هل النهار مضيء؟

تضعنا الرؤية في مواجهة العالم الخارجي، وتمنحنا أسس التعرف إلى الأشياء والتحرك في نطاق العالم الخارجي. وبالطبع، لا تتم الرؤية إلا بشروط محددة، تبدأ بسلامة المبصر وقدرته على تفسير ما يبصره، ووجود الإضاءة الكافية لظهور موضوعات العالم المادي، أي أنها تتطلب المبصر السليم، والنهار (أو ما يقوم مقامه من إنارة اصطناعية) والموضوعات المادية.
في كل الأحوال، نحن نقول إن النهار (النور) شرط لازم للرؤية، ويقترن النهار دائمًا بطلوع الشمس، بينما يحلّ بغيابها الليل وانعدام الرؤية. 

 

‭ ‬ثمة‭ ‬كائنات‭ ‬حية‭ ‬تنشط‭ ‬ليلًا‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬نهارًا،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الضوء‭ ‬المرئي‭ ‬الذي‭ ‬يمنح‭ ‬النهار‭ ‬هويته‭. ‬فالخفافيش‭ ‬التي‭ ‬يمكنها‭ ‬الاصطياد‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬الدامس‭ ‬الذي‭ ‬ينعدم‭ ‬فيه‭ ‬الضوء،‭ ‬والحيتان‭ ‬التي‭ ‬تلاحق‭ ‬فرائسها‭ ‬في‭ ‬عتمة‭ ‬المحيطات،‭ ‬كلها‭ ‬تعتمد‭ ‬في‭ ‬رؤيتها‭ ‬على‭ ‬الموجات‭ ‬فوق‭ ‬الصوتية‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الضوء،‭ ‬وهناك‭ ‬بعض‭ ‬الثعالب‭ ‬والدببة‭ ‬القطبية‭ ‬التي‭ ‬يمكنها‭ ‬‮«‬الرؤية‮»‬‭ ‬بأنوفها،‭ ‬حيث‭ ‬تشتَمُّ‭ ‬رائحة‭ ‬فرائسها‭ ‬المختبئة‭ ‬تحت‭ ‬الثلوج،‭ ‬فتتعرف‭ ‬إليها‭ ‬وتحدد‭ ‬مكانها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬عون‭ ‬من‭ ‬عيونها‭ ‬ومن‭ ‬ضوء‭ ‬النهار،‭ ‬وتنقضّ‭ ‬عليها‭ ‬ممسكة‭ ‬بتلابيبها‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬أخطاء‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭.‬

 

‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬النهار؟

إذا‭ ‬كانت‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬نرى‭ - ‬نحن‭ ‬البشر‭ - ‬فيها‭ ‬الأشياء‭ ‬وتمنحنا‭ ‬التعرف‭ ‬إليها،‭ ‬وتتيح‭ ‬لنا‭ ‬حرية‭ ‬الحركة‭ ‬تدعى‭ ‬نهارًا‭ ‬ونورًا،‭ ‬فإن‭ ‬النهار‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الخفافيش‭ ‬وبعض‭ ‬الأفاعي‭ ‬والحيتان‭ ‬والدلافين‭ ‬والحيوانات‭ ‬البحرية‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬المحيطات‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالضوء،‭ ‬إذ‭ ‬يمكنها‭ ‬الملاحة‭ ‬والرؤية‭ ‬والاصطياد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬النهار‮»‬‭ ‬المظلم‭ ‬الذي‭ ‬تملؤه‭ ‬العتمة،‭ ‬ولو‭ ‬سلّط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬البيئة‭ ‬وأشرقت‭ ‬كائناتها‭ ‬وأشياؤها‭ ‬لما‭ ‬بدّل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬وضوح‭ ‬الأشياء‭ ‬وميّزها‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الحيوانات‭.‬

ولتقريب‭ ‬مشهد‭ ‬الرؤية‭ ‬السمعية‭ ‬أكثر،‭ ‬فكّر‭ ‬في‭ ‬جهاز‭ ‬التصوير‭ ‬بالأشعة‭ ‬فوق‭ ‬الصوتية‭ (‬السونار‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬يستخدمه‭ ‬الأطباء‭ ‬لرؤية‭ ‬الأجنّة‭ ‬القابعة‭ ‬في‭ ‬أرحام‭ ‬الأمهات‭ ‬الحوامل،‭ ‬حيث‭ ‬يصدر‭ ‬رأس‭ ‬المجس‭ ‬الذي‭ ‬يوضع‭ ‬على‭ ‬بطن‭ ‬الحامل‭ ‬نبضات‭ ‬من‭ ‬الموجات‭ ‬فوق‭ ‬الصوتية‭ ‬التي‭ ‬تخترق،‭ ‬بدورها،‭ ‬أنسجة‭ ‬جدار‭ ‬البطن‭ ‬والرحم‭ ‬وأنسجة‭ ‬الجنين،‭ ‬فيُمتص‭ ‬جزء‭ ‬منها‭ ‬ويتشتت‭ ‬جزء‭ ‬آخر،‭ ‬ويرتد‭ ‬جزء‭ ‬ثالث‭ ‬من‭ ‬الموجات‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأنسجة‭ ‬والأوساط،‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬المجس‭ ‬الذي‭ ‬يرسلها‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬وحدة‭ ‬معالجة‭ ‬تحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬نبضات‭ ‬كهربائية،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬إلى‭ ‬نور‭ ‬وظل‭ ‬يتعلّق‭ ‬سطوعهما‭ ‬بشدة‭ ‬ومدة‭ ‬الموجات‭ ‬المرتدة،‭ ‬فتتشكل‭ ‬بذلك‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬نراها‭ ‬عادة‭ ‬على‭ ‬شاشات‭ ‬جهاز‭ ‬التصوير‭. ‬

أما‭ ‬عند‭ ‬الدلافين‭ - ‬مثلاً‭ - ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬الموجات‭ ‬المرتدة،‭ ‬أي‭ ‬الصدى،‭ ‬لا‭ ‬تدخل‭ ‬إلى‭ ‬العين،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬الأذن،‭ ‬حيث‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬سيالات‭ ‬ونبضات‭ ‬عصبية‭ ‬كهربية‭ ‬تنتقل‭ ‬عبر‭ ‬العصب‭ ‬السمعي‭ ‬إلى‭ ‬الدماغ،‭ ‬ثم‭ ‬يقوم‭ ‬الدماغ‭ ‬بفكّ‭ ‬تشفير‭ ‬تلك‭ ‬النبضات‭ ‬ولا‭ ‬يحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬أصوات‭ ‬باعتبار‭ ‬دخولها‭ ‬من‭ ‬الأذن،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬مشهد‭ ‬واضح‭ ‬وتفصيلي‭ ‬وعميق،‭ ‬لكأنما‭ ‬إذا‭ ‬رآك‭ ‬دولفين‭ ‬أو‭ ‬خفاش‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يراك‭ ‬بصورتك‭ ‬الخارجية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يراك‭ ‬ويرى‭ ‬أحشاءك‭ ‬معًا،‭ ‬ويتم‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬دون‭ ‬عون‭ ‬من‭ ‬العين‭ ‬أو‭ ‬الضوء‭.‬

ومما‭ ‬سبق‭ ‬يمكننا‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬النهار‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬العالم‭ ‬مضيئًا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الكائن‭ ‬الحي‭ - ‬باستثناء‭ ‬فترة‭ ‬نومه‭ - ‬وتعني‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬مضيئًا‮»‬‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬الكائن‭ ‬الحي‭ ‬يمكنه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬من‭ ‬البيئة‭ ‬أن‭ ‬يتعرف‭ ‬إلى‭ ‬الأشياء‭ ‬ويختار‭ ‬طعامه‭ ‬ويتحصل‭ ‬عليه،‭ ‬مع‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬الهادفة‭ ‬بحريّة‭ ‬دون‭ ‬عوائق‭ ‬غير‭ ‬مرئية‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه‭ ‬تحدّ‭ ‬من‭ ‬حركته،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الإضاءة‭ ‬ضوءًا‭ ‬مرئيًّا‭ ‬عاديًّا‭ ‬أو‭ ‬ضوءًا‭ ‬غير‭ ‬مرئي،‭ ‬أو‭ ‬موجات‭ ‬صوتية‭ ‬أو‭ ‬فوق‭ ‬صوتية،‭ ‬أو‭ ‬مهما‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬الواسطة‭ ‬التي‭ ‬يستطيع‭ ‬بها‭ ‬الكائن‭ ‬الحي‭ ‬تدبُّر‭ ‬ملاحته‭ ‬البيئية‭ ‬واستمرار‭ ‬بقاياه‭.‬

‭ ‬

‭ ‬الضوء‭ ‬ليس‭ ‬شرط‭ ‬النهار

لقد‭ ‬طوّر‭ ‬بعض‭ ‬العميان‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬طريقة‭ ‬خفاشية‭ ‬تمكّنهم‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬الأشياء‭ ‬وتحديدها‭ ‬والتعرف‭ ‬إليها‭ ‬وتقدير‭ ‬الأبعاد‭ ‬والمسافات‭ ‬الفاصلة‭ ‬بينها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬آذانهم،‭ ‬حيث‭ ‬يطلقون‭ ‬من‭ ‬حلوقهم‭ (‬عضلات‭ ‬الحنك‭ ‬والبلعوم‭) ‬‮«‬طقطقات‮»‬‭ ‬صوتية‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬موجات‭ ‬صوتية‭ (‬انضغاطات‭ ‬وتخلخلات‭ ‬في‭ ‬الهواء‭) ‬تسافر‭ ‬من‭ ‬حلق‭ ‬الأعمى‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقابله‭ ‬من‭ ‬أشياء،‭ ‬فتصطدم‭ ‬بها‭ ‬ثم‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬أذنيه،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬إلى‭ ‬دماغه،‭ ‬حيث‭ ‬يقوم‭ ‬ببناء‭ ‬عالَم‭ ‬الأشياء‭ ‬الذي‭ ‬أمامه،‭ ‬فيحدد‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬المسموع‭ (‬المرئي‭) ‬شجرة‭ ‬أم‭ ‬قضيب‭ ‬حديد‭ ‬أم‭ ‬سيارة‭ ‬أم‭ ‬بيتًا‭ ... ‬إلخ‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬يقضي‭ ‬بإجازة‭ ‬القول‭ ‬هنا‭ ‬إن‭ ‬دماغ‭ ‬الأعمى‭ ‬قد‭ ‬استنار‭ ‬ورأى‭ ‬الأشياء‭ ‬وتعرَّف‭ ‬إليها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬الدامس‭ ‬الذي‭ ‬يلفّ‭ ‬دماغه‭ ‬وعينيه،‭ ‬فالنهار‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الأعمى‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالنور‭ ‬والظلام‭ ‬اللذين‭ ‬يحددان‭ ‬رؤيتنا‭ ‬عادة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬النهار‭ ‬لديه‭ ‬هو‭ ‬‮«‬رؤيته‮»‬‭ ‬للأشياء‭ ‬بأذنيه‭. ‬

وفي‭ ‬كل‭ ‬الأحوال،‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الضوء‭ ‬المؤلّف‭ ‬أساسًا‭ ‬من‭ ‬موجات‭ ‬كهرومغناطيسية‭ ‬أو‭ ‬فوتونات‭ ‬منيرًا‭ ‬بذاته‭ ‬‮«‬هناك‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬خارج‭ ‬أدمغتنا‭ ‬ووعينا،‭ ‬لأمكننا‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬الأشياء‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬الأشعة‭ ‬تحت‭ ‬الحمراء‭ ‬أو‭ ‬فوق‭ ‬البنفسجية،‭ ‬فهما‭ ‬أيضًا‭ ‬موجات‭ ‬كهرومغناطيسية‭ ‬أو‭ ‬فوتونات،‭ ‬لكن‭ ‬الضوء‭ ‬المرئي،‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحقيق،‭ ‬يكون‭ ‬مضيئًا‭ (‬أي‭ ‬منيرًا‭)‬،‭ ‬فقط،‭ ‬وفقط‭ ‬في‭ ‬وعينا‭ ‬وليس‭ ‬خارج‭ ‬عيوننا‭ ‬وأدمغتنا،‭ ‬فالنور‭ ‬الذي‭ ‬تنقله‭ ‬عيوننا‭ ‬وتشهده‭ ‬ذواتنا‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬وعينا،‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬خارجنا‭ ‬أيّ‭ ‬نور‭ ‬أو‭ ‬إشراق،‭ ‬بل‭ ‬مجرد‭ ‬فوتونات‭ ‬وموجات‭ ‬كهرومغناطيسية‭ ‬عديمة‭ ‬الألوان‭ ‬والظلال‭. ‬

ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يمكن‭ ‬للأشعة تحت‭ ‬الحمراء،‭ ‬أي‭ ‬الإشعاعات‭ ‬الحرارية،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منيرةً‭ ‬وضوءًا‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الأفاعي‭ ‬مثلاً،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الأشعة‭ ‬فوق‭ ‬البنفسجية‭ ‬تغدو‭ ‬ضوءًا‭ ‬منيرًا‭ ‬عند‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الطيور‭ ‬والحشرات،‭ ‬بينما‭ ‬هما‭ (‬الأشعة‭ ‬تحت‭ ‬الحمراء‮ ‬والأشعة‭ ‬فوق‭ ‬البنفسجية‭) ‬ظلام‭ ‬حالك‭ ‬في‭ ‬عيوننا‭ ‬وأدمغتنا،‭ ‬فيكون‭ ‬بذلك‭ ‬ليلنا‭ ‬المظلم‭ ‬الذي‭ ‬يعدم‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬الإبصار‭ ‬نهارًا‭ ‬عامرًا‭ ‬بالنور‭ ‬والوضوح‭ ‬عند‭ ‬تلك‭ ‬الحيوانات‭. ‬

فلو‭ ‬كانت‭ ‬الأشعة‭ ‬فوق‭ ‬البنفسجية‭ ‬منيرة‭ ‬بذاتها،‭ ‬أي‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬نورها‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬هناك‭ ‬لرأته‭ ‬عيوننا‭ (‬مع‭ ‬ملاحظة‭ ‬أن‭ ‬شبكيات‭ ‬عيوننا‭ ‬غير‭ ‬مهيأة‭ ‬لاستقبال‭ ‬ذلك الضوء‭)‬،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬الضوء‭ ‬المرئي‭ ‬منيرًا‭ ‬بذاته‭ ‬هناك‭ (‬أي‭ ‬خارج‭ ‬أدمغتنا‭) ‬لرأته‭ ‬بعض‭ ‬الأفاعي‭.‬

فالضوء‭ ‬أو‭ ‬الأشعة‭ ‬الكهرومغناطيسية،‭ ‬بالعموم،‭ ‬ليست‭ ‬منيرة‭ ‬بذاتها‭ ‬أبدًا‭ ‬خارج‭ ‬عيون‭ ‬وأدمغة‭ ‬مستقبليها‭. ‬فالنور‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬كذلك،‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬وعينا،‭ ‬فخارج‭ ‬وعينا‭ ‬ليس‭ ‬ثمة‭ ‬نور؛‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬وضح النهار‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬ظلام‭ ‬الليل،‭ ‬وكذا‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬الأحياء‭.‬

وثمة‭ ‬تساؤل‭ ‬لابد‭ ‬منه‭: ‬هل‭ ‬يكون‭ ‬النور‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وجود‭ ‬موجات‭ ‬كهرومغناطيسية؟‭ ‬والإجابة‭ ‬بالترجيح‭ ‬القوي‭: ‬نعم‭. ‬فالعميان‭ ‬الذين‭ ‬‮«‬يرون‮»‬‭ ‬بآذانهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إطلاق‭ ‬الطقطقات‭ ‬الصوتية‭ ‬وسمع‭ ‬ارتداداتها‭ (‬أصدائها‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬عيونهم‭ ‬أو‭ ‬آذانهم‭ ‬أي‭ ‬موجات‭ ‬كهرومغناطيسية،‭ ‬بل‭ ‬تصلها‭ ‬موجات‭ ‬ميكانيكية‭ ‬من‭ ‬تضاغُط‭ ‬الهواء‭ ‬وتخلخله،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فهم‭ ‬يرون‭ ‬ما‭ ‬يقابلهم‭ ‬من‭ ‬أشياء‭ ‬ويمكنهم‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬تعيين‭ ‬هويتها‭ ‬واتجاه‭ ‬حركتها،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬النهار‭ ‬والنور‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهم‭ ‬وليس‭ ‬ضياء‭ ‬الشمس‭ ‬أو‭ ‬الإضاءات‭ ‬الاصطناعية‭. ‬

‭ ‬

  ‬الأحمر‭ ‬ليس‭ ‬‮«‬هناك‮»‬

استطرادًا‭ ‬لما‭ ‬ذكر‭ ‬آنفًا،‭ ‬وباستقراء‭ ‬لتضميناته‭ ‬ومقتضياته،‭ ‬من‭ ‬الجائز‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬تلتقطه‭ ‬حواسنا‭ ‬ويشهده‭ ‬وعينا‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬مشهدًا‭ ‬إنسانيًا‭ ‬يخصّ‭ ‬البشر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سائر‭ ‬الأحياء‭ ‬الأخرى،‭ ‬فلكل‭ ‬كائن‭ ‬حي‭ ‬مزود‭ ‬بحواس‭ ‬مشهد‭ ‬يتكون‭ ‬بوعيه‭ ‬ويختص‭ ‬به‭ ‬ويرى‭ ‬نفسه‭ ‬والعالم‭ ‬من‭ ‬خلاله،‭ ‬وهذا‭ ‬المشهد‭ ‬لا‭ ‬يعبّر‭ ‬بالضرورة‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬الموجودات‭ ‬المادية‭ ‬الخارجية،‭ ‬فاللون‭ ‬الأحمر‭ ‬هو‭ ‬الأحمر،‭ ‬كما‭ ‬تراه‭ ‬أنت‭ ‬وأراه‭ ‬أنا،‭ ‬بينما‭ ‬يكون‭ ‬الأحمر‭ ‬ذاته‭ ‬رماديًّا‭ ‬بدرجة‭ ‬محددة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الشخص‭ ‬المصاب‭ ‬بعمى‭ ‬اللونين‭ ‬الأخضر‭ ‬والأحمر،‭ ‬وهذا‭ ‬الرمادي‭ ‬هو‭ ‬اللون‭ ‬الحقيقي‭ ‬للأشياء‭ ‬الحمراء‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المصاب‭ ‬سابق‭ ‬الذكر،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يمكنك‭ ‬الزعم‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬هو‭ ‬أحمر‭ ‬حقًا،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لونًا‭ ‬آخر،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬هو‭ ‬رمادي‭ ‬حقًا‭ ‬بالضرورة،‭ ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬الموضوعي‭ ‬أنتما‭ ‬تشتركان‭ ‬برؤية‭ ‬الطول‭ ‬الموجي‭ ‬ذاته‭ ‬للموجات‭ ‬الكهرومغناطيسية،‭ ‬وكل‭ ‬واحد‭ ‬منكما‭ ‬يظهر‭ ‬اللون‭ ‬في‭ ‬وعيه‭ ‬بكيفية‭ ‬معيّنة‭. ‬

وبصورة‭ ‬عامة،‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬تنقله‭ ‬الحواس‭ ‬وما‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬الصورة‭ ‬الأصلح‭ ‬والأوضح‭ ‬لاستمرار‭ ‬بقاء‭ ‬الكائن‭ ‬ضمن‭ ‬الظروف‭ ‬البيئية‭ ‬المختلطة‭.‬

وخلاصة‭ ‬القول‭ ‬أنّ‭ ‬الضوء‭ ‬الموجود‭ ‬خارجًا‭ ‬ليس‭ ‬نورًا‭ ‬ولا‭ ‬عتمة‭ ‬بذاته،‭ ‬وليس‭ ‬النهار‭ ‬نهارًا‭ ‬والليل‭ ‬ليلاً‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عيوننا‭ ‬وعيون‭ ‬أشباهنا،‭ ‬فالنور‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬نور‭ ‬في‭ ‬وعينا‭ ‬وحسب،‭ ‬والألوان‭ ‬والظلال‭ ‬هي‭ ‬بكيفياتها‭ ‬ألوان‭ ‬وظلال‭ ‬في‭ ‬وعينا،‭ ‬وفي‭ ‬وعينا‭ ‬فقط‭ ‬‭.

بعض‭ ‬الثعالب‭ ‬يمكنها‭ ‬‮«‬الرؤية‮»‬‭ ‬بأنوفها‭ ‬حيث‭ ‬تشتم‭ ‬فرائسها‭ ‬المختبئة‭ ‬فتتعرف‭ ‬إليها‭ ‬وتحدد‭ ‬مكانها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اي‭ ‬عون‭ ‬من‭ ‬عيونها‭ ‬ومن‭ ‬ضوء‭ ‬النهار‭ ‬وتنقض‭ ‬عليها‭ ‬ممسكة‭ ‬بتلابيبها‭ ‬بلا‭ ‬أخطاء‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان