«آراء أهل المدينة الفاضلة» للعالم الفارابي

المدن كالبشر إما أن تمنحك شعورًا بالسعادة وتشعر معها بالراحة والأمان، وإما أن تنفر منها وتشعرك بالغربة وعدم الاطمئنان.. ولأن السعادة ظلت دومًا حلمًا لكل البشر في كل العصور والأزمان، رسم صديق اليوم لوحة للمدينة السعيدة يختلط فيها العلم بالأدب بالألوان والألحان.. لوحة نقترب منها أصدقائي، نلمس تفاصيلها الدقيقة التي رسمتها أنامل المعلم الثاني العالم أبو النصر محمد بن طرخان، الذي ولد في بلدة «فاراب» في خراسان فكان فاري الأصل، تركي الموطن، ولم تكن بلدته الصغيرة فاراب، التي تسمى باسمها فصار لقبه، الفارابي، لم تكن قادرة على أن تتسع لعقله وطموحه الفكري فرحل لمدينة العلم والثقافة آنذاك، مدينة بغداد، فدرس علوم المنطق والفلسفة والرياضيات والموسيقى والأخلاق، وكان يرى أن مفتاح هذه العلوم هو دراسة اللغة التي كتبت بها، فأتقن الفارسية والتركية والعربية واليونانية، ودرس مؤلفات أرسطو المعلم الأول. وإن كان الفارابي المعلم الثاني بعد أرسطو، فهو يعد المعلم الأول لفيلسوفين وطبيبين عظيمين، لولاه ما استطاعا أن يصلا لقمة العلم، إنهما العالم العربي والفيلسوف ابن رشد والشيخ الرئيس ابن سينا، الذي قرأ كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو أربعين مرة حتى عثر على شرح الفارابي للكتاب الذي غير مسار حياته، فأقبل على العلم بقلب محب وعقل متفتح. كان للفارابي أسلوب متميز دقيق لا تكرار فيه، يعطي أعمق المعاني بأقل وأبسط الكلمات، لذلك كان صديق اليوم كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» مرجعًا لكل دارسي الفلسفة وعلم الاجتماع وعلى رأسهم مؤسس علم الاجتماع العالم العربي ابن خلدون.

سبق الفارابي الإنجليزي «توماس مور» الذي ألَّف اليوتوبيا وهي المدينة الفاضلة بأكثر من خمسمائة عام، واهتم المستشرقون بصديق اليوم أملًا في تحقيق المدينة الفاضلة التي وضع الفارابي أساسها، فترجم كتابه المستشرق الهولندي «ديتريش» بلندن عام 1895م، كما طبع في بيروت عام 1959م.

البشر على اختلافهم لا يستطيعون الحياة بمفردهم، بل يحتاجون للتعاون في ما بينهم والحياة في مجتمعات، والمدينة الفاضلة التي ينشدها البشر، هدفها تحقيق السعادة التي لا تتحقق إلا بالفضيلة والعلم والحق والعدل.

صديق اليوم كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة»، يرسم فيه الفارابي لوحة للمدينة الفاضلة، فكما أن كل عضو في الجسد خصه الله تعالى بعمل معين إن قام به على أكمل وجه، صار الجسم صحيحًا قادرًا على  العمل بنشاط، فهكذا المدينة الفاضلة أهلها أشبه بأعضاء الجسد، وكما أن القلب هو العضو الرئيسي في الجسد تخدمه جميع الأعضاء، فكذلك رئيس المدينة هو القلب النابض فيها تنفذ جميع الأعضاء سياسته بشرط أن تتوافر فيه الخصال الحميدة، فيكون محبًا للعلم والعلماء، عادلًا، قنوعًا، قوي العزيمة، حسن العبارة، جسورًا، صبورًا، حكيمًا، ليستطيع أن يقود أمته بالتعاون بين أبنائها، تمامًا كقائد الأوركسترا يؤلف بين العازفين فيلتزم كل منهم بالنوتة الموسيقية ليخرج اللحن النهائي عذبًا يطرب الآذان ويمنح النفس الإحساس بالسعادة، فينتشر الجمال ويسود الحب. صديق اليوم كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» لعب دورًا أساسيًا في تاريخ الفكر الإنساني.. ولايزال حلم الفارابي بمدينته الفاضلة التي كان التعاون والحب بين البشر أساسها يداعب خيال البشر في كل زمان ومكان.