رحلة إلى غابات القصرين في جنوب غرب تونس الخضراء.. الشّافي طفّاي العوافي

أصدقائي العرب الصّغار، دائما ما كنّا نسمع في الأساطير القديمة عن النّبوءات  التّي يتنبّأ بها أناس طيّبون وصالحون أو سحرة أشرار وتستمرّ الحكاية حتّى نعرف كيف تحقّقت النّبوءة..، لكنّ ذلك كلّه من نسج الخيال.. حكايات للتّسلية وتمضية الوقت لأنّ الأقدار كلّها بيد الله سبحانه وتعالى، لكنّني أخيرًا سمعت حكاية حقيقيّة من صاحبي «أكرم» تعلّمت منها الكثير وأوّل ما علّمتني هو أنّ الله سبحانه وتعالى يساعدنا في تحقيق النّبوءات الطيّبة إذا ما توافّرت لنا إرادة قويّة وعزيمة صادقة ونيّة مخلصة.

لكنّني وقبل أن أحكي لكم حكاية صديقي أو حكاية أبيه بمعنى أدقّ، لابدّ وأن أشرح لكم شيئا يتعلّق بلهجات العرب.. فنحن عرب المشرق نستخدم كلمة «العافية» بمعنى «الصحّة» أو «القوّة»، بينما يستخدمها «عرب المغرب» أي شعوب «المغرب العربي» في المنطقة المغاربيّة التّي تمتدّ من شمال غرب مصر وصولا إلى أقصى «المملكة المغربيّة» عبر «ليبيا» و«تونس» و«الجزائر» بمعنى آخر..

فكلمة «العافية» في هذه المنطقة خاصّة في «الرّيف التّونسي» وبعض مناطق «الجزائر» و«المملكة المغربيّة» تستخدم بمعنى «النّار».. فيقولون للنّار العافية ربّما بسبب قوّة النّار وقدرتها المرعبة على التّدمير..، وتستعمل العافية بمعنى النّار عند بدو شمال غرب مصر وكذلك مناطق من ليبيا الشّقيقة.

وهذه المناطق شهدت حروبا كثيرة أيضًا، منها معركة القصرين، أثناء الحرب العالمية الثانية، بين سنتي 1939 و1945م.

نعود إلى حكاية صديقي «أكرم» ابن منطقة «القصرين» في جنوب غرب «تونس الخضراء»، فقد روى له والده «عمّ ميداني» أنّ أباه، أي جدّ صديقي أكرم، اصطحبه عندما كان صغيرا لزيارة أحد الرّجال الصّالحين وهو «سيدي علي الحطّاب» وعندما سأل عن اسم ذلك الولد الصّغير أجاب الأب قائلا: «اسمه ميداني».. لكنّ «سيدي علي الحطّاب» قال له: «لا، اسمه الشّافي طفّاي العوافي». أي الشّافي الذّي يطفئ النّار».

مرّت السّنون وكبر الصّبي «ميداني» الذّي أصبح مهندسا زراعيّا لكنّ كلمات «سيدي علي الحطّاب» لم تفارق ذهنه.. كان يتذكّرها مبتسما متسائلا: كيف لمهندس زراعي أن يقوم بدور «رجل الإطفاء»؟

لم تتأخر إجابة السّؤال كثيرا على المهندس «ميداني الفالحي» فقد تمّ نقله لإدارة الغابات في ولاية «القصرين»، وأخطر مشكلة تواجه تلك الإدارة هي حرائق الغابات التّي تلتهم جزءا كبيرا من ثروة البلاد الخشبيّة وأشجارها المثمرة، فضلا عن تهديد منازل السكّان ومحاصيلهم الزّراعيّة القريبة من تلك الغابات.

هكذا استيقظت النّبوءة أو الحلم في ذهن المهندس الزّراعي «ميداني الفالحي» والتّي ربّما كبرت معه منذ كان صبيّا، ولكن كيف يحقّق نبوءة الرّجل الصّالح وأبيه الذّي أعجبه الاسم الذّي أطلقه عليه «سيدي علي الحطّاب» حتّى أنّه يناديه به دائما «الشّافي طفّاي العوافي» وكأنّه نسي أو تناسى اسم «ميداني»؟

كان المهندس «ميداني» يحدّث نفسه قائلا: «ولم لا؟

لم لا أشفي غابات بلادي من أخطار الحرائق وأسيطر على النّيران؟

لم لا أطفئ تلك النّيران فأكون اسما على مسمّى «الشّافي طفّاي العوافي»؟

كيف يمكنني ذلك؟.. لا بدّ من إرادة قويّة ورغبة وإخلاص كي يتحقّق الحلم.

بدأت رحلة المهندس «ميداني» مع مكافحة الحرائق، كان الرّجل قد تعلّم من خلال دراسته أنّ كلّ ما وصل إليه الإنسان من تقدّم وتطوّر كان بفضل العلم والتّجربة والدّراسة والتّدريب، فأحضر الكتب المتخصّصة في «حرائق الغابات» وكلّ الدّراسات المنشورة عنها، وطلب من رؤسائه إرساله في بعثات دراسيّة وتدريبيّة كي يتعلّم ما وصلت إليه الدّول المتقدّمة في هذا المجال.. وكان أغرب ما تعلّمه هو إطفاء الحريق بعمل حريق آخر يطفئه.. ولكنّ كيف؟!

 

 

إطفاء حريق بإشعال حريق آخر يطفئه:

 

 

ففي حرائق الغابات الكبيرة التّي تنتشر بسرعة بفعل الرّيح وتعجز المياه والمساحيق الكيماوية عن كبح جماحها (السيطرة عليها) يلجأ المتخصّصون لدراسة اتّجاهات الرّيح وسرعتها ثمّ يبتعدون لمسافة معيّنة في اتّجاه معيّن ويشعلون حريقا صغيرا آخر يكون تحت السّيطرة لكي يتصاعد منه غاز «ثاني أكسيد الكربون» الذّي يحلّ محلّ غاز «الأكسجين» الذّي يساعد النّار على الاشتعال، وتحمل الرّياح المتّجهة نحو الحريق الأصلي غاز «ثاني أكسيد الكربون» الذّي يملأ الجوّ المحيط حتّى تنطفئ النّار.

هكذا وبالإرادة القويّة والعزيمة والنيّة المخلصة تحقّقت النّبوءة.  غادر الحلم عالم الخيال إلى واقع بفضل صدق ذلك الصّبي الصّغير في تحقيق حلمه وآمال أهله وأبناء بلاده فيه ليصبح الطّبيب الذّي يشفي الغابات من حرائقها «الشّافي طفّاي العوافي».

مثلكم تماما أصدقائي العرب لو امتلكتم الإرادة والعزيمة والصّدق والإخلاص في العمل فستصلون إلى تحقيق كلّ ما تحلمون به.

عمّ «الميداني» المهندس الزّراعي الذّي تولّى إدارة الغابات وأطفأ حرائق غابات «ولاية القصرين» في جنوب غرب تونس الخضراء..، العم مازال يحكي حكايته لأبنائه وأحفاده ويتناقلها الجميع، لا من أجل التّسلية وتمضية الوقت فقط ولكنّ من أجل أن نتعلّم كيف نكون مخلصين لأحلامنا ونعمل من أجل تحقيقها. فلن تتحقّق الأحلام إلاّ بالعلم والعمل والإخلاص والحبّ، فاسقِ بذرة حلمك بهذا الماء لأنّ الله سبحانه وتعالى يساعد أصحاب النّوايا الصّادقة المحبّة للخير.  

 

 





كارلوس كاستيلو، المشرف على المقبرة الأمريكية، في شمال إفريقيا والنصب التذكاري في قرطاج، يشير إلى مدينة القصرين التي دارت بها المعركة الشهيرة، فوق لوحة من الموزاييك، تسجل الحرب العالمية الثانية، بين سنتي 1939 و1945م



إحدى محطات القطار داخل الولاية