حاضنة جديدة وانطلاقة متجددة
الحديث عن «العربي» على صفحات «العربي» له طعم مختلف ومسؤولية عظيمة إذا كان الحديث مرتكزًا على سرد الذكريات واسترجاع بعض المواضيع أو المعلومات المهمّة التي نشرت فيها.
الحديث عن «العربي» يكتسب أهمية بالغة إذا ارتبط بالمستقبل والتحولات النوعية التي ستضيف إلى بناء هذه المؤسسة لبنات جديدة، وبمعنى آخر لا قيمة للحديث عن أمر معروف سلفًا ما لم يتضمن الإعلان عن شيء جديد يوازي سيرة ومكانة مجلة العربي.
قبل أشهر قليلة، أكملت مجلة العربي عقدها السادس بالتمام والكمال، ومثل كل المحطات الاحتفالية السابقة، طرحت تساؤلات عدة عن مستقبل المجلة ومطبوعاتها في عالم جديد بات يتشكّل في الفضاء الرقمي، عالم أصبحت فيه الصحافة الورقية تواجه تحديات حقيقية أطاحت أول الأمر كثيرًا من المجلات، ثم تبعتها بعض الصحف الورقية التي لم تواكب حجم الصراع الواسع مع العالم الرقمي، وعجزت عن مواصلة مسيرتها ولو بأقل التكاليف، لذلك حدث التوقف بشكل نهائي، دون وعد بالعودة مرة أخرى.
وقبل أن تفرض معطيات الزمن الحديث قواعدها وأحكامها القاسية، كانت «العربي» ولا تزال في جميع مراحلها الزمنية متأهبة لمواجهة المصاعب والتحديات كمطبوعة ورقية أول الأمر، ومؤسسة ثقافية عربية لاحقًا، حملت بكل فخر لقب «سفيرة الثقافة العربية»، يدفعها لذلك عامل لا يمكن تجاهله أو التقليل منه، وهو التمويل الحكومي السخي الذي هيأ لهذه المجلة/ المؤسسة بيئة النجاح والعمل المتواصل دون تدخّل أو توجيه لسياستها التحريرية، لذلك استطاعت «العربي» كسب ثقة القارئ منذ عددها الأول.
على صعيد الصحافة التقليدية بشكل عام والمجلات الثقافية بشكل خاص، ولدت «العربي» وعاشت أول تحدياتها في إثبات وجودها بين مجلات مرموقة سبقتها ومجلات واعدة صدرت بعدها، وحرصت على السير في مسارين متلازمين؛ الأول هو الوجود والانتشار في الأسواق العربية، والثاني هو الالتزام بسياسة تحريرية متوازنة يجد فيها القارئ نفسه قريبًا من كل أقطار الوطن العربي وأقلامه البارزة، ومطّلعًا على مزيج من المعارف في مكان واحد، وصفه رئيس التحرير الأول د.أحمد زكي، يرحمه الله «من كل شيء قطاف مختلف، والشجر المقطوف كان شجر المعرفة الذي لا يفنى بالقطف قطافه».
وعن الأجواء التي عاشتها هيئة التحرير قبل صدور العدد الأول والكمية التي طبعت من مجلة العربي، يذكر د. أحمد زكي في العدد 74 الذي صدر في يناير 1965م، بمناسبة إتمام المجلة عامها السادس يقول: «كانت الريبة عندنا قائمة، كم تحتمل السوق؟ قيل عشرة آلاف، وقيل عشرون ألفًا، ثم قيل كم؟ قلت: لا أقلّ من أربعين ألفًا. وصفا المطبوع على نحو 38 ألفًا لم تبق في السوق العربية وأقطار العروبة غير يومين. ويأتي البرق سائلاً: زيدونا. ونجيب آسفين: ما من مزيد».
بين التكيّف والتساهل
لقد واكبت مجلة العربي المتغيرات المختلفة التي حدثت في العالمين العربي والدولي، فنيًّا وتقنيًّا من حيث الإخراج والتبويب، والمتابع لها يدرك ذلك جيدًا، أما من ناحية المواضيع والتحولات الفكرية لاتجاهات شرائح القراء التي تبدلت كما تبدل الزمان، فلم تجد «العربي» صعوبة في التكيّف مع كل ما هو جديد، فلا هي بالعنيدة التي تناطح الزمن، ولا هي بالمتساهلة التي تقبل التضحية بهويتها العربية ورسالتها التنويرية الراسخة، بحثًا عن المزيد من القراء أو «المتابعين» بلغة وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت لأرقام «المتابعين» قيمة فضلى، تعلو على المحتوى وليس العكس.
لا يمكن اختصار اللمسات التغييرية التي أدخلت على صفحات مجلة تبلغ اليوم ستين عامًا، في مقال أو حتى سلسلة من المقالات، لكن يمكن بسهولة ملاحظة بعض القفزات البارزة التي حصلت في باب الاستطلاعات المصورة الذي يحتلّ المركز الأول في عدد صفحات المجلة، وما التحول في شعار «اعرف وطنك أيها العربي» إلى «العربي عيونك على العالم» إلا لمحة بسيطة لاستجابة هيئة تحرير «العربي» للمتغيرات في وطن عربي لم تنل كل أقطاره بعدُ استقلالها الكامل.
وبعد أن لعبت دورها الحيوي في تلك المرحلة التي ناهزت العشرين عامًا، اندفعت «العربي» نحو مهمتها الحيوية التالية بعد أن توافرت أسبابها الموضوعية، وهي الانفتاح على العالم؛ بدءًا من دول العالم الإسلامي، مع تركيز واضح على قارة آسيا، دون أن تتوقف بعثاتها الصحافية عن زيارة أقطار الوطن العربي، أو الاتجاه نحو قارتي أستراليا أو أمريكا الجنوبية، وقد تراكم لدى «العربي» رصيد آسيوي ضخم فتح عيني القارئ العربي على تجارب آسيوية مهمة في التحديث والتعايش السلمي والتنوع الثقافي البديع.
ومن تلك الكلمة «تراكم» نستطيع اختزال مئات الكلمات التي يمكن أن تقال عن سلسلة «كتاب العربي» الفصلية التي صدرت في بداية عام 1984م، وما تعكسه من مخزون ضخم مكّن مجلة العربي بعد صدور 300 عدد من أعدادها، من توظيف عشرات المواضيع المتجانسة التي نشرت في أعداد سابقة، لتصدر مبوبة في كتاب واحد لعدة كتّاب أو كتاب يضم بين دفّتيه عشرات المقالات لكاتب نشر في «العربي» عددًا وافرًا من المقالات التي يمكن إصدارها ضمن كتب السلسلة؛ مثل «حوار... لا مواجهة» تأليف د. أحمد كمال أبوالمجد (أبريل 1985)، و«خطاب إلى العقل العربي»، تأليف د. فؤاد زكريا (أكتوبر 1987م) وهذا فقط على سبيل المثال لا الحصر، وقد صدر عن سلسلة «كتاب العربي» ما يفوق المئة كتاب، وقد طوّرته «العربي» ليستوعب معظم الأبحاث وأوراق العمل التي نوقشت في ملتقيات مجلة العربي السنوية التي انطلقت منذ 2001م لتضيف إلى المشهد الثقافي العربي فعالية مميزة تحسب للمجلة وتعكس الوجه الثقافي والحضاري المشرق لدولة الكويت.
وفي سياق تلبية احتياجات القراء الصغار من الأطفال والناشئة لمجلة عربية متخصصة يكتبها ويرسمها عقل عربي يعرف طبيعة الوطن العربي وخصوصيته، صدر ملحق «العربي الصغير» لعقود كمطوية ضمن صفحات المجلة الأم، حتى انفصل في فبراير 1986م كمجلة مستقلة مكتملة الأركان، لا تزال تواصل رسالتها المهمة حتى اليوم.
أسئلة مستحقة وتحديات مفتوحة
وفي كل مناسبة احتفالية تخص ذكرى تأسيسها (اليوبيل الفضي، أربعون عامًا، خمسون عامًا، وأخيرًا ستون عامًا) تنتعش أسئلة مستحقة تتعلق بمكان ومكانة تلك المجلة المؤسسة في قادم أيامها، ويمكن تفسير منابع تلك الأسئلة وفقًا لمعطيات زمانها، كانت تكاليف الطباعة ودفع أجور العاملين بانتظام السبب الرئيس في اختفاء كثير من المجلات الثقافية العربية التي سبقت أو تزامنت مع مجلة العربي، وذلك قبل أن يدخل النشر الإلكتروني وانقلاب دنيا الإعلان التجاري، حيّز تفكير أكثر المتشائمين من المستقبل، لقد كان جواب «العربي»، كما أسلفنا، يأتي من العامل الذي لا يمكن تجاهله، وهو التمويل الحكومي السخي الذي أمدها بأسباب زيادة انتشارها وتنويع أوجه تواصلها مع قرائها.
وفي خضم المنافسة مع المجلات الثقافية، تفوقت «العربي» في عدة نواحٍ؛ أبرزها سعرها الرمزي وجـــودة طباعتــــها ووجودهــــا في الأسواق العربية ونقاط البيع في أبعد المدن والقرى النائــــية، أما من حيث المحتوى، فقد ظلت محافظـــة على سياستها التحريرية المتوازنة ونأيها عن الخوض في الأمور السياسية، وعندما انتشر التلفزيون في المنازل والمقاهي لم يؤثر ذلك في توزيع المجلة، ولم يمنعها من تجاوز خط طباعة 300 ألف نسخــة.
وفي الوقت نفسه ساهمت «العربي»، قبل ظهور القنوات الناطقة باللغة العربية والمتخصصة في عرض الأفلام الوثائقية، في طــــــرح مرئياتــــها لإنشاء قـــناة متخصصــــــــة ترفد مسيرتها بمحتويات مرئية ترى ثقافات العالم بعيون عربية، وقد حققت «العربي» شراكات نوعية مع كل من هيئة الإذاعة البريطانية وإذاعة مونت كارلو الدولية، من خلال طرح مسابقة «قصص على الهواء»، موجّهة إلى الشباب العربي المبدع، تنشر «العربي» على صفحاتها شهريًا خمس قصص فائزة يختارها أحد المتخصصين، وتقوم الإذاعــة بقراءة القصة الفائزة بالمركز الأول على مستمعيها في برنامج خاص، بالتعاون مع مجلة العربي.
وقبل أن تدخل الصحافة العربية في هواجس التنافس مع عالم الإنترنت وانتشار المواقع الإلكترونية، حشدت «العربي» كل طاقاتها لأرشفة كل الأعداد التي صدرت منذ عام 1991م، بما فيها مجلة العربي الصغير وكتاب العربي، لكي تصبح متاحة - بالمجان - لكل باحث من أي مكان في العالم، للبحث عن أي موضوع نشـــر فــيها عبــــر موقعهــــا الإلكتروني الذي أطلقتــه عام 2002م، وقد استمر ذلك الموقع في إضافة محتــــويات كل عدد جديد يصدر حتى 2013م عندما توقّف لأسباب تعاقدية لا مجال للحديث عنها ضمن هذا السياق، وقد واصلت المجلة تقـــــديم خدماتها في منصات التواصل الاجتماعي بغرض التواصل مع الأجيال الجديــــدة المقبلة على استخدام الأجهزة الذكية بكثافة.
«العربي» تحت مظلة المجلس الوطني
لقد ذكرنا في مقدمة هذه الأسطر أن الحديث عن «العربي» يكتسب أهمية بالغة إذا ارتبط بالمستقبل والتحولات النوعية التي ستضيف إلى بناء هذه المؤسسة لبنات جديدة، وقد جدّ جديد اعتبارًا من هذا العدد، وهو انتقال تبعية إدارة مجلة العربي من وزارة الإعلام إلى المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، تنفيذًا لقرار صادر من مجلس الوزراء الكويتي الموقّر في يوليو 2017م، ولعل هذا الخبر المهم سيجيب عن كثير من الأسئلة التي تلقّتها المجلة في الفترة الماضية، وسيطرح كذلك المزيد من الأسئلة التي تخص المرحلة المقبلة.
إن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مؤسسة وطنية حاضنة لكثير من المهام والمسؤوليات التي تزايدت مع مرور الزمن، ومن أبرزها التخطيط لعملية التنمية الثقافية وتطوير الإنتاج الفكري وإغنائه، ولعل مسمّى هذه الحاضنة يلخّص الكثير من أدوارها التي لا تنحصر داخل حدود دولة الكويت، بل تمتد إلى الوطن العربي الكبير ضمن إطار العمل الثقافي العربي والانتماء المتأصل للكويت مع محيطها العربي.
لقد كانت «العربي» من آخر الوحدات التنظيمية التي أضيفت إلى مهام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ومَن يعرف تاريخ المجلس، يعرف إن مجلة عالَم الفكر وسلسلة «من المسرح العالمي» كانتا تصدران من وزارة الإعلام، وتم ضمهما إلى المجلس الوطني، كما ضمت إلى المجلس إدارات من وزارات مختلفة؛ مثل إدارة المسرح، تنفيذًا لمرسوم أميري يتيح للمجلس الوطني أن يقترح إحالة بعض اختصاصات الوزارات إليه مما يدخل في نشاطه.
إن هذه الخطوة الأخيرة، وهي نقل تبعية إدارة مجلة العربي إلى المجلس الوطني، تعد انطلاقة متجددة في تاريخ المجلة ستكفل لها الاستفادة من البنى التحتية المتينة التي يمتلكها المجلس لاستكمال مشاريعها الكثيرة ومواصلة التحليق في فضاءات الإبداع والثقافة الجادة، تلك البنى ستعين «العربي» على الوصول إلى أسواق جديدة، وأخرى ستفتح أبوابها بعد زوال الظروف الأمنية التي تمرّ بها، كما ستعين «العربي» على حمل المزيد من الأخبار الإيجابية في قادم الأيام، بإذن الله.
في الختام، لا بد من التوقف هنا لتقديم الشكر الجزيل لوزارة الإعلام وقياداتها المتعاقبة وكل كوادرها التي خدمت مجلة العربي طوال العقود الستة الماضية، حتى حان الوقت المناسب لتنتقل مسؤولية هذه المجلة/ المؤسسة إلى المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، لتواصل مسيرتها .