«إنني أفكر في إنهاء الأشياء» فيلم لا يُنهي أي شيء!
يعتمد فكر المخرج السينمائي شارلي كوفمان (صاحب «الشروق الأبدي للعقل الطاهر»)
علــى أن المشــاهد يتلقى الفيلم انطلا ًقــا من اهتمامــات تخصه أو الجماعــة التي ينتمي ُّإليها،المتفرج يهدف دائًما إلى غرض يســعى إلى إثباته،فهو إذا أعلن موت قدســية النص المكتــوب للشاشــة، ماذا يبقى للناقد من مســائل يناقشــها إذا انتهت التصــورات كافة إلى تفســير مــن نــوع، كل إناء بمــا فيه ينضــح، أو الجمال في عيــن الرائي؟ وأن وجهــة نظر أي متفرج - بغض النظر عن خلفية معارفه ورقي ذوقه ونقاء توجهاته، وكونه متخصصا أو لا في الحقل النقدي - تتساوى في قيمتها مع وجهة نظر أي متفرج آخر مهما بلغ من عظمة،وإن كان أحد المبدعين.
لاحظ هذا الانتقال من تبجيل آراء النقاد في خمسينيات القرن الماضي إلى تمكين الآراء الفردية غير المتخصصة ونبذ حكم القيمة، وبالتالي التعويل على ثقافة الجماهير وانسحاب الناقد الفني ليلتقي بالعمل داخل أسوار مؤسسته الأكاديمية. وهكذا فإن تعليقات المشاهد على «فيسبوك» - مثلًا - أصبحت بديلًا عن التقسيم النقدي المتخصص!
بداية فيلم كوفمان الجديد «أفكر في إنهاء الأشياء» تعدّ بقصة واضحة المعالم، لكن سرعان ما تأتي العاصفة الثلجية وقت العشاء ليغرقنا في عالمه السريالي الذي يهواه.
هذه الفتاة الشابة تذهب مع جيك إلى بيته على سبيل توطيد علاقتهما أو مراجعتها بمعنى أدقّ، لتتعرف إلى والديه (توني كوليت في دور الأم، ديفيد ثيوليس في دور الأب) لتكتشف أنهما غريبا الأطوار يعيشان في فلسفة غامضة تبدأ من مبدأ أن البشر يعيشون حياة لا يتحمّلها الحيوان، لذلك اخترعوا الأمل الكاذب، فما الحب والسعادة والتفاؤل؟ أم أنّ الأصل هو تعاسة الإنسان؟ الطقس الجليدي يحبسهم في المزرعة، ويعزز حدة التعامل بين جميع أبطال الفيلم والحياة، حتى جيك وفتاته (لا يظهر اسمها في الأحداث، وتقوم بدورها الفنانة جيسي باكلي) يبدو لنا أنهما غير متوافقين، إنها نادلة، لكنها تتفلسف في كل شيء كأنها ناقدة سينمائية، حيلة مستعارة من وودي آلان لعلّ الحوار العبثي الطويل يمنح الخط السردي الغامض حبكة سفسطائية؛ لأنّ جيك (جيسي بليمونس) يتحداها بجدل له طابع دراسته للفيزياء.
اللغة السينمائية من ناحيتها تساعدنا على تشكيل صور خيالية في أذهاننا، وصور جميلة بغضّ النظر عن المعنى، اللقطة قد تكون بالغة العنف أو مثيرة للشجن أو حتى مذهلة للحواس، بيد أن الجمال هو الغاية التي نرتئيها كوسيلة لغاية أعلى هي الانسجام مع مفردات الكون ذاته.
إن ما (يبدو) عليه الفيلم، وما (يدل) عليه شيء واحد في الظاهر والمحتوى داخل الخطاب المشفر المعتبر وسيلة تواصل واتصال اجتماعي قبل أن يكون فكريًا مجردًا، في مجموع مجالات هيمنة وجوده ودقائق عناصره، ابتداء من حواره المكتوب ووصولًا إلى التصفيات الدلالية الأكثر تعقيدًا.
لقد وجهنا تفكيرنا هذا إلى الإلحاح على تعليل الأجناس التعبيرية في السينما. ذلك أن كشف الأحوال لأسلوب السرد الفيلمي من جهة واللغة البصرية من جهة أخرى، وبين تناغم الجنس التعبيري من جهة ثالثة، قد أفضى بالكثيرين (خاصة هواة الفن للفن واللمسة الاكتئابية في عناصره) إلى أن يغرقوا أنفسهم للاستزادة، بالدرجة الأولى، من مَعين التناسق الفردي للسيناريو، وإلى أن يتجاهلوا بزّته ذات التفصيل النسيجوي التجريدي الاجتماعي الخدمات (علاقة الزوج والزوجة من جهة، وعلاقة جيك بفتاته من جهة أخرى). هكذا فإنّ مصائر الأجناس التعبيرية على المستوى العام للفيلم، وقد ربطت بمصائر تأويل مفردات القصة وبالاتجاهات الفردية، وقع حجبها وراء التاريخ الصغير للتعديلات الشكلانية للأبطال كأفراد لا حركات.
الفتاة تقول: «إنني أفكر في إنهاء الأشياء، وما إن تأتي هذه الفكرة فإنها تبقى وتلتصق، وتسيطر. لا شيء أستطيع فعله حيالها، ثق بي. إنها لا تبتعد، إنها معي أينما ذهبت، الفكرة جديدة لم أفكر فيها من قبل، لكنها تبدو قديمة جدًا كذلك!» إنها تنطلق من منطق وفكرة.
على الرغم من أن المنطق بديهي، فإننا نادرًا ما نناقشه: الطبيعي أن ما له معنى هو المستمر والمهيأ للجدل والتعديل، وما عداه يسقط في هوّة سحيقة. والفكرة هي أن نفترض وجود كتلة كلية ربما بحجم العالم الملموس من جانبنا تمثّل معاني الكلمات والمواقف والنصوص، ونسأل: أين تذهب كل الأشياء المقابلة العديمة المعنى؟ إلا إذا كنت تفترض أصلًا أنه لا وجود إلا لما له معنى! طبعًا هذه الفرضية ستفترض بدورها أن تكتل الأشياء عديمة المعنى وشغلها لحيز من التفكير يجعلها ذات معنى، لكن دعنا من هذا الآن لأنه سيعقّد الأمور أكثر، دعك من أننا بسهولة يمكن أن نقول إن اجتماعها في كل خفيّ هو ما له معنى ولا يعني هذا أنها (ذات) معنى!
يبدو أن التساؤلات المتعلقة بما يمكن أن تحصل عليه مسألة معنى المعاني قد تقلق المشتغلين بالأدب خاصة، في حين أن اهتمام المختصين بهذه المسألة من الفنون الأخرى، أقل.
الصورة واللحن يمكن التعبير عنهما في كلمات (يجب) أن تكون مفهومة في ترابطها، أما النصّ المكتوب فهو هذه المرحلة نفسها. على الرغم من ذلك، فإن استخدام التصنيفات التعريفية في الموسيقى أو في الرسم، أو غير ذلك، يثبت أن انتشار هذه التصنيفات في الفنون غير اللفظية ليس أقل من انتشارها في مجال الأدب. ولا يمكن كذلك تفسير الاختلاف من خلال الاعتماد على خصوصية الوسيط اللفظي: ارتكزت مسألة وضع التعريفات دائمًا على الأجناس الأدبية، وقلّما طرحت بالنسبة لأجناس غير أدبية أو لنشاطات خطابية شفهية، على الرغم من أنه في هذين المجالين تُلاحظ يوميًا تمييزات متعددة.
في الواقع، التمييزات النوعية (المتعلقة بالجنس والغاية والأسلوب) موجودة في كل أحاديثنا عن الممارسات الثقافية: في كل لحظة يحدث أن نميّز لحنًا معيّنًا عن آخر، ومقامًا موسيقيًا عن غيره، ومنظرًا طبيعيًا عن طبيعة ميتة أو عن لوحة تاريخية، ولوحة تكعيبية عن كاريكاتير، ودراسة فلسفية عن خطبة وعظية أو مرجع رياضيات عن كتيّب في الشطرنج، واعتراف عن مجادلة أو عن رواية، وكلمة روحية عن دعابة، وكلمة حب عن تهديد عن وعد أو وعيد. من هنا يأتي هذا السؤال: هل التصنيف هو تحديد أول للمعاني؟ ■
غاي بويد عامل النظافة ونظرة إلى شاب وفتاة يرقصان في الممر
لقطة تجمع ديفيد ثيوليس (إلى اليسار) وتوني كوليت