بمناسبة مرور قرن ونصف القرن على ميلاد الرسام الموهبة المغربي محمد بن علي الرباطي (1861 - 1936)

بمناسبة مرور قرن ونصف القرن على ميلاد الرسام الموهبة المغربي محمد بن علي الرباطي (1861 - 1936)
        

مهارته في الرسم فاقت براعته في الطبخ

          دعا الرسام الإيرلندي «جون لافيري» ( John Lavery) صديقه «جيمس» خلال آخر زيارة له للمغرب سنة 1920 لتناول كوب من الشاي بأحد المقاهي الشعبية في مدينة طنجة (المغرب): «المقهى المركزي»... وضع أمامه على الطاولة اللوحة التي رسمها وأهداها له صديقه والذي كان من قبل طباخه محمد بن علي الرباطي، وهي بالألوان المائية (82 × 69 سنتيمترا).

          التفت لصديقه قائلا: «.. ما أشبه الأمس باليوم... تعود بي الذاكرة إلى سنة 1890، عندما قدمت لأول مرة للمغرب وأسرني سحر جمال هذه المدينة وطيب أهلها وموقعها الممتاز كجسر بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، يوصل جنوبه الأفريقي المغربي بشماله الأوربي الإسباني، وقررت الإقامة بها لمدة أنا وأسرتي الصغيرة، زوجتي الراحلة وابنتي «أيلين» (Eileen) الحديثة الولادة... كنت ميسور الحال كرسام لدى التاج البريطاني... لكن الأحوال الصحية لزوجتي ساءت خلال هذه السنة... استأجرت منزلا ووظفت لدي السيد محمد بن علي الرباطي طباخا، الذي وُلد بمدينة الرباط (المغرب) سنة 1861، وما لبث أن هاجر منها للاستقرار بطنجة... تقلب بين عدة مهن من النجارة إلى الحدادة والصباغة، لكنه كان مولعا بالطبخ، وبالفعل كان طباخا بارعا، أذاقني أشهى الأطباق المغربية.. في أحد الأيام، اكتشفت عن طريق الصدفة أن محمد بن علي الرباطي، طباخ يتعاطى الرسم في أوقات فراغه... وجدته في إحدى غرف البيت جالسا على كرسي، واضعا على ركبتيه لوحة عليها ورقة ويرسم بالصباغة المائية بتأنٍ وتركيز... كانت دهشتي كبيرة : لقد كان كتوماً من جهة ومتسترا على موهبته التي أبهرتني، ومن جهة ثانية غمرتني السعادة لاكتشاف رسام وفنان قدير يعيش معي وأتقاسم معه أوقات اليوم من دون علمي بموهبته الفطرية، التي لم يتلق من أجلها دروسا أكاديمية... كانت رسوماته رائعة، تعكس بعضاً من مظاهر الحياة اليومية التي كان يرسمها بدقة وبشكل أصيل، في المناسبات الدينية والأعياد والاحتفالات والمشاهد الطبيعية... سجل بالألوان الصافية الوجوه والمظاهر العمرانية للبيوت المغربية والمدينة... لم يصادف حدثا إلا رسمه بكل تفاصيله، وأضفى عليه جمالية الطابع المغربي العربي الإسلامي الإفريقي.

          قررت احتضان هذه الموهبة، ونظمت له معارض كنت أدعو لها في منزلي بعض الوجوه المهتمة من البعثات الديبلوماسية بطنجة والشخصيات الأجنبية... وعرضت عليه الانتقال معي إلى لندن (إنجلترا)، وهناك أدخلته إلى مدرسة لتعلم قواعد الطبخ الأوربي، واستمر إلى جانب ذلك في إنجاز رسوماته التي تكفلت بعرضها في أشهر رواق فني بلندن: «رواق كوبيل» (la galerie Goupil) ويعتبر بذلك محمد بن علي الرباطي أول رسام مغربي وربما عربي ينال حظوة عرض منتجاته بهذا الرواق المشهور الذي احتضن إبداعات أشهر رسامي القرن... نالت رسوماته إعجاب المجتمع الفني البريطاني الذي اعترف بنبوغه ومهارته... لكن مع كل ذلك ضاقت نفسه في انجلترا، فقرر الانتقال إلى فرنسا أواخر سنة 1916.. وقد وصلني خطاب منه، أخبرني بأنه أقام بمدينة «مرسيليا»  (فرنسا) معرضا بعد أن وجد عملاً له في معمل للسكر  بمدينة «سان لوي»... أما هذه اللوحة، فتذكرني بحلقة الحكواتي في هذا الفناء بعد صلاة العصر التي يقصدها الصغار والكبار للاستمتاع بحكايات ألف ليلة وليلة بأسلوب شائق أخاذ، أو سيرة سيف بن ذي يزن أو عنترة العبسي... وكان الفضول يدفعني، رغم عدم اتقاني اللغة العربية إلى متابعة هذا العرض الذي يحج إليه ويتابعه بنهم وشغف الصناع التقليديون الذين يجدون فيه وسيلة للاستراحة والترفيه من عناء يوم شاق... وكان محمد بن علي الرباطي من حين لآخر يترجم لي، بعد أن وفق في تعلم القليل من اللغة الإنجليزية وأنا بدوري آنذاك القليل من اللغة العربية... آه، أحن للقائه وهو الآن بفرنسا، لقد كان طباخا ماهرا، لكن مهارته في الرسم فاقت براعته في الطبخ.

 



بقلم: أحمد واحمان