رَحَلْـتُ.. ورَأَيْـتُ: تيمورُ.. ذاتُ الْفَصْلَيْنِ!: إعداد: العربي بنجلون

رَحَلْـتُ.. ورَأَيْـتُ: تيمورُ.. ذاتُ الْفَصْلَيْنِ!: إعداد: العربي بنجلون
        

رسم: ماهر عبدالقادر

          في لَيْلَةٍ مِنْ لَيالي الشِّتاءِ الْعاصِفَةِ، رَأَيْتُ فيما يَرى النَّائِمُ، وأنا على فِراشي، رِياحاً قَوِيَّةً تُطَيِّرُ ثِيابي قِطْعَةً قِطْعَةً، وطُيوراً في أعْشاشِها تَضْحَكُ مِنِّي بِصَوْتٍ عالٍ. ولَمَّا أخَذَتْ أطْرافي تَرْتَعِدُ، وأسْناني تَصْطَكُّ مِنَ الْبَرْدِ الْقارِسِ، تَبادَلَتِ الطُّيورُ نَظَراتٍ حَزينَةً، كَأَنَّها أشْفَقَتْ على حالي، فَنَزَلَتْ مِنْ أعْلى أشْجارِها، وكُلٌّ مِنْها يُعْطيني ريشَةً، حَتَّى كَسا ريشُها جِسْمي، وأصْبَحَتْ يَدايَ جَناحَيْ طائرٍ كَبيرٍ!

          سَأَلْتُ الطُّيورَ مُتَعَجِّباً مِنْ سُلوكِها: شُكْراً على هَدِيَّتِكِ الْغالِيَةِ الَّتي أدْفَأَتْني! لَكِنْ، لِماذا ضَحِكْتِ مِنِّي، ثُمَّ أشْفَقْتِ عَلَيَّ؟!

          رَدَّ قائِدُها باسِماً: وهَلْ تَظُنُّ أنَّنا نَسينا فَضْلَكَ عَلَيْنا؟! لا لا، لَطالَما زُرْتَنا في هَذِهِ الْغابَةِ، ونَثَرْتَ لَنا الْخُبْزَ فُتاتاً، فَأشْبَعْتَ بُطونَنا الْجائعَةَ. كما أنَّكَ لَسْتَ مِنَ الأطْفالِ الْمُتَهَوِّرينَ، الَّذينَ يَرْشُقونَنا بِالْحَجَرِ، لِيَصْطادونا ويَسْجُنونا في الأقْفاصِ، فَيَحْرِمونا مِنَ الْحُرِّيةِ والأكْلِ! والآنَ، يُمْكِنُكَ أنْ تُغادِرَ حالاً هَذا الْمَكانَ الْبارِدَ إلى آخَرَ دافِئٍ، قَبْلَ أنْ تُصيبَكَ نَزْلَةُ بَرْدٍ!

          سَأَلْتُهُ، والْفَرْحَةُ تَغْمُرُ قَلْبي: أيَّ مَكانٍ تَعْني؟

          فَكَّرَ قَليلاً، ثُمَّ أجابَني: مَثَلاً، لِماذا لا تَقْصِدُ (تِيمورَ) ذاتِ الْفَصْلَيْنِ: الشِّتاءُ مِنْ شَهْرِ نوفَمْبَر إلى شَهْرِ مارِس، والصَّيْفُ مِنْ يونْيو إلى أكْتوبَر. وفَصْلُ شِتائِها دافِئٌ، لَنْ تُحِسَّ فيهِ بِبَرْدٍ. ولِهَذا يَعْني اسْمُها (الشَّمْسَ الْمُشْرِقَةَ). كما يُطْلِقونَ عَلَيْها «جَزيرَةَ التِّمْساحِ» فَقِصَصُها الْخُرافِيَّةُ تَحْـكي أنَّ أرْضَها كانَتْ في الْعُصورِ الْقَديـمَةِ تِمْساحاً ضَخْماً، ثُمَّ تَحَوَّلَ إلى جَزيرَةٍ، يُحيطُ بِها الْماءُ مِنْ كُلِّ جِهاتِها، فَأقْبَلَ عَلَيْها النَّاسُ مِنْ كُلٍّ الْبُلْدانِ لِيَسْكُنوها. ورُبَّما يَقْصِدونَ بِهَذا التَّشْبيهِ أنَّ سُكَّانَها أقْوِياءُ، مِثْلَ التَّماسيحِ الَّتي تَتَوَفَّرُ على أذْنـابٍ وأسْنـانٍ قَوِيَّةٍ، بِضَرْبَةٍ مِنَ الأولى تَكْسِرُ الشَّجَرَةَ، وبِعَضَّةٍ مِنَ الثَّانِيةٍ، تَقْسِمُ الْفَريسَةَ نِصْفَينِ!

          وأيْنَ توجَدُ هَذِهِ الْبِلادُ، أنا لَمْ أسْمَعْ بِها مِنْ قَبْلُ؟!

          توجَدُ تِيمورُ في الْجَنوبِ الشَّرْقِيِّ لِلأَرْخَبيلِ (مَجْموعَةُ جُزُرٍ) الأَنْدونيسِيِّ يَفْصِلُ بَيْنَهُما الْبَحْرُ، وبَيْنَ أقْصى الشَّمالِ الْغَرْبِيِّ لأُسْتْرالْيا. وتَبْلُغُ مِساحَتُها حَوالَيْ واحِدٍ وخَمْسينَ ألْفَ كيلومِتْرٍ (تَزيدُ بِالتَّصَحُّرِ الَّذي يَمْتَدُّ إلى الْبَحْرِ) وعَدَدُ سُكَّانِها قَليلٌ، لا يَتَعَدَّى مِلْيونَ نَسَمَةٍ!

          فَرِحْتُ كَثيراً، فَشَكَرْتُهُ، ثُمَّ أطْلَقْتُ جَناحَيَّ لِلرِّيحِ، فَرَفْرَفا بي في الْجَوِّ، وأنا أُحيِّي الطُّيورَ على جَميلِها وكَرَمِها. وبَقيتُ مُحَلِّقاً في السَّماءِ، إلى أنْ ظَهَرَتْ لي مِنْ بَعيدٍ جَزيرَةٌ، يَعْلوها عَلَمٌ ذو ألْوانٍ أرْبَعَةٍ:

          أحْمَرُ كَثيرٌ، يُشيرُ إلى حِمايَةِ الْمُواطِنِ التِّيْموري لِوَطَنِهِ.

          أصْفَرُ قَليلٌ، يُشيرُ إلى الْمُسْتَعْمِرِ الْمَطْرودِ.

          أسْوَدُ شَديدٌ، يُشيرُ إلى الْجَهْلِ والْفَقْرِ والْمَرَضِ.

          أبْيَضُ في شَكْلِ نَجْمَةٍ، يُشيرُ إلى الْعِلْمِ الَّذي سَيَقْضي على السَّوادِ، والْمَثَلُ يَقولُ: «الْعِلْمُ نورٌ والْجَهْلُ عارٌ».. وبِجانِبِهِ شِعارٌ، يَحْمِلُ ثَلاثَ كَلِماتٍ: شَرَفٌ، وَطَنٌ، شَعْبٌ.

          قُلْتُ في نَفْسي: إنَّها جَزيرَةُ تيْمورَ الشَّرْقِيَّةِ، الَّتي يُحاوِلُ سُكَّانُها أنْ يَبْنوها بِالْعِلْمِ والْمَحَبَّةِ والتَّعاوُنِ!

          ونَزَلْتُ في عاصِمَتِها (دَيْلي) فَوَجَدْتُها خَليطاً مِنَ السُّكَّانِ، الَّذينَ يَتَكَلَّمونَ لُغاتٍ مُتَنَوِّعَةً ومُخْتِلِفَةً، مِنْهُمْ صينِيُّونَ ومَلايونَ وأنْدونيسِيُّونَ، يَسْتَعْمِلونَ اللُّغَةَ الْبُرْتُغالِيَّةَ والتِّيتومِيَّةَ والإنْجَليزِيَّةَ، وأرْبَعَ عَشْرَةَ لَهْجَةً. لَكِنَّهُمْ مُتَحابُّونَ، مُتَفاهِمونَ، مُتَعاوِنونَ، مُتَساوونَ، كَأسْنانِ الْمُشْطِ، وإنْ كانَتْ لِكُلِّ مَجْموعَةٍ مِنْهُمْ تَقاليدُها وعاداتُها وقَوانينُها وحُكَّامُها. فَمازِلْتُ أذْكُرُ، أنَّني كُنْتُ ماراًّ بِإحْدى الْقُرى، فَشاهَدْتُ سُكَّانَها مُتَحَلِّقينَ في ساحَةٍ. تَقَدَّمْتُ مِنْهُمْ شَيْئاً فَشَيْئاً، حَتَّى وَصَلْتُ إلَيْهِمْ، فَوَجَدْتُ رَجُلاً حافِيَ الْقَدَمَيْنِ، يَرْتَدي قُفْطاناً فَضْفاضاً (واسِعاً) جالِساً على كُرْسِيٍّ خَشَبِيٍّ هَزَّازٍ، يَمْثُلُ أمامَهُ (يَقِفُ) رَجُلانِ.

          ولَمَّا سَألْتُ طِفْلاً في سِنِّي عَنْهُمْ، أجابَني: الرَّجُلُ الْجالِسُ، هُوَ سُلْطانُ جَماعَتِنا. يُسَيِّرُنا ويُدَبِّرُ أُمورَنا ويَحْكُمُ بَيْنَنا. والْواقِفانِ هُما الْمُدَّعي والْمُدَّعى عَلَيْهِ! اُنْظُرْ كَيْفَ سَيَحْكُمُ بَيْنَهُما!

          سَألَ السُّلْطانُ الْمُدَّعِيَ:

          لِمَ تَشْكو مِنْ هَذا الرُّجُلِ؟

          أخْطَأتْ مِعْزَتي الْعَمْياءُ، ودَخَلَتْ حَظيرَتَهُ، فَأتاها بِسُرْعَةٍ، وأغْلَقَ عَلَيْها الْبابَ!

          إذَنْ، تُريدُ أنْ تَقولَ إنَّهُ سَرَقَها!

          أجَلْ، سَيِّدي السُّلْطانَ!

          نَطَقَ الْمُدَّعى عَلَيْهِ:

          لا، سَيِّدي! أنا لَسْتُ لِصاًّ!

          اِبْتَسَمَ السُّلْطانُ، وسَألَهُ:

          ولِماذا حَبَسْتَ مِعْزَتَهُ؟!

          تَسَلَّلَتْ إلى حَظيرَتي، لِتَأْكُلَ حَشائِشَ ماشِيَتي!

          وهَلِ الْمِعْزة عاقِلَةٌ، فَتُفَرِّقَ بَيْنَ حظيرَتِكَ وحَظيرَتِها؟.. إذَنْ حَكَمْنا عَلَيْكَ بِرَدِّ الْمِعْزة إلى صاحِبِها، وإحْضارِ جاموسٍ إلى حَظيرَتِنا، عِقاباً لَكَ على حَبْسِ الْمِعْزة الْبَريئةِ!

          غادَرْنا الْحَلْقَةَ، ونَحْنُ نَضْحَكُ مِنَ السُّلْطانِ الْحافي الْقَدَمَيْنِ. سَألْتُهُ: هَلْ تُرَبُّونَ الْحَيَواناتِ فَقَطُّ؟

          رَدَّ قائلاً: لا، يَعْتَمِدُ اقْتِصادُنا على تَرْبِيَةِ الْحَيَواناتِ، وزِراعَةِ الأُرْزِ والذُّرَةِ، والْبَطاطِسِ والْفولِ والْمَوْزِ، والأشْجارِ الَّتي تَمُدُّنا بِالْخَشَبِ، وكَذا نَصْنَعُ أنْواعاً مِنَ الرُّخامِ، ونَسْتَخْرِجُ كَمِّياتٍ كَبيرَةً مِنَ النَّفْطِ. كما أنَّ جَزيرَتَنا تَتَوَفَّرُ على شَواطِئَ جَميلَةٍ، وجِبالٍ شاهِقَةٍ (عالِيَةٍ جِداًّ) ومُدُنٍ تاريـخِيَّةٍ، يَأْتيها السُّيَّاحُ مِنْ كُلِّ دُوَلِ الْعالَمِ. فَفي مَدينَةِ «بايوكايو» يوجَدُ الْقَصْرُ الْفَخْمُ (الْقَرَنْفُلي)، وفي «مِيوبيسي» دورٌ عَتيقَةٌ، تُحيطُ بِها الأشْجارُ والتِّلالِ (أراضٍ مُرْتَفِعَةٌ قَليلاً). ويَمْتَدُّ في مَدينَةِ «سيمْ» شاطِئٌ ساحِرٌ، تُزَيِّنُهُ الْحَدائقُ والْبُيوتاتُ الْخَشَبِيَّةُ الْمُزَخْرَفَةُ. وإذا كُنْتُ تُريدُ أنْ تُشاهِدَ الشِّعابَ الْمَرْجانِيَّةَ (كائِناتٌ حَيَّةٌ ثابِتَةٌ، تَنْمو رَأْسِياًّ) والطُّيورَ الْقَليلَةَ الْوُجودِ في الْعالَمِ، فَما عَلَيْكَ إلاَّ أنْ تَزورَ (لوسْ بالوسْ). وفي (أتايورو) يُمْكِنُكَ أنْ تَسْتَرْخِيَ على شاطِئِها، والْحيتانُ والدَّلافينُ أمامَكَ، تَحْرُسُكَ تارَةً، وتارَةً تَطْفو فَوْقَ الْماءِ، وتَغوص في نَشاطٍ وسُرورٍ كَبيرَيْنِ، كَأنَّها تُسَلِّيكَ وتُرَفِّهُ عَنْكَ بِألْعابِها الْبَهْلَوانِيَّةِ. وتَسْتَطيعُ أنْ تُمارِسَ رِياضَةَ تَسَلُّقِ الْجَبَلِ، وتُمَتِّعَ عَيْنَيْكِ بِمَناظِرَ وَطَني الْفاتِنَةِ في قِمَّةِ (راميلْيو)!

          قُلْتُ لَهُ مُؤَكِّداً: الآنَ، عَرَفْتُ لِماذا كانَ الْبُرْتُغالِيُّونَ يَحْتَلُّونَ بِلادَكَ مِنْ سَنَةِ 1859 إلى 1975.

          في ذَلِكَ الْحينِ، قَفَزَ فَأرٌ كَبيرٌ مِنْ داخِلِ جُحْرٍ في شَجَرَةٍ، وجَرى مِنْ أمامِنا، فَأطْلَقْتُ صَيْحَةً، جَعَلَتِ الطِّفْلَ يَنْفَجِرُ ضحِكاً: لِماذا تَضْحَكُ مِنِّي؟!..ألاتَخافُ مِنَ الْفِئْرانِ؟!

          أجابَني بِثِقَةٍ: كَيْفَ أخافُ الْفِئْرانَ، وهِيَ توجَدُ في كُلِّ مَكانٍ مِنْ بِلادي؟!.. لا تَنْسَ أنَّ الْفَأرَ عِنْدَنا يَزِنُ مِائَةً وخَمْسينَ جراماً، وأنَّ الْعُلَماءَ عَثَروا في أرْضِنا على أقْدَمِ فَأْرٍ في التَّاريخِ، يَزِنُ سِتَّةَ كيلوجراماتٍ، وأنَّ النَّاسَ، قَبْلَ أنْ يَتَعَوَّدوا على أكْلِ الْخُضَرِ والْفَواكِهِ، كانوا يَأْكُلونَ الْفِئْرانَ السَّمينَةَ!

          قاطَعْتُهُ باسِماً: هَيَّا نَزُرْ هَذِهِ الْمُدُنَ والْجِبالَ والشَّواطِئَ، وعِنْدَما نُريدُ أنْ نَتَناوَلَ غَذاءَنا، نَصْطادُ فَأْراً فَتِياًّ.. عَفْواً، أقْصِدُ سَمَكاً طَرِياًّ!

 



إعداد: العربي بنجلون