَاتُ الرِّضَا بَادِيَّةٌ على مُحَيَّاه، ودِينَارُ الصلاة من أَثَرِ السجود إلى الخالق سبحانه وتعالى بَادٍ على جبينه،  ثُمَّ قَالَ لَنَا بصوت واثق شديد الهدوء:

          - «بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ يَا أَبْنَائِي، أَنْتُمْ على عِلْمٍ بِأُمُورِ دِينِكُمْ، وأَنّه كما قال ولدي عزيز واجب على من استطاع إليه سبيلا، وأنا تَوَفَّرَتْ لِي الاِسْتِطَاعَةُ وعَزَمْتُ إِنْ شَاءَ اللهُ على أَنْ أُؤَدِّيَ فَرِيضَةَ الحَجّ. ولِكَيْ أَذْهَبَ مُطْمَئِنًّا فقد وَفَّرْتُ لَكُمْ كُلَّ ما تَحْتَاجُونَ إِلَيْه في البيت، بِاتِّفَاقٍ مَعَ وَالِدَتِكُمْ، ولَوْ كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَنْ يَبْقَى مَعَكُمْ لَكُنْتُ قَدْ أَخَذْتُهَا مَعِي لأداء مناسك الحج، لكنكم صغار، وتحتاجون إلى من يَرْعَاكم. أنا أعرف أن شوق زوجتي العزيزة مريم إلى زيارة المقام الشريف لا يَقِلُّ عن شوقي، لكن رعايتكم واجبة، وكُلُّ مَا أَطْلُبُهُ مِنْكُمْ يَا أَبْنَائِي، أحمد وعزيز وفؤاد وعائشة، فِي غِيَّابِي، هو أَنْ تَحْرِصُوا على طاعة والدتكم، وعلى النِّظَامِ في البَيْت، وأَنْ تَجِدُّوا في دِرَاسَتِكُم".

          أذهلتنا المفاجأة، فَانْعَقَدَتْ أَلْسِنَتُنَا. قال له أخي فؤاد:

          - حَجٌّ مبرور يا والدي.

          وقلنا له:

          - حَجٌّ مبرور إن شاء الله.

          أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ قَدْ قَامَ بِكُلِّ الاِسْتِعْدَادَات، وأَنَّهُ سَوْفَ يَتَوَجَّهُ إلى الْبِقَاعِ المقدسة بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّام.

          تَقَدَّمَ نَحْوَهُ أَخُونَا الأَكْبَرُ وقَبَّلَ يَدَه، فَفَعَلْنَا مِثْلَهُ أَنَا وباقي إخوتي، وانْسَحَبْنَا مِنْ مَجْلِسِه.

          بعد ثلاثة أيام جَاءَ يَوْمُ السَّفَرِ الْمَوْعُود، فَرَافَقْنَا وَالِدِي إلى المَطَار، وكَانَتْ هي الْمَرَّةُ الأُولى الَّتِي نَرَى فيها المَطَارَ أَنَا وإِخْوَتِي. رَدْهَةٌ كبيرة يَتَحَرَّكُ فيها مسافرون كثيرون إلى كل بقاع العالم، ولوحات إِلِكْتْرُونِيَّةٌ تُشير إلى مواعيد الرحلات، ومِنَصَّاتٌ لاستقبال المسافرين وأمتعتهم. سَلَّمَ والدنا وثائقه وأمتعته ثم أقبل على الدخول إلى مَعْبَرٍ للولوج إلى الطائرة. عانقنا وعانقناه. أحسسنا بِلَوْعَةِ الفراق. أوصانا بأن نَفْعَلَ خيرا بأنفسنا في غيابه، وأوصى والدتنا السيدة مريم بنا. مشى خطوات نحو المعبر ثم الْتَفَتَ نحونا. شَيَّعْنَاهُ بابتساماتنا ودعائنا له بأن يعود بالسلامة. ذهبنا ومَعَنَا وَالِدَتُنَا إلى شُرْفَةٍ تُطِلُّ على أَرْضِيَّةِ المَطَار، ولَمَّا صَعِدَ وَالِدُنَا سُلَّمَ الطَّائِرَة، اِلْتَفَتَ نَحْوَنَا وَلَوَّحَ لَنَا بِيَدِه، فأخذنا ندعو له بالحج المبرور والعودة الميمونة. سَرْعَانَ مَا تَحَرَّكَتِ الطَّائِرَةُ في اتِّجَاهِ مَمَرِّ الطَّيَرَان، فَتَبِعْنَاهَا بِنَظَرَاتِنَا، حتى ارْتَفَعَتْ في السَّمَاء، وبَدَتْ وهي تَصْغُرُ حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ نُقْطَةٍ في السَّمَاء.

          عدْنَا إلى البيت، فَأَحْسَسْنَا بِفَرَاغٍ كبير كان يَمْلَاُهُ والدنا. بَدَتْ لنا الدار مُوحِشَةً بدونه.

          مضت الأيام، وأخذنا نَعِيشُ معه كل اللحظات التي يَعِيشُهَا وهو في الحَجّ، نُتَابِِعُ المناسك التي يقوم بها. نقول لبعضنا:

          - ها هو يطوف ويُلَبِّي.

          - ها هو يُقَبِّلُ الْحَجَر الأسعد، في زيارته للكعبة المشرفة.

          - ها هو في منى.

          - ها هو على جبل عرفات.

          - ها هو يرمي الجمرات.

          كانت قلوبنا معه، ووالدتنا السيدة مريم الْقَانِتَةُ العابدة تُصَلِّي لله وتُرَدِّدُ مع ما كنا نشاهده على شاشة التلفزيون من طواف للحجاج حول الكعبة:

          - لَبَّيْكَ اللهم لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك والملك، لا شريك لك.

          عشنا تلك الأيام وقلوبنا مُفْعَمَةٌ بالإيمان، ونفوسنا مطمئنة، وكلما ازداد شوقنا إلى والدنا نعمل على طاعة والدتنا ونحافظ على نظام البيت، ونحرص على دراستنا، كما أوصانا الوالد، حتى جاء يوم تَلَقَّتْ فيه والدتنا السيدة مريم مكالمة هاتفية، وكانت من الوالد الحاج إسماعيل. تَلَقَّتِ الوالدة المكالمة بكثير من المفاجأة، فأخذت تسأل الوالد عن صحته وهو يُطَمْئِنُهَا ويَسْأَلُ عن أحوالنا. اجتمعنا حولها ننصت إلى المكالمة، فرغب الوالد في أن يسمع أصواتنا جميعا. تحدثنا معه، وكان بصوته الهادئ، المؤثر، يسألنا عن أحوالنا ويُطَمْئِنُنَا على صحته، ويَحُثُّنَا على مُضَاعَفَةِ الجُهُودِ في دِرَاسَتِنَا.

          مَضَتِ الأَيَّامُ سِرَاعًا، لكنها مع ذلك بدت أياما طويلة، ونحن نَشْتَاقُ إلى الوالد ونَتَرَجَّى عودته بالسلامة.

          جَاءَتْ مُكَالَمَةٌ هَاتِفِيَّةٌ أُخْرَى من الوَالِد، فأخذنا نَطْمَئِنُّ على صحته وسلامته. ثُمَّ أَخْبَرَتْنَا والدتنا بِأَنَّ مَوْعِدَ رُجُوعِهِ هو يَومُ الاِثْنَيْنِ القَادِم. فَرِحْنَا أَنَا وإِخْوَتِي، وزَادَ شَوْقُنَا إلى عَوْدَةِ وَالِدِنَا، نَقِيًّا طَاهِرًا مَغْفُورَ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَتْ لَنَا وَالِدَتُنَا.

          بَدَأَتْ والدتنا العديد من الاستعدادات لاستقبال والدنا الحاج إسماعيل، فقد أعدت الكثير من الحلويات لِتُقَدِّمَهَا لمن سوف يأتون للتهنئة، وأخبرت أفراد عائلتنا، من أعمام وأخوال وخالات، بأن العودة الميمونة لوالدنا الحاج إسماعيل ستكون في يوم الإثنين القادم.

          تَمَلَّكَنَا الشوق لِرُؤْيَتِه. في مَوْعِدِ وُصُولِهِ ذَهَبْنَا إِلى المَطَار، وأخذنا ننتظر. أُخْبِرْنَا بأن وصول الطائرة التي تحمل رقم الرحلة التي سوف يعود معها والدنا سوف يتأخر لخمس ساعات. بقينا في المطار نَنْتَظِر. كانت الساعات الخمس علينا أَحَرَّ من الجمر. بعد حين أخبرونا بوصول الطائرة وهي تَحُطُّ في المطار. هَرَعْنَا إلى ردهة الخروج. خرج حُجَّاجٌ كثيرون ونحن نَتَطَلَّعُ إلى سُحْنَاتهم. ثم رأينا الوالد الحاج إسماعيل. عانقنا وعانقناه. أمسك بيد والدتنا وهو يدعو لها بالدعوات الصالحة. كان نور من الأنوار الإلهية يُجَلِّلُ جَبِينه، ورغم ما ظهر على محياه من تعب، فقد اعترت سُحْنَةَ وجهه براءة طفولية. قمنا بأخذ حوائجه وخرجنا إلى خارج المطار، فركبنا السيارة، وانطلقنا نحو البيت.

          أخذ الوالد يُحَدِّثُنا عن المقام الشريف، والديار المقدسة، والأنوار الإلهية التي تَغْمُرُ قلوب البشر من كل جنس ولون وعِرْقٍ وقد قَدِمُوا إلى الحج إلى بيت الله الحرام من كل بِقَاعِ الأرض.

          بَعْدَ أَنِ اسْتَرَاحَ قليلا سَاعَدَتْهُ والدتُنَا على فَتْحِ حَقَائِبِه، فَأَخْرَجَ مِنْهَا عِدَّةَ هَدَايَا وَزَّعَهَا عَلَيْنَا، وكَانَ مِنْ نَصِيبِي قَلَمٌ فِضِّيٌّ أَعْجَبَنِي كَثِيرًا. أَخْرَجَ وَالِدُنَا هَدَايَا أُخْرَى، قَالَ إِنَّهَا مُخَصَّصَةٌ ِللأَهْلِ والأَصْدِقَاء، وكَانَتْ من بَيْنِهَا طَوَاقٍ وسُبْحَاتٌ وسِجَّادَاتٌ لِلصَّلاَة، وتَمْرٌ وأَحْقَاقٌ من التنك مختومة أخبرنا بأنها تحتوي على ماء زمزم.

          بَدَأَتْ وَالِدَتُنَا السيدة مريم تَسْتَعِدُّ ِلإِقَامَةِ حَفْلِ عَوْدَةِ وَالِدِنَا الحاج إسماعيل، فَوَضَعَتِ الحَلَوِيَّات والمشروبات على الموائد، وما هي إلا هنيهة حتى حضرت فرقة الْمُنْشِدِينَ فأَخَذَتْ مكانها في المجلس، وبدأ المهنئون يَتَقَاطَرُون، فقدم لهم الوالد السبحات والطواقي والسجادات، وقدمت لهم الوالدة تمرات وقطرات من ماء زمزم فَتَبَرَّكُوا بها.

          أنشدت الفرقة مدائح نبوية بأصوات حسنة، وتَجَلَّلَ بيتنا بِأَنْوَارِ محبة الخالق ورسوله الكريم.

          حكى والدي لأعمامي وأخوالي ولمن جاؤوا لاستقباله من أصدقائه التجار أشياء كثيرة عن الحَجِّ إلى بيت الله الحرام، وسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفريضة الحج التي تُرَسِّخُ إيمان المؤمن بالله وبرسوله الكريم، وكان وهو يَتَحَدَّثُ طَلْقَ المُحَيَّا، يًعْلُو وجهه نور من الأنوار الإلهية.

 



محمد عز الدين التازي