نبوءات جورجي زيدان
ثمَّة، في الأدب والموروث العربيين، بعض مما يمكن اعتباره خيالًا علميًا بدائيًا، سبق به الرواة والساردون العرب - مجهولون أو معلومون - مخيَّلَة الغرب في ارتياد مناطق من الحكي المعتمد على عناصر عديدة من الخيال العلمي، كاستكشاف مناطق خيالية مجهولة، على سطح البحر أو في أعماق المحيطات، واستشراف المستقبل برؤىً تنبؤية عن الطيران والفضاء والأسلحة والمخترعات الغريبة.
ليس من الصعب استخلاص هذه العناصر في نماذج عبقرية من الأدب الشعبي المكتوب بالعربية، وفي مقدّمتها حكايات عديدة من الكتاب القصصي «ألف ليلة وليلة»، وفي رحلات السندباد، وسِيَر شعبية مثل سيرَة سيف بن ذي يزن، وغيرها، وصولًا إلى مشارف القرن العشرين، لنجد كاتبًا عربيًا بارزًا، هو جورجي زيدان، المعروف برواياته التاريخية.
صحيح أننا لن نجد في قائمة إصدارات زيدان روايةً يمكن أن ننسبها إلى قصص الخيال العلمي، تستخدم بعضَ عناصره التي تواضعنا عليها، لكن تستوقفنا أفكار له، وردت في استقصاء شارك به، قرب نهاية القرن التاسع عشر، لمصلحة جهة ما، لكنّه آثرَ أن يحتفظ بأوراقه، فلم تُنشَر آراؤه التي أوردها في ذلك الاستقصاء.
والحقيقة هي أن الرغبة في محاولة تلمُّس ملامح المستقبل تظهر عند الانعطافات المفصلية في تاريخ الحضارة البشرية، ويكون الدافع وراءها التوجّـس مما قد يأتي به الغيب، أو استبشارًا بمستجدات تجيء لتأخذ بيد البشر في حياتهم، فتطوّرها وتسهّلها. وتثور تلك الرغبة في أعقاب الحوادث الجسام، كالحروب الطويلة والشّرسة، التي تهزّ يقين البشر وتنال من إحساسهم بالأمن والاستقرار، وأيضًا عند بدايات القرون.
وقد شهدت نهاية القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، محاولات من هذا الصنف، منها ما دعت إليه في بداية عقد التسعينيات من ذلك القرن إحدى وكالات الأنباء الأمريكية، التي كلَّفت عددًا كبيرًا من الشخصيات الأمريكية البارزة بالمشاركة في استقصاء فريد حول تصوّراتهم لما سيكون عليه شكل الحياة بعد مئة سنة، وهي فكرة الاستقصاء نفسها التي استدعت أن يسجّل الروائي العربي جورجي زيدان أفكاره الاستشرافية، وفي التوقيت نفسه تقريبًا، حتى أننا لنعتقد أنه قد تلقّى دعوة للمشاركة في الاستقصاء الأمريكي، أو علِمَ به، فقرّر أن يدلي بدلوه فيه بغير دعوة.
استشراف الغرب
والغريب، أيضًا، أن التشابه ينسحب على توقيت الالتفات إلى كل من الاستقصاء الأمريكي وتصوّرات زيدان، فأوراق كلّ منهما ظلّت حبيسة الأدراج، حتى ظهرت التصورات الأمريكية في كتاب صدر قُرب منتصف العقد الأخير من القرن العشرين، وحرّره الكاتب الأمريكي ديف والتر - أعدَّ عنه كاتب هذه السطور الفصلَ الأول من كتابه «غدًا القرن 21!»، (الصادر عن سلسلة العلم والحياة، رقم 67، عام 1995) - كما ظهرت تصورات زيدان في مقال نشرته مجلة القافلة السعودية عام 2006.
يُذكر أن مجموعة من أقطاب المجتمع الأمريكي الذين شاركوا في ذلك الاستقصاء قد عجزت عن تخيُّل ما الذي يمكن أن يضيفه التطور الحضاري، على مدى مئة سنة، إلى حياة البشر. ويكفي أن نشير إلى توقّع وزير الخزانة الأمريكية في ذلك الوقت، تشارلس فوستر، الذي تصوّر أن تستمر السكك الحديدية محتفظة بمكانتها كأسرع وسيلة مواصلات، بعد قرن من الزمن؛ أو إلى ما تصوّره السيناتور جون أنجالس من أنه سيكون بمقدور الناس، في عام 1993، أن يستدعوا منطادًا لينقلهم من مكان لآخر، بالسهولة نفسها التي يطلبون بها العربات التي تجرُّها الجِياد!
ذلك ما كان من أمر استشراف القرن العشرين في الغرب، فكيف رأى جورجي زيدان أحوال ذلك القرن؟
رؤية زيدان
تقول أوراق زيدان، التي كتبها وأهملها، إن عهد الدول الصغيرة قد انقضى، وسيشهد المستقبل نظامًا تتكتّل فيه تلك الدول الصغيرة، متقاربة الأجناس والأصول والأوضاع، في كُتل كبيرة، لتنشأ، بعد مئة سنة، دول قليلة العدد، مثل دولة اللاتين، ودولة الجرمان، ودولة الروس، وتكون الصين واليابان دولة واحدة.
ويتوقّع في نهاية القرن العشرين أن تنقلب جمهورية فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية من الجمهورية إلى المَلَكية. ولا يتوقّع أن تتمّ الوحدة العربية في القرن العشرين، بل في القرن الذي يليه، وأن تصبح مصر حكومة نيابيّة، وأن تدرَّسَ في «الأزهر» كل العلوم واللغة الإنجليزية، وسيكون للسيدات المصريات نادٍ يحملُ اسم قاسم أمين؛ وأن يكون السفر بين القاهرة والإسكندرية بالطائرة، ومن مصر إلى أوربا واليابان بالبالون، كما سيكون السفر من الإسكندرية إلى رأس الرجاء الصالح بالسكة الحديدية الكهربيّة! وفي القاهرة سيقوم مستشفى للراديوم بمعالجة أمراض السرطان. وسوف تكثر الواحات في صحراء مصر، وسيبلغ تعداد المصريين عام 2000 خمسة وعشرين مليون نسمة.
أما المساكن، فسوف تُنشَأ في الهواء الطلق، وستكون بسيطة التركيب قليلة الأثاث، وتُغرس حولها الأشجار المزهرة والمثمرة؛ ولكل بيت غرفة مخصصة للتليفون اللاسلكي، ويمكن بواسطته محادثة الناس ورؤيتهم كذلك. أما مطبخ البيت والمغسلة فيُداران بالكهرباء. وسوف تُنار المدن بالمصابيح الكهربائية، وذلك على نفقة الحكومة.
وتوقّع زيدان إلغاء عقوبة الحبس، وأن يخضع المجرمون لبرامج علاج خاصة في المستشفيات، ولا يعاقبون بالحبس في السجون. وفي مجال الصحة أيضًا، يقول زيدان إن المستقبل سيشهد عدول الطب عن العقاقير، إلّا في حالات قليلة. أما العلل الداخلية فسوف يتم كشفها عن طريق أشعة رونتجن، التي ستمكّن الأطباء من رؤية الأعضاء والأحشاء واضحة وكل ما يصيبها ظاهرًا. وستُجرى العمليات الجراحية بكل يُسر وسهولة، ويجريها الناس في منازلهم لبعضهم البعض!
اختراع عجيب
وسيكون العلم قد اكتشف لكلّ مرض جسمي أو نفسي ميكروبًا؛ فللفرح ميكروب وللحزن ميكروب، وكذلك الحال للذكاء والغباء، والإخلاص واللؤم، والنشاط والكسل. كذلك سيكون العلم قد وجد لكل مرض مصلًا شافيًا، حتى أمراض النّفْس؛ مثل الحب والبُغض، كما سيجد العلم وسيلة لإطالة الحياة باستبدال الأعضاء التي هزلت وشاخت بأعضاء أخرى قويّة أو شابة.
وكانت الطائرات، في زمن ذلك الاستقصاء، في أطوارها الأولى، اختراعًا عجيبًا، يثير الإعجاب معجونًا بالخوف؛ وقد رأتها مخيلة زيدان في صورة عملاقة، كأنها البيوت، فيسكن فيها الإنسان وهي رابضة على الأرض، لتطير به عند الحاجة، حاملة جميع أفراد أسرته ومَنْ يريد من الأصدقاء، فضلًا عمّا تحمله من معدّات المنزل والسكن. وفي هذه الطائرات أجهزة التلفون والتلغراف بلا سلك. وفيها المرآة السحرية التي يرى فيها الراكب المشاهد البعيدة. وتخترع مادة تُرمى بها الطيارة من بُعد، فتوقفها عن السَّير لتمنع فرارها بالهاربين، إن سرقوها يومًا وهربوا بها. وتمتدّ نظرته الثاقبة إلى مستقبل الطاقة، فيتوقّع، بعد أن تفرغ الأرض من الفحم الذي يستخدم وقودًا، أن يستخدم الناس حرارة الشمس والرّياح في توليد القوى المحرّكة.
من ذلك كله، نرى أن زيدان لا يقلّ كثيرًا عن جول فيرن؛ وإن كنّا نتمنّى لو أنه أورد هذه الرؤى الاستشرافية الرائعة في أعمال فنية، وهو الخبير بالبنية الروائية، وقد أثرى الأدب العربي بالعديد من الروايات التاريخية ■