احتجاب المهنية

ما بين الاحتجاب المؤقت، كما حصل في الكويت، وبين الغياب الكامل كما حصل في لبنان، تزايدت ملامح المنافسة بين الصحافة الورقية وعالم النشر الرقمي، وفي أي اتجاه تسير ولمصلحة مَن؟ في الكويت اتفقت 4 صحف يومية على احتجاب نسختها الورقية عن الصدور يوم السبت فقط مع بداية العالم الحالي، بهدف ترشيد الإنفاق ومنح يوم راحة للعاملين فيها، وفي لبنان وقع الاحتجاب ولكن بشكل طال جميع أيام الأسبوع.
هذه الوقائع التي تحصل في عالم الصحافة الورقية تثير الكثير من القضايا والتساؤلات التي تتجاوز الأوضاع المالية للمؤسسات الصحافية وانقلاب الأوضاع في سوق الإعلان، لتصل إلى نقاش أعمق لا بد فيه من طرح عناوين رئيسية، مثل المصداقية وتضارب المصالح بين قرار من يملك وحق القارئ في الحصول على المعلومة، وأخيرًا، وهو ما أعتقد أنه غائب عن الحوارات التي تدور حول مستقبل الصحافة الورقية، المهنية، ومَن يستحق لقب صحافي.
هناك فرق كبير بين التطور التدريجي الذي يحصل في مجتمعات تعتبر الصحافة فيها ركنًا أساسيًا في تكوين الرأي العام وكشف مواطن الخلل، وفي مجتمعات أخرى تكون الصحف فيها أشبه بإعلانات الحائط المدرسية. في الحالة الأولى يكون الانتقال للمرحلة الرقمية طبيعيًا دون أي اهتزاز في مستوى مهنية ما يُنشر، لأن المعايير التي تحكم بيئة العمل متوافرة، وفي الحالة الثانية نجد الخلط الواضح بين الصحافي الذي يصنع الخبر، وبين شاهد عيان وضعته الصدفة وسط حدث عابر.
 المعضلة الكبرى وهي التي نعيشها جميعًا هي الأخبار المثيرة وسرعة انتشارها وطريقة صياغتها، ولأن شح الأخبار هو السائد في مجتمعات الصمت، فضلًا عن ضعف الحصانة الثقافية ومهارة النقد، لذلك تجد المواد المفبركة طريقها للانتشار كالنار في الهشيم.
لقد خسرت الصحافة الورقية معركتها مع سرعة الخبر منذ ظهرت خدمة الرسائل القصيرة، وخسرت لاحقًا معركة السوق الإعلانية لمصلحة أصحاب المنصات الرقمية، الذين يحظون بمئات الآلاف من المتابعين، لكن الشيء البارز الذي لم تخسره الصحافة الورقية حتى اليوم هو مهنية المادة الإعلامية التي تمر بمراحل التقييم وإعادة الصياغة وسلامة اللغة قبل النشر، لذلك ليس من المستغرب أن نجد مواقع الأخبار الرقمية تقتات بشكل رئيسي على مواد الصحافة الورقية التي هي في حقيقة الحال لديها عنوان ويمكن مقاضاتها إذا تجاوزت حدود القانون، وهذا الأمر لا يمكن الاستهانة به، لأن طريقة ممارسة المهنة تبسط نمط الجدية عليها.
في الختام قد يكون زمن الصحافة بشكلها الورقي قد اقترب من النهاية، لأن التطور من سنن الحياة، ولكن ليكن هذا التطور متلازمًا مع تطور المهنية في بيئة العمل التي قد تكون في المستقبل مجرد مكتب صغير تدار من خلاله شبكة من المراسلين والمصورين المحترفين الذين يعيشون الهموم الصحافية نفسها ولكن بصورة رقمية.