المعمار الجمالي في أدب محفوظ
يرتسم طريق نجيب محفوظ الروائي كتاريخ موازٍ للأزمنة الحديثة للإنسان، لو التفتُّ لتغطي تغيّراته التكتيكية لوجدتها بمعزل عن الجدل الأدبي الدائر عمومًا، حتى عندما أدخل تيار الوعي في سرده، ألتزم بشكل القص عند تولستوي وهوميروس: «الرواية تملك معنى واضحًا كلّ الوضوح؛ الناس يذهبون للحرب دون وعي بأنهم يتقاتلون من أجل عيون هيلين أو حدود روسيا، بل والمؤسف له أنهم لا يبالون»!
تتكالب القوى في الصراع للفوز بعيون أو قلب أو جسد «حميدة» في «زقاق المدق»، لكن أي خلاف بائس تورثه الغرائز الطبيعية والطموح الحُر في حياة سُكّان الزقاق؟ وعلى خلاف ثلاثية بروخ، (السائرون نيامًا)، وهي ثلاثية تتناول ثلاثة عقود من تاريخ أوربا توضح انحدارًا مستمرًا للقيم، أما الشخصيات فمحبوسة في قفص تحاول أن تعثر على السلوك الملائم لهذا الاختفاء التدريجي للقيم المثالية.
«كان بروخ بالطبع مقتنعًا بصحة حُكمه التاريخي، بأن إمكانيّة العالم التي يرسمها كانت إمكانية منجزة، لكن لنحاول أن نتخيّل أنّه قد انخدع، وأنه كانت ثمّة، بالموازاة مع عملية الانحدار، عملية أخرى تتم، تطور إيجابي لم يكن بروخ قادرًا على رؤيته». (فن الرواية، ميلان كونديرا، ترجمة بدر الدين عرودكي، ص 34، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2001، مصر).
حاولت «ثلاثية» محفوظ فهم الإنسان المُلقى به في عاصفة عملية الانحدار هذه، استيعاب حركاته، واستعداداته، وتحديد مصيره.
لقد اكتشف بروخ أرضًا مجهولة للوجود، أن توجد الأشياء، إمكانية الوجود، لكن «ثلاثية» محفوظ ناقشت تحوّل هذه الإمكانية أو عدم تحوّلها إلى واقع معيش. حتى الكوارث الاجتماعية والشخصية كانت تسير في موكب الحياة تليها فترات نسيان طبيعي وإن بقي الأثر، كما كان بيتهوفن وشوبان يردفان اللحن الجنائزي في الـ «سوناتا» بحركة أخيرة نشيطة.
مجاورة فضاءات مختلفة
إن تجاور هاتين الحركتين (يائس - غير يائس) يعيد في نفسك سيرة الخلق الأولى، إنه أصيل بشكل لم يسبق له نظير، وعلى حدّ تعريف كونديرا لتأليف الرواية، أنها مجاورة فضاءات عاطفية مختلفة، هذا هو فن الروائي الأشد حذقًا.
إنها، إذن، مسألة صنع أمامها العراقيل تعنّت النقاد وقلّة عنايتهم بمحفوظ في البداية، وكان أكثرهم يكتب ولا يقرأ للرجل، أو يعيد تكرار المكتوب قبله حتى لا يُتهم بالشطط، من ذلك التصنيف الجبري لروايات محفوظ الذي، وإن صحّ، يأكل ربع كل موضوع جديد عنه كأنها فيلموجرافيا ممثّل ما.
محفوظ نفسه قال في حديث له مع الناقد فؤاد دوارة بمجلة الكاتب، (العدد الثاني والعشرون، يناير 1963، ص 19)، إنه «لم يعرف أنه كاتب واقعي إلّا من كتابات النقاد!».
«ثلاثيته» الشهيرة على سبيل المثال، يضعونها كلما ذُكرت في صندوق المرحلة الواقعية (بين التاريخية والتشكيلية الدرامية)، ولكن ألا يمكن النظر إليها على أنها عمل سيكولوجي كبير في الأساس؟ المونولوج الداخلي للسيد أحمد عبدالجواد وابنيه ياسين وكمال، ألا يأخذ مساحة نسبية تساوي حوار كامل رؤبة لاظ مع نفسه في «السراب»؟
مرحلة مهمة
صحيح أن «الثلاثية» (بين القصرين، وقصر الشوق، والسكّرية) تؤرخ لمرحلة مهمة في حياة الشعب المصري، لكن لماذا لا تعتمد الدراسات التاريخية على رحلة التأملات والذكريات والمشاعر المتباينة التي تراود الشخصيات، ويستحضرها الخيال في مواقف مختلفة؟
هكذا يمكن إعادة القراءة النقدية لتصنيف رواياته، ويصبح حكم فؤاد دوارة، في العدد نفسه من «الكاتب» أيضًا، حكمًا جانبه الصواب عندما يقول: «إذا كان هناك إجماع بين النقاد، الذين لا يكادون يجتمعون على شيء، على أن أعمال محفوظ تمثّل قمة ما وصلت إليه الرواية العربية، فإني أعتقد أن (اللص والكلاب) تمثّل قمة جديدة غير مسبوقة في أدبنا العربي، وسواء تناولناها من ناحية المضمون الإنساني المتعدد الأبعاد بها، أو ناقشنا شكلها الفني، فهي تمثّل على المستويين عملًا ثوريًا بكل ما تحمله كلمة الثورة من معانٍ... وهي بالنسبة لأعمال محفوظ السابقة بمنزلة التطور الحاسم، أو القفزة الهائلة نحو آفاق أرحب بكثير من الواقعية النقدية الأمينة التي استنفدت كل أغراضها - في نظره - مع انتهائه من الجزء الثالث من ثلاثية (بين القصرين)».
(المرجع السابق - ص 80).
الفلسفة والتحليل
لكن لا، إن محفوظ في كتاباته يمكن وصفه بأنه كاتب عقلاني، مثل فرجينيا وولف ولورنس وهكسلي، يؤمن بأن الحياة أكبر من أن يحتويها العقل، وأن الحقيقة ليست مجرد إدراك عقلي بحت، فقد أراد في بدء حياته الأدبية أن يعيش حياة الفكر الفلسفي، ثم غلبته العواطف التلقائية والبواعث الفنية للرواية، فكرّس لها قلمه وذكاءه المدقق وازدواج تفكيره الفطري، واستخدم الفلسفة والتحليل النفسي في عمليات كشفه التخيلية للحياة، حتى عندما استكان لإلهامها العقلاني، وبالتالي تظهر دراسته النفسية الدقيقة لشخصيات «الثلاثية» وكأنها قراءة واقعية اجتماعية.
ومثل إدوارد مورجان فورستر، يرفض أي فلسفة عقلية تقول إن الشخصية الإنسانية ترتكز على مبدأ التنافر والعنف والتجاذب في تحقيق ذاتها، بل الحكمة النابعة من القلب، والتي تناولها أدباء القرن التاسع عشر بشيء من عدم الاكتراث، فكانت النتيجة أن التقدم الحضاري والعلمي والصناعي، لم يصاحبه تقدّم ملحوظ في الحب والشفقة والإدراك.
وهكذا يفرّ محفوظ من المأساة التي يصفها إدجار موران «لقد حكم علينا بالفكر اللا يقيني، وبالفكر المليء بالثقوب، بفكر ليس له أي أساس يقيني مطلق» ومن الإبستيمولوجيا المعتادة التي انتهت إلى العدم والفراغ، بحكم تقليديتها الانتقائية الساعية في إصرار إلى حجب التعقيد الذي يغطي حياة الواقع الذي يتوهم الاكتمال.
عملية فكرية
هذا الفكر المركّب كان عصيًّا على عقول أغلب نقاد أدب محفوظ، لأنه يروم قصور الفكر، المستند، على حد تعبير مورجان، إلى أيديولوجية الطبيعة الخارقة للإنسان، لكونه طاقة إبداعية، وقوة عاقلة، تملك القدرة على ترجمة الواقع إلى عملية فكرية تامة ويقينية.
«إن إصلاح عطب الفكر ليس معناه التموقع في موضع، يسمح لصاحبنا بتقديم النصائح، وعرض الوصايا، أو ادعاء تأسيس علم بكل شيء، وهو في هذا يعني أنه ليس القصد هنا تحديد وصايا الفكر المركّب التي سبق لي أن حاولت استخلاصها، بل التحسيس بالنواقص الهائلة لفكرنا، وأن نفهم أنّ فكرًا مشوهًا يقود بالضرورة إلى أعمال مشوهة، إنه الوعي بالباطولوجيا المعاصرة للفكر». (إدجار موران، الفكر والمستقبل... مدخل إلى الفكر المركّب، ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2004، ص 19).
وهكذا تعد العملية الفكرية في روايات محفوظ جنسًا أدبيًا غير معياري بالشكل التقليدي، قد نستطيع تلمُّس بعض ملامحه النوعية بالاعتماد على تاريخ تراكم الشرارات النفسية في حيّزه، بيد أن الجهد ذاته لا يفضي إلى تصنيف هيّن في جدول مدرسي واضح المعالم، بالرغم من هندسة المؤلف شديدة الإتقان، وبناء المعمار الجمالي الخاص بكل رواية بمراعاة عنصري الشمول والتكثيف، والقدرة المطلقة على القبض على التعبير اللحظي الدقيق من بين براثن الزمن، تنطلق من تصوّر حاد وحاسم في عقل المؤلف وروحه، يلزمه أثناء الكتابة، ويمكنه من السيطرة على العناصر المهيمنة على نصوصه كافة، والتي تكرر بشكل أو بآخر في مختلف أعماله (بما فيها المسرحية والمسرحية ذات الفصل الواحد والقصص القصيرة والأحلام)، مما يجعل القارئ والدارس ينتبه إليها ويتخذها دليلًا إلى تلمّس أسلوبه الخاص في الكتابة، وقد يهتدي الناقد بفطرته الطبيعية إلى الأمر عينه، لكنّه بموجب الخبرة التي اكتسبها في قراءة النصوص، يشعر بأنه لا بدّ من تصنيف العمل قبل تفنيد جمالياته وأغراضه.
تجاوز نظرية المعرفة التقليدية
وللدخول في التفاصيل، لنأخذ مثال أستاذ اللغة العربية، المترجم هاناوا هاروو، الذي فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها التاسعة (2014 - 2015)، وحصل على جائزة الترجمة لعمله على «ثلاثية» محفوظ، وهو ضمن ألوف اليابانيين المستعربين الذين ينكبّون على قراءة الأدب العربي، لا يهتم مطلقًا بالتصنيف التقليدي لروايات محفوظ. رادوبيس، وعبث الأقدار، وكفاح طيبة، لا تعدّ روايات تاريخية بالنسبة له، بالمعنى الذي نفهمه نحن في مصر والعالم العربي، كما تنتمي «الثلاثية» بشكل ما إلى المرحلة الفكرية التي اعْتِيد تناولها، حيث تبدأ
بـ «اللص والكلاب» و«أولاد حارتنا» و«الشحاذ».
لكن الذي يتأمل شخصيات الثلاثية الأساسية: السيّد بطبعه المزدوج، الحاسم في بيته، المرح في ليالي الأُنس خارجه - ياسين الشهواني العابث الذي يطارد النساء في الشارع - كمال المثالي الحالم الذي يصف محبوبته عايدة بـ «الإلهة»، يجدها تأخذ بمساحتها النفسية جلّ اهتمام الكاتب وليس الطابع الاجتماعي لفترة تاريخية ما، وشخصيات «الثلاثية» محدودة وقليلة بالنسبة إلى ضخامة العمل، وينطبق عليها ما كتبه علي السعيدي:
«ضرورة تجاوز نظرية المعرفة التقليدية، بحيث نعمد إلى خلخلة التقابل المختلق بين الذات والموضوع، بأن نعيد تموضع الذات، عبر تحجيم تموقعها أمامه، فمن شأن الادعاء باستقلالها عن الموضوع، وقدرتها على القبض على حقيقته، أن يفقد العقل بصيرته، لكونه يصير قيد رؤية اختزالية وتحديد يميل إلى التبسيط، إذ يترتب عن ذلك الادعاء تصنيف المعرفة، والفصل بين ضروب معرفية، تكون تلك الموسومة بالموضوعية في أعلى مراتبها». (علي السعيدي، الفكر بين التبسيط والتعقيد، مجلة نزوى، عمان، العدد 84، أكتوبر 2015، ص 257).
أخطر عمل ثوري
بناء على ذلك، لا يمكن فصل «الثلاثية» عمّا تلاها من روايات مثّلت تيار اللا وعي (اللص والكلاب، والسمان والخريف، والطريق، والشحاذ) وينطبق عليها وصف «أخطر عمل ثوري»، الذي أزاحه فؤاد دوارة وألقاه على «اللص والكلاب»، بل إن تيار الشعور ومخاطبة الذات تستهل به «الثلاثية» أولى صفحات «بين القصرين»، عندما يقول محفوظ في وصف زوجة السيد أحمد عبدالجواد: «وأصغت أمينة إليه باهتمام وسرور، اهتمام يستثيره في نفسها أي نبأ يجيء من العالم الخارجي الذي تكاد لا تعرف عنه شيئًا، وسرور يبعثه ما قد يكون في حديث بعلها معها عن هذه الشؤون الخطيرة من لفتة عطف تزدهيها، إلى ما في الحديث نفسه من ثقافة يلذّ لها أن تعيدها على مسمع من أبنائها، وخاصة فتاتيها اللتين تجهلان مثلها العالم الخارجي جهلًا تامًا». (بين القصرين، مكتبة مصر، ص 13 و14).
فإذا كانت «الثلاثية» تنتمي لروايات الواقعية الكلاسيكية أو الاجتماعية الفوتوغرافية لقرأت أن أمينة «أصغت إليه باهتمام وسرور»، ثم تابع السيد كلامه، لأنك تشاهد انفعالات وجهها وتسمع ما يقولان، لكنك لا تقرأ ما يدور في الرؤوس من أفكار، ولا ما يحتدم في الوجدان من مشاعر.
بل إن الأسرة عندما تجتمع صباحًا على مائدة الإفطار، لا يغيب عن ذهن الكاتب اليقظ أن ينقل لك عاصفة خاصة تدور في نفس كمال طفلًا، وهو يراقب طريقة تناول كل واحد للطعام، ويتساءل عن مصيره وما يبقى له على المائدة، وسوف تجد في كل شرارة برق تجتاحه في هذا الموقف العابر أثرًا وأي أثر في حياته كلها فيما بعد! ■