العقل العربي متى يخرج من أزمته؟

‭ ‬

يدخل العقل العربي العصر الحديث محمّلًا بعبء كبير من تراث الماضي، يمنعه من التفاعل مع الحداثة وخوض تجربة التجديد والتنوير، وللإنصاف فإنّه لم تتح للعقل العربي الفرصة ليفحص هذا التراث جيدًا، ولم يمتلك الوقت الكافي لأن يفرّق فيه بين ما هو سلبي بحيث يتخلّص منه، وما هو إيجابي ليكون قوة دافعة تقوده للأمام، فقد تعرّض لكابوس استعماري جثم طويلًا على صدره. من عمق القرون الوسطى جاء الاحتلال العثماني وأغلق على العرب منافذ النور، وسلبه منهم الصنّاع والمحترفون، أجهض كلّ صناعة وليدة، وما إن انجلى الليل العثماني الطويل حتى أقبلت جحافل الغرب، لم تأتِ حاملة مصابيح التقدّم والمعرفة التي كانت تمتلكها، ولكن بجيوش وأساطيل مجهزة بالمدافع المميتة.

لقد‭ ‬تعرضت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬للغزو‭ ‬الأوربي،‭ ‬لكنّها‭ ‬خاضت‭ ‬معركة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استقلالها،‭ ‬بينما‭ ‬ظل‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الخطر،‭ ‬بسبب‭ ‬قربهم‭ ‬الجغرافي‭ ‬من‭ ‬أوربا،‭ ‬وخاضوا‭ ‬ضدها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬معركة‭ ‬دفعوا‭ ‬فيها‭ ‬ثمنًا‭ ‬باهظًا‭ ‬من‭ ‬أرواحهم‭ ‬ومن‭ ‬مواردهم،‭ ‬تحوّلت‭ ‬معركة‭ ‬الاستقلال‭ ‬الواحدة‭ ‬إلى‭ ‬معارك‭ ‬استمرت‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬التاريخ‭ ‬المعاصر،‭ ‬وأسفرت‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬عن‭ ‬نتيجتين‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬السوء،‭ ‬أولهما‭ ‬زرع‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬العرب،‭ ‬مثل‭ ‬جرثومة‭ ‬غريبة‭ ‬أصابتنا‭ - ‬ولا‭ ‬تزال‭ - ‬بالحمّى‭ ‬والمرض،‭ ‬ولا‭ ‬يعلم‭ ‬إلا‭ ‬الله‭ ‬متى‭ ‬ستزول،‭ ‬وثانيها‭ ‬هو‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬النيئة‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬ظفرت‭ ‬الاستقلال،‭ ‬وكانت‭ ‬تجربة‭ ‬سيئة‭ ‬أغرقتها‭ ‬في‭ ‬الديون‭ ‬والفساد،‭ ‬واستبدَّت‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬عقول‭ ‬نيّرة‭ ‬وحرمتها‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬الحُرّ‭ ‬الخلاق‭.‬

 

حداثة‭... ‬ولكن‭!‬

هناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي،‭ ‬أبراج‭ ‬شاهقة،‭ ‬وطرق‭ ‬سريعة‭ ‬تجوب‭ ‬فيها‭ ‬السيارات‭ ‬الفارهة،‭ ‬وأجهزة‭ ‬إعلام‭ ‬لا‭ ‬تكفّ‭ ‬عن‭ ‬الطنين،‭ ‬وأسلحة‭ ‬حديثة‭ ‬تنعم‭ ‬بها‭ ‬بعض‭ ‬الجيوش،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬خلف‭ ‬ذلك‭ ‬ذهنية‭ ‬مبدعة‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬هذه‭ ‬الأدوات‭ ‬وإضافة‭ ‬اللمسة‭ ‬العربية‭ ‬إليها،‭ ‬لم‭ ‬نعد‭ ‬نجيد‭ ‬سوى‭ ‬الاستغراق‭ ‬في‭ ‬النّهم‭ ‬الاستهلاكي‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعطي‭ ‬الفرصة‭ ‬لعقولنا‭ ‬حتى‭ ‬تعمل‭ ‬وتحلل،‭ ‬ربما‭ ‬تستنبط‭ ‬أدوات‭ ‬جديدة‭ ‬إليها،‭ ‬لقد‭ ‬تطورت‭ ‬الأدوات‭ ‬ولم‭ ‬تتطور‭ ‬العقلية‭.‬

 

التفكير‭ ‬العقلاني

استسلم‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬طويلًا‭ ‬للمسلّمات‭ ‬الجاهزة،‭ ‬وحفظ‭ ‬المأثورات‭ ‬المتوارثة،‭ ‬لكنّ‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬شهدت‭ ‬أولى‭ ‬المحاولات‭ ‬الجادة‭ ‬للتفكير‭ ‬العقلي‭ ‬عندما‭ ‬ظهرت‭ ‬جماعة‭ ‬المعتزلة‭ ‬في‭ ‬البصرة،‭ ‬إبّان‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬لقد‭ ‬أعادوا‭ ‬الاعتبار‭ ‬للتفكير‭ ‬العقلاني‭ ‬واعتمدوا‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬عقائدهم‭ ‬وقدّموه‭ ‬على‭ ‬النقل،‭ ‬وقالوا‭ ‬بالفكر‭ ‬قبل‭ ‬السمع،‭ ‬وبوجوب‭ ‬معرفة‭ ‬الله‭ ‬بالعقل‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬شرعٌ‭ ‬بذلك،‭ ‬لقد‭ ‬سعوا‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬العقلي‭ ‬والمنطقي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شؤون‭ ‬الحياة‭ ‬عمليًا‭ ‬وفكريًا،‭ ‬ووضعوا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬عدة‭ ‬رسائل‭ ‬يشرحون‭ ‬فيها‭ ‬مذهبهم‭ ‬العقلي،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬حركة‭ ‬سريعة،‭ ‬نهضت‭ ‬وانتهت‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تخلّف‭ ‬أثرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬تحوّل‭ ‬مسار‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬جامدًا،‭ ‬وظهر‭ ‬ذلك‭ ‬التجمّد‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬الحكم،‭ ‬فهناك‭ ‬نزعة‭ ‬أبوية‭ ‬في‭ ‬التسلط‭ ‬وغياب‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬وعدم‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالتعددية،‭ ‬وغياب‭ ‬نقد‭ ‬الأنظمة‭ ‬وعدم‭ ‬وضوح‭ ‬رؤى‭ ‬المستقبل‭.‬

 

الخضوع‭ ‬الآسيوي‭ ‬

عندما‭ ‬غزا‭ ‬الإسكندر‭ ‬بلدان‭ ‬آسيا،‭ ‬ووصل‭ ‬بقواته‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬الهند،‭ ‬اكتشف‭ ‬أنه‭ ‬دخل‭ ‬عالمًا‭ ‬مختلفًا،‭ ‬الأقيانوس‭ ‬الشرقي‭ ‬كما‭ ‬أُطلق‭ ‬عليه،‭ ‬ووجد‭ ‬قادة‭ ‬الإسكندر‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬قد‭ ‬بالغت‭ ‬في‭ ‬تقديسه‭ ‬وتأليهه،‭ ‬ففي‭ ‬واحة‭ ‬سيوة‭ ‬بمصر‭ ‬جرى‭ ‬الاحتفال‭ ‬به‭ ‬كأحد‭ ‬أبناء‭ ‬الآلهة،‭ ‬وفي‭ ‬فارس‭ ‬والهند‭ ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬الناس‭ ‬بالانحناء‭ ‬أو‭ ‬الركوع‭ ‬أمامه،‭ ‬ولكن‭ ‬كانوا‭ ‬ينبطحون‭ ‬أرضًا،‭ ‬ويمرّغون‭ ‬وجوههم‭ ‬في‭ ‬تراب‭ ‬قدميه،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أثار‭ ‬سخرية‭ ‬القادة‭ ‬وضحكهم،‭ ‬فلم‭ ‬يتعودوا‭ ‬هذه‭ ‬الدرجة‭ ‬المهينة‭ ‬من‭ ‬الخضوع،‭ ‬لكن‭ ‬الإسكندر‭ ‬كان‭ - ‬مثل‭ ‬أي‭ ‬حاكم‭ - ‬سعيدًا‭ ‬بتلك‭ ‬الدرجة‭ ‬من‭ ‬الخضوع‭ ‬المطلق،‭ ‬لذا‭ ‬توصل‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬مع‭ ‬قادته‭ ‬أن‭ ‬يظلوا‭ ‬واقفين‭ ‬محافظين‭ ‬على‭ ‬كرامتهم،‭ ‬بينما‭ ‬يتركون‭ ‬الآسيويين‭ ‬يمارسون‭ ‬طقوسهم‭ ‬في‭ ‬تقديس‭ ‬الحاكم،‭ ‬وأسس‭ ‬هذا‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬الأقيانوس‭ ‬الغربي‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬خضوع‭ ‬محسوب‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬الاحترام‭ ‬مع‭ ‬قدر‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬الإبداع،‭ ‬بالطبع‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬فترات‭ ‬من‭ ‬الاستبداد،‭ ‬لكنّها‭ ‬مجرد‭ ‬استثناء،‭ ‬لقد‭ ‬حصل‭ ‬الإنسان‭ ‬الغربي‭ ‬على‭ ‬حريته‭ ‬السياسية‭ ‬بواسطة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬حريته‭ ‬الدينية‭ ‬بعزل‭ ‬الكنيسة‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬العامة،‭ ‬وأصبح‭ ‬لديه‭ ‬حرية‭ ‬مطلقة‭ ‬في‭ ‬اقتحام‭ ‬كل‭ ‬مناحي‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة،‭ ‬بينما‭ ‬ظل‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬عاجزًا‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬عن‭ ‬نَيْل‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬هاتين‭ ‬الحريتين‭.‬

‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬شهدت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬انفتاحًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬الآخر،‭ ‬وقام‭ ‬العلماء‭ ‬العرب‭ ‬بترجمة‭ ‬كتب‭ ‬الفلسفة‭ ‬والمنطق‭ ‬من‭ ‬اليونانية،‭ ‬وأنشأ‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون‭ ‬دار‭ ‬الحكمة،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬الانفتاح‭ ‬ظل‭ ‬محدودًا،‭ ‬فقد‭ ‬أضمر‭ ‬الحكام‭ ‬والفقهاء‭ ‬التابعون‭ ‬لهم‭ ‬العداء‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يمتّ‭ ‬للفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬بصلة،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬نظرهم‭ ‬لا‭ ‬تنادي‭ ‬فقط‭ ‬بإعمال‭ ‬العقل،‭ ‬لكنّها‭ ‬تشجع‭ ‬على‭ ‬النقد،‭ ‬وتحثّ‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬حرية‭ ‬العقل،‭ ‬وكان‭ ‬جلّ‭ ‬شيوخ‭ ‬الدين‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬العلوم‭ ‬الوحيدة‭ ‬الجديرة‭ ‬بالاهتمام‭ ‬هي‭ ‬علوم‭ ‬الشريعة‭ ‬الغرّاء،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬غثاء،‭ ‬وقد‭ ‬ظلت‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الحكام‭ ‬والعلماء‭ ‬متوترة‭ ‬عبر‭ ‬كل‭ ‬العصور،‭ ‬فالعالم‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الحرية،‭ ‬والحاكم‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يمنحه‭ ‬إياها،‭ ‬لا‭ ‬هو‭ ‬ولا‭ ‬غيره‭.‬

 

العالِم‭ ‬والحاكم

  ‬أخذ‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الحاكم‭ ‬والعالم‭ ‬أشكالاً‭ ‬كثيرة،‭ ‬أشهرها‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بين‭ ‬عالِم‭ ‬البصريات‭ ‬الشهير‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬والخليفة‭ ‬الفاطمي‭ ‬الحاكم‭ ‬بأمر‭ ‬الله،‭ ‬فقد‭ ‬استدعاه‭ ‬الخليفة‭ ‬للقدوم‭ ‬من‭ ‬الشام‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬ليطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يحلّ‭ ‬مشكلة‭ ‬مصر‭ ‬الأزلية،‭ ‬فهي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬النيل‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬غيره،‭ ‬لكنّه‭ ‬نهر‭ ‬متقلب‭ ‬المزاج،‭ ‬أحيانًا‭ ‬تكثر‭ ‬مياهه‭ ‬وتفيض‭ ‬عن‭ ‬الشطآن‭ ‬فيغرق‭ ‬البلاد‭ ‬والعباد،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬أخرى‭ ‬تقل‭ ‬مياهه‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬يموت‭ ‬فيها‭ ‬الزرع‭ ‬ويجفّ‭ ‬الضرع،‭ ‬لم‭ ‬يفهم‭ ‬الحاكم‭ ‬سرّ‭ ‬هذه‭ ‬الدورة‭ ‬من‭ ‬النماء‭ ‬والفناء،‭ ‬وأراد‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬لها‭ ‬حلًّا،‭ ‬وسافر‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬جنوبًا‭ ‬عبر‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬أسوان،‭ ‬وهناك‭ ‬توصل‭ ‬إلى‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬تنفيذها‭ ‬بعده‭ ‬بمئات‭ ‬السنين،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يستغل‭ ‬الشاطئ‭ ‬المليء‭ ‬بأحجار‭ ‬الجرانيت،‭ ‬ليصنع‭ ‬سدًا‭ ‬عظيمًا‭ ‬يحجب‭ ‬خلفه‭ ‬الماء‭ ‬الزائد‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الفيضان،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬استخدامه‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬الجفاف،‭ ‬كانت‭ ‬الفكرة‭ ‬صحيحة‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬ذاتها،‭ ‬لكن‭ ‬الإمكانات‭ ‬المتواضعة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬لم‭ ‬تسمح‭ ‬بتنفيذها،‭ ‬وقام‭ ‬بالفعل‭ ‬ببناء‭ ‬سد‭ ‬من‭ ‬الأحجار‭ ‬والأخشاب،‭ ‬لكن‭ ‬السد‭ ‬البدائي‭ ‬انهار‭ ‬أمام‭ ‬أول‭ ‬ضربة‭ ‬من‭ ‬الفيضان‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬التجارب‭ ‬الجديدة‭ ‬معرّضة‭ ‬للنجاح‭ ‬أو‭ ‬الفشل،‭ ‬وفي‭ ‬أغلب‭ ‬الأحوال‭ ‬تعاد‭ ‬التجربة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لتلافي‭ ‬الأخطاء،‭ ‬لكنّ‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬كان‭ ‬متأكدًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الخليفة‭ ‬لن‭ ‬يغفر‭ ‬له‭ ‬فشله،‭ ‬وسيقتله‭ ‬أو‭ ‬يضعه‭ ‬بقية‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمامه‭ ‬غير‭ ‬التظاهر‭ ‬بالجنون‭ ‬والاعتصام‭ ‬داخل‭ ‬الجامع‭ ‬الأزهر،‭ ‬كان‭ ‬الخليفة‭ ‬يستطيع‭ ‬اقتحام‭ ‬المسجد‭ ‬والقبض‭ ‬عليه،‭ ‬لكنّه‭ ‬لم‭ ‬يُرد‭ ‬أن‭ ‬يلوّث‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬بناه‭ ‬أجداده،‭ ‬لذلك‭ ‬تركه‭ ‬واثقًا‭ ‬بأنه‭ ‬سيخرج‭ ‬من‭ ‬تلقاء‭ ‬نفسه،‭ ‬وكان‭ ‬القدَر‭ ‬كريمًا‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم،‭ ‬فرحل‭ ‬الخليفة‭ ‬أولًا‭ ‬إلى‭ ‬الدار‭ ‬الآخرة،‭ ‬وأصبح‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬حُرًا‭ ‬أخيرًا‭ ‬في‭ ‬الرحيل‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬يشاء‭.‬

 

صراع‭ ‬الهويات‭ ‬الفرعية

إن‭ ‬افتقاد‭ ‬الحرية‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬استبداد‭ ‬الحكام‭ ‬كانا‭ ‬العدو‭ ‬الأول‭ ‬للعقل‭ ‬العربي،‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬نتيجته‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬غائب،‭ ‬والتفكير‭ ‬المنطقي‭ ‬غير‭ ‬موجود،‭ ‬وما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬بلادنا‭ ‬العربية‭ ‬يشبه‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬مستنقع‭ ‬الجاهلية‭ ‬الأولى،‭ ‬حيث‭ ‬تحللت‭ ‬هياكل‭ ‬الدولة‭ ‬العصرية،‭ ‬ودخلت‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬بين‭ ‬الهويات‭ ‬الفرعية،‭ ‬صراع‭ ‬حول‭ ‬الموارد،‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬هوّة‭ ‬الطائفية‭ ‬والتعصب،‭ ‬صفات‭ ‬مرعبة‭ ‬جعلت‭ ‬الآخرين‭ ‬يتقدمون‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة،‭ ‬بينما‭ ‬توقّف‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬عاجزًا،‭ ‬وقد‭ ‬انحدر‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬متدنٍ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬السكوت‭ ‬عنه،‭ ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬نحاول‭ ‬معرفة‭ ‬أسباب‭ ‬هذا‭ ‬الانحدار،‭ ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننجو‭ ‬منه؟

لقد‭ ‬عجز‭ ‬عن‭ ‬مواجهة‭ ‬الجهل‭ ‬والتزمّت‭ ‬وبسط‭ ‬منطق‭ ‬التفكير‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬التكفير،‭ ‬وانتشر‭ ‬الفكر‭ ‬الخرافي‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬الواقع‭ ‬ومعرفة‭ ‬أسباب‭ ‬التخلف،‭ ‬ومن‭ ‬جراء‭ ‬ذلك‭ ‬أصبح‭ ‬التطرف‭ ‬هو‭ ‬الصوت‭ ‬الأعلى،‭ ‬وأصبح‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬وهْم‭ ‬الخلافة‭ ‬المنتظرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تأت‭ ‬بعد‭ ‬ومحاولة‭ ‬الانتقام‭ ‬من‭ ‬الحضارات‭ ‬الأخرى،‭ ‬خاصة‭ ‬الغربية،‭ ‬باعتبارها‭ ‬سبب‭ ‬البلاء‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬فيه،‭ ‬ولم‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬غياب‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الفكرية‭ ‬قد‭ ‬جمّد‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬وجعله‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬موروث‭ ‬الماضي،‭ ‬يعيد‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬إنتاجه‭ ‬دون‭ ‬تطور‭ ‬أو‭ ‬إبداع‭. ‬

‭ ‬لقد‭ ‬شجع‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬المسلمين‭ ‬على‭ ‬تحصيل‭ ‬المعرفة،‭ ‬وأكدت‭ ‬الأحاديث‭ ‬النبوية‭ ‬ذلك‭ ‬حين‭ ‬حثّت‭ ‬المسلمين‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة،‭ ‬ومن‭ ‬حُسن‭ ‬الحظ‭ ‬أن‭ ‬العلوم‭ ‬الصينية‭ ‬قد‭ ‬ازدهرت‭ ‬وأصبحت‭ ‬منافسًا‭ ‬جيدًا‭ ‬للحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬التي‭ ‬ناوأتنا‭ ‬كثيرًا‭. ‬

‭ ‬أفكار‭ ‬كثيرة‭ ‬ومذاهب‭ ‬شتّى‭ ‬وفدت‭ ‬على‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬مع‭ ‬خروج‭ ‬البعثات‭ ‬العلمية،‭ ‬وزادت‭ ‬مع‭ ‬ثورة‭ ‬الاتصالات‭ ‬الحديثة،‭ ‬انهالت‭ ‬كلها‭ ‬علينا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬أصولًا‭ ‬في‭ ‬التربة‭ ‬العربية،‭ ‬وظل‭ ‬معظمها‭ ‬بلا‭ ‬جذور‭ ‬ضاربة‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬مَن‭ ‬يهيئها‭ ‬للذهنية‭ ‬العربية‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬مجديًا‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬الجمود‭ ‬العقلي،‭ ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬فقد‭ ‬غزت‭ ‬الماركسية‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬واكتسبت‭ ‬أنصارًا‭ ‬كثيرة‭ ‬حتى‭ ‬داخل‭ ‬أروقة‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬دومًا‭ ‬متزمّتة،‭ ‬ورحّب‭ ‬بها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬باعتبارها‭ ‬طريقًا‭ ‬للعدالة‭ ‬المفتقدة،‭ ‬لكنّها‭ ‬كانت‭ ‬تفتقد‭ ‬تيمة‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬حلموا‭ ‬بها‭ ‬طويلًا،‭ ‬وسقطت‭ ‬الماركسية‭ ‬في‭ ‬بلدانها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تسقط‭ ‬من‭ ‬أذهاننا،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬يعاني‭ ‬التشدّد‭ ‬الديني‭ ‬الذي‭ ‬أنتج‭ ‬‮«‬داعش‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬ضيّقت‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬الفكر،‭ ‬وأصبحنا‭ ‬في‭ ‬أمسّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬كل‭ ‬الصفحات،‭ ‬وعدم‭ ‬اجترار‭ ‬التجارب‭ ‬السابقة،‭ ‬وأن‭ ‬نعيد‭ ‬قراءة‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬جوانبه‭ ‬الإيجابية‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬العقل‭ ‬والمنطق،‭ ‬وأن‭ ‬نزيل‭ ‬من‭ ‬أذهاننا‭ ‬عوامل‭ ‬التعصّب‭ ‬والكراهية‭ ‬والصراع‭ ‬الطائفي‭ ‬وأن‭ ‬نؤمن‭ ‬بأننا‭ ‬نملك‭ ‬عقلًا‭ ‬رشيدًا‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬تيار‭ ‬الفكر‭ ‬العالمي،‭ ‬وعلى‭ ‬تقبّل‭ ‬الأفكار‭ ‬الجديدة‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬ودون‭ ‬شعور‭ ‬بالنقص‭ ‬■