(مغامرة في الصحراء) قصة للفتيان

الفصل الأول

شعلان يعود من النبع

سمع أبو شعلان كلبه ينبح نباحًا خفيفًا في الخارج، ثم يعود للسكون. وتبعت ذلك حركة غريبة قرب السياج، ظن معها أبو شعلان أن زائرًا يقترب من المنزل، فصاح بصوته الخشن:

- «من القادم في أول هذا الليل؟».

- «هذا أنا يا أبي. لا تقلق. ذهبت لأملأ القلة من نبع الماء». أجابه ابنه شعلان وهو يدخل حاملاً قلة الماء على كتفه، وما أن انحنى ليضعها في زاوية من زوايا الغرفة، حتى أخذها منه أبو شعلان، وأدارها على فمه دفعة واحدة، وشرب منها طويلاً حتى روى عطشه.

أفلتت ضحكة من أحفاده الصغار الجالسين إلى جانبه، وهم يرون خيوطًا من الماء تنساب على لحيته الكثيفة، وتنزلق إلى صدره وثيابه، فنهرهم وهو يتظاهر بالغضب، قائلا:

- تسخرون مني أيها الشياطين الصغار؟ حسنا.. سوف أعاقبكم على عملكم هذا، وما دمتم تتغامزون عليّ، فلن أقص عليكم الحكاية التي كنت قد وعدتكم بها أمس.. حكاية الكنز المخبأ في الصحراء.

قال عدي معتذرًا، وهو أصغر الأولاد: سامحنا يا جدي.. سامحنا.. ثم مد يده ليمسح حبات الماء العالقة في لحية جده، وقبله في خده قبلة لطيفة.

ضحك أبو شعلان لما فعله «عدي»، ونظر إلى أحفاده نظرة الرضى والحنان، وقد تجمعوا حوله، وانفتحت عيونهم أكثر فأكثر استعدادًا لسماع الحكاية.

أما شعلان، فقد جلس يرتاح في زاوية المنزل، ويراقب الأولاد، وهم ينظرون إلى عيني جدهم، وحركات يديه، ويستمعون باهتمام، إلى الكلمات المنسابة من شفتيه المرتجفتين، وهو يقول:

- كان يا ما كان أيها الأولاد الأعزاء..

 

الفصل الثاني

في الطريق إلى الكنز

منازل القرية وخيامها تغرق في صمتها الساحر. نقطة ضوء وحيدة في كل منزل، هي القنديل، وصوت أبو شعلان يتردد وحده في سكون الليل العميق، ويدخل إلى آذان أحفاده كأنه الموسيقى. قرب أبو شعلان وجهه من النافذة، وهو يسوي جلسته على مقعده المصنوع من الماعز، فازداد انعكاس ضوء القمر على وجهه ولحيته، وظهر للحظات، كأنما سحره المشهد ونسي الحكاية، فتنهد وقال:

- آه ما أجمل مشهد الصحراء!

قطعت عليه تأمله ليلى ذات العيون الواسعة السوداء، والسنوات العشر، وهي تلقي بنفسها في حضنه وتقول:

- هيه... يا جدي... أراك نسيت الحكاية.

قال أبو شعلان، وقد عاد ببصره عن النافذة: أنت لا تتركين أحدًا يا ليلى يبتعد كثيرًا في أحلامه. وكيف أنسى الحكاية، وهي حكايتنا في هذا المنزل، وهذه القرية؟ ولكن ضوء القمر الساطع، وسكون الصحراء، جعلاني أستسلم إلى تأملاتي البعيدة، يا الله، ما أجمل هذا المكان! وما أعذب صمت الصحراء، وسحر الأشياء فيها! وحتى لا يعود إلى تأملاته من جديد، أخذ أبو شعلان رشفة من فنجان القهوة الموضوع أمامه، ثم قال:

- من منكم يا أولاد، يعرف أين كنا، قبل أن نستقر في هذه القرية الطيبة؟

ارتفعت أصوات الأولاد وتداخلت، فقطعها أبو شعلان بقوله: كنا، قبل أن نستقر في هذا المكان الطيب، ندور في الصحراء الواسعة وننتقل من مكان إلى آخر طلبا للمرعى، يرافقنا في حلنا وترحالنا الحصانان الجميلان اللذان في الحظيرة.

قالت بدور وهي تصغر ليلى بعام واحد: إنهما «الأدهم» و«الأبلج»، أليس كذلك يا جدي؟

قال الجد: نعم يا بدور، إنهما الحصانان الرائعان الأدهم والأبلج، وتابع يقول بصوت منخفض، وكأنه يحدث نفسه: أحب هذين الحصانين كأولادي.

 

... وفي ليلة من الليالي، يا أولاد، تابع الجد، بينما كنا مخيّمين في ظل تلة من الرمل، قدمت قافلة من الرجال على أحصنتهم وجمالهم، ونزلوا بقربنا، في الجانب الآخر من التلة، ولم ينتبهوا لوجودنا، وبينما كانوا يتسامرون في الليل، سمعنا أحدهم يقول للآخر: هل مازال الطريق إلى الكنز طويلاً؟ فأجابه رفيقه: أعتقد أنه على مسيرة يومين أو ثلاثة أيام من هنا.. خلف تلك التلال البعيدة.

قاطعت بدور جدها قائلة: ولكن.. ما هو الكنز يا جدي؟ إنك تحدّثنا عن الكنز، وأنا لا أعرف ما هو الكنز..

أجابها أبوشعلان: الكنز يا ابنتي هو مجموعة من الجواهر والذهب والدرر الثمينة، مخبأة في داخل الأرض، ولابد للوصول إليها من البحث والتعب.

وتابع أبوشعلان حديثه قائلاً: حين سمعنا بأخبار هذا الكنز، أخذنا نفكر في الغنى الذي ينتظرنا عند الوصول إليه.

صار والدكم شعلان يتخيل المنزل الجميل الذي سيعمره به، وجدتكم أم شعلان تحلم بالثياب المزركشة التي تنتظرها عند البائع، أما أنا فأول ما فكرت فيه، كان حظيرة عامرة بالخيول العربية الجميلة، التي أحبها كما أحبكم أيها الأولاد.

وهكذا صممنا على المسير للبحث عن كنزنا الموعود، ومشينا في الصباح الباكر، قبل أن يطلع قرص الشمس من جهة الشرق. تجولنا كثيرًا في البوادي، وتعبنا ونحن ندور في الصحراء، وننتقل بين كثبان الرمال، نصعد إلى تلة، ونهبط إلى واد، على أمل الوصول إلى الكنز الموعود. وكنا نفقد الأمل في الوصول للكنز قبل أن يسبقنا إليه أحد، كنا نمر ببعض الرعيان والبدو المتنقلين هنا وهناك، ونسألهم عن بعض إشارات الطريق، ولكن أحدًا منهم لم يكن يعرف إلى أين يرشدنا، فالصحراء واسعة، ومكامن الكنز سر غامض. كانت الصحراء يا أولادي، غبراء وقاسية. بعض طيور عالية تظهر في السماء وتختفي، وبحر من الرمال يمتد أمام أعيننا بلا نهاية. وكان يظهر لنا أحيانًا مكان بعيد يلمع فيه شيء يشبه الماء، فنتقدم نحوه، وحين نصل إليه، نكتشف أنه السراب.

قال عدي، وكان أكثر إخوته اهتمامًا بالحكاية:

- وما هو السراب يا جدي؟

قال الجد: السراب يا عدي، هو ما يظنه السائر في الصحراء ماء عن بعد، فإذا وصل إليه، وجد أنه خداع نظر وليس ماء.

وتابع الجد:

كنا قد تعبنا من التجوال في الصحراء، وجلسنا نرتاح قليلاً، حين بدأ «الأدهم» يحمحم و«الأبلج» يضرب حوافره في الأرض، وكأنهما أحسا بأمر غريب ينتظرنا، فمفاجآت الصحراء كثيرة.

قالت ليلى: وما هي المفاجأة التي كانت في انتظاركم يا جدي؟ لعلها الكنز الموعود، أو أثر من الآثار التي تدل على مكانه؟

قال أبوشعلان: إنهم اللصوص يا ليلى، سارقو القوافل والعابثون بأمن الناس. نعم يا ابنتي لقد كانوا مجموعة من اللصوص قطعت علينا الطريق. ولكن، كما تعلمين، إذا اجتمع جدك وأبوك، وكان «الأدهم» و«الأبلج» حاضرين، فالويل للأعداء.

قال عدي: وقد ظهر عليه اهتمام مضاعف بالحكاية، وهو يدفع أخته ليلى ليزداد قربًا من جده: هل انتصرتم على اللصوص يا جدي؟ كيف؟ بالله عليك تخبرنا كيف؟

قال أبوشعلان، وقد انتفخ صدره باعتزاز، وارتفعت نبرة صوته:

- كيف؟ أتسأل كيف يا عدي؟

تخيل عاصفة هوجاء تنزل باللصوص: هذا هو «الأدهم».

تخيل سيفًا من البرق يخطف الأبصار: هذا هو «الأبلج».

كان أبوك شعلان يصول ويجول فوق الرمال، ويدعو اللصوص للقتال، كأنه بطل الأبطال، واللصوص تفر من بين يديه، مثل النعاج الخائفة.

قالت بدور، وقد غاب النعاس عن عينيها السوداوين، واشتد حماسها للحكاية:

- وأنت يا جدي.. أنت.. ماذا فعلت في المعركة؟

قال أبوشعلان: والدك شعلان يخبرك ماذا فعل جدك بقطاع الطرق:

كنت أضرب الواحد منهم ضربة تنهدم لها الجبال، فيصرخ من خوفه، ويتمنى لو تبتلعه الصحراء، وكان «الأبلج» يكر ويفر ويتقدم ويتأخر، ويجول ويصول، كأنه عاصفة في الصحراء.

وقبل أن يكمل أبوشعلان وصف بطولاته، لاحظ أن «عديا» يغمز أخته «بدور» بطرف عينه، فتنحنح وقال:

- ولكنكم يا ملاعين، أنتم الذين أجبرتموني على الكلام عن نفسي في تلك الواقعة، فأنا لا أرغب في الكلام عن نفسي، ولكنها واقعة لا تنسى أيها الأولاد. لقد فر اللصوص في نهايتها من بين أيدينا كالأغنام، فاسترحنا من تعب المعركة ليلة، ثم أكملنا طريقنا في صباح اليوم التالي.

 

الفصل الثالث

مفاجأة الكنز

«ما ألذ الراحة بعد التعب، يا أولادي..».