البنى التحتية للثقافة بين التحديث والهدم

اشتُقّ للثقافة بمفهومها الواسع مصطلحٌ يلائم الفضاء المادي الذي تعتمل فيه ليطلق على جملة المباني التي تُنشأ لممارسة لون أو ألوان عدة من الأنشطة داخل ذلك الفضاء، ذلك الاشتقاق ولد من رحم مصطلح أم هو البنية التحتية، الذي ارتبط بظهور مجموعة من الخدمات والمرافق التي تخدم الاقتصاد الذي شهد مع بداية القرن العشرين تطورًا  هائلاً، معتمدًا بصورة رئيسة على سرعة وسائل المواصلات وتنوّعها، وتوافر خدمات حيوية مثل الكهرباء والماء، ومرافق ضرورية كالموانئ والبنوك والطرق، وجميعها متشابك ومسخّر ليعمل بكفاءة توازي حجم النشاط الاقتصادي مع الداخل والخارج.

بقدر الاشتقاقات التي أخذت من المصطلح الأم «البنية التحتية»، وتم توزيعها على قطاعات أخرى مثل القطاع الرياضي، بقي خيط سميكٌ يربطها جميعًا في حزمــــة واحــــدة، وهــــو حاجتها إلى العناية الدائمة، سواء للبناء المــــادي أو التحديث للمحتوى الذي يواكب آخر المستجدات في كل قطاع، وهي الشروط نفســـها التي تنطبق على البنية التحية الشاملة للدولة، فمن دونها يصبح عمل القطاعات الأخرى مستحيلاً.
في المجتمعات التي تسود فيها ثقافة النقد الذاتي ومراجعة سياساتها المتبعة، سواء من خلال المراجعات الدورية المقررة ضمن هياكل الدولة ومؤسساتها، أو بعد وقوع أحداث معيّنة تفرض وجود مثل هذه المراجعات التي تبحث عن تفسيرات مقنعة لما حصل ويحصل، بغية تجنّب تكرارها مرة أخرى، تعتبر تلك الثقافة في هذه المجتمعات المنفتحــــة نشاطًا عامًّا يسهم فيه العمل الأكاديمي والبحث العلمي ووسائل الإعلام ومــــؤسسات المجتمع المدني، وهي جميعها جهود تثري النشاط وتمنح دوائر صنع القرارات فرصًا كثيرة لاتخاذ القرار الأصوب.
ضمن هذا الإطار؛ أي المراجعة الــدورية، تبرز أهمية تقييم الأدوار التي تلعبهــــا البنــــية التحتية للثقافة في إحداث التغيـــيرات الإيجابيــــة في المجتـــــمع، لأن غياب عملية النقد والمراجعة  يفسّر في كثير من الأحيان حالة التكرار والجمود التي تصــــيب بعض أجزاء تلك البنية التحتيــــة، مثل المسرح التي أجده معبّرًا للصمود في وجه كثيــــر من المنافسين من الفنون الأخرى منذ أن ظهر وحتى اليوم، قد تكون المشكلة في قلّة المسارح، وقد تكون في ضعف النصوص وتقنيات الإبهار، ولكن ربما تكشف لنا المراجعات النقدية أن رسالة المسرح ووجوده هي التي تواجه مخاطر تقنيات العالم الرقمي وظاهرة البــــث التدفقي التي قد تجعل فكرة مغادرة المنزل مستقبلاً لمشاهدة مسرحية ما شيئًا من الماضي!

لمن تعود ملكيتها؟ ما وظيفتها؟
إن مسؤولية إنشاء البنية التحتية للثقافة، محطة مهمة في هذا الموضوع، لأن حق امتلاك هذه الصلاحية يوضح كثيرًا من الأمور، ومن أهمها «طبيعة النظام السياسي الاقتصادي للدولة» الذي تعمل فيه، ففي الدول الرأسمالية لا تتحمل الدولة عادة مسؤولية توفير جميع الخدمات والمرافق، وهي تكتفي بمراقبة مستوى جودة الخدمات التي تركتها لشركات القطاع الخاص وجباية أموال الضرائب لتمويل خزينة الدولة، فمثلًا في الولايات المتحدة الأمريكية لا تبني الدولة المسارح، وأشهرها في شارع برودواي مملوك لشركات، هذا الوضع لا يعني أنه لا توجد مدارس وجامعات ومستشفيات حكومية في أمريكا، لكن يبقى دور القطاع الخاص هو الأبرز.
في المقابل، تقوم الدولة في الأنظمة الاشتراكية بكل شيء تقريبًا حتى وقت قريب، وقد أدخلت بعض تلك الدول، مثل الصين وفيتنام، كثيرًا من التغييرات على هياكلها الداخلية التي غيّرت نظامها الاقتصادي نحو الانفتاح على الأسواق العالمية، مع بقاء النظام السياسي على حاله.  
إذًا، مادامت حرية المساهمة في إنشاء البنية التحتية للثقافة متاحة للأفراد والمؤسسات كما هي للدولة في أي مجتمع، فذلك يعني وجود حالة من المنافسة الإيجابية والتنوع في الخيارات المتاحة للجمهور الذي سيجد ما يناسب ذائقته ويلبّي حاجاته، كما يعني حالة من المراوحة الجميلة بين ملكية رسمية لا تعمل تحت وطأة حسابات الربح والخسارة، وملكية خاصة ستعمل جاهدة لتقديم أفضل ما لديها لجذب الجمهور، الملكية الأولى تعمل وفق مستويات لا تستطيع التنازل عنها، والملكية الثانية تسعى للتحليق في سماء لم يصل إليها أحد قبلها.
وعن وظيفـــة البنيـــة التحتيـــــة للثقافــــــة، يسود اعتقاد خاطئ أنها تصنع المبدع، والصحيح أنها وُجدت لكي تصنع الفضاء الرحب الذي ينمو فيه المبدع، فمثلاً قد يكون صعبًا على رسام موهوب توفير مستلزمات الرسم، وهنا يأتي دور الدولة أو الجهة التي تملك المرسم لتوفير شيء من احتياجات ذلك الفنان، وهنا ينتهي دورها ليبدأ دور المبدع الذي وجد فرصته في مجتمع صحي احتضن موهبته في بداياتها.
 
قرية صغيرة متنافرة 
تواجه البنية التحتية للثقافة تحديات متنوعة، تتمحور حول فاعلية أدوارها في مواجهة المتغيرات الفكرية التي تجتاح العالم، وضرورة مواكبتها واستيعابها أو مواجهتها كخطر داهم يهدد منظومة القيم السائدة في المجتمع، تلك المتغيرات جعلت كثيرًا من الأطراف المؤثرة في المجتمع، كوسائل الإعلام التقليدية والجامعات والأحزاب السياسية وغيرها، تقف عاجزة عن فهمها وسرعة انتشارها، مثل تسارُع وتيرة الرقمنة لكل شيء، وتقارُب أجزاء العالم بصورة غير مسبوقة، والمفارقة العجيبة أنه في الوقت الذي يزداد فيه تحقُّق مقولة أن «العالم قرية صغيرة»، يزداد التنافر بين سكان هذه القرية، وتنتشر بينهم خطابات العنصرية بكل أشكالها! 
هذا الوضع المشوش تبرز فيه بعض السمات، مثل تعالي صيحات هدم كل ما هو قائم من مؤسسات ثقافية بحجة العصرنة، ولأنها تمثّل الماضي، وما يغذي تلك الأفكار هو ضعف الإقبال على الأنشطة الثقافية من جيل الشباب تحديدًا، وانتشار الصور التي تعزز تلك النظرة في وسائل التواصل الاجتماعي.
السمة الثانية هي إدمان النقد بصورة تخلو من توفير البدائل، والهجوم على كل مبادرة، والنقد المتواصل هنا ليس مصدره الرغبة في الإصلاح، بقدر ما هو انعكاس لحالة مشبعة من الشك والإحباط الشديد.
السمة الثالثة - وهي في غاية الغرابة - الفجوة بين الأجيال وداخل الجيل نفسه، ليس بسبب التطور التكنولوجي فقط، ولكن بطريقة النظرة للحياة والمستقبل. فهل تُترك اللغة العربية، لأن العرب ليسوا أمة متقدمة في العلوم؟ لنتعلم لغات أهل العلم، ولننهل من معارف الدنيا، ولكن لماذا نخسر لغتنا الأم التي هي جزء مهم من هويتنا؟
السمة الرابعة هي تنامي المشاعر السلبية تجاه الثقافات الأخرى، وأخيرًا انحسار الإقبال على وسائط التلقي التقليدية للمعارف لمصلحة شاشات الهواتف الذكية.

هل هي أغراض استعراضية موسمية؟
لقد كانت البنى التحتية بكل أشكالها ومازالت وستبقى تواجه تحديًّا ثابتًا هو العناية الدائمة، لأن تهالكها مدمر مثل السكك الحديد والقطارات، كما أن التحديث الذي أتى مكملًا لمهمة أعمال الصيانة دخل في مستويات جديدة ومصطلحات تواكب المستقبل، مثل المدن والمباني الذكية، مما يعني أن كل ما هو موجود سيعتبر قديمًا وباليًا ما لم يتم إخضاعه للشروط والمواصفات الجديدة.
هنا تجدر الإشارة إلى أن البنية التحتية للثقافة مفيدة للاقتصاد وليست هدراً للأموال العامة كما يعتقد البعض، لأن بعض مكوناتها مثل المسارح والمتاحف والمهرجـــانات مـــــدرة للأربـــــاح طوال العام، والأموال المدفوعة فيها للتأسيس والرعاية تعتبر استثماراً طويل الأمد.
وعودة إلى أهمية المراجعة الدورية لتقييم الأدوار التي تلعبها البنية التحتية للثقافة في إحداث التغييرات الإيجابية في المجتمع ووصولاً إلى الهدف النهائي من وجودها، من الضروري مناقشة عدالة الانتشار الجغرافي لبعض المنشآت على مستوى التراب الوطني وقياس مستوى الإقبال عليها، وكذلك علينا أن نبحث عن مكانة البنية التحتية للثقافة في خطط التنمية الشاملة ودورها في تعزيز الهوية الوطنية وتغذية قيم التسامح والانفتاح على الآخر، وهل هي مجرد ديكور يستخدم لخدمة أغراض استعراضية موسمية؟ وربما حاضنة لكثير من السلبيات التي تسير بعكس اتجاه الأهداف التي أنشئت لأجلها تلك البنى التحتية >