أقواسُ القَدم عبقرية التشريح وروعة الهندسة!

لا شك في أنك قد رأيت قنطرةً ما؛ أو مشيت فوق أحد الجسور المُقوسة المصنوعة من الحجارة. فتلك الجسور التي تأخذ شكلاً هندسياً مقوساً كانت ولازالت موجودة في كل مكان؛ بل وربما تشكّل جزءاً حيوياً من حياتنا اليومية. 
ولكن هل فكرت يوماً أثناء سيرك على أحد تلك الجسور؛ في إمكانية وجود أوجه تشابه هندسية بين قدميك وهذا الجسر الذي تطأه؟! هل تعلم شيئاً عن وجود تلك الجسور أو الأقواس في باطن قدميك؟!
ما هي تلك الأقواس؟ كم عددها؟ وما فائدتها؟ وأين موقعها من القدم؟ وكيف تقوم بمهمة حيوية جداً في عمليات المشي والجري والوقوف؟ 

 

عبقرية‭ ‬القوس‭ ‬

تتمفصل‭ ‬عظام‭ ‬القدم‭ ‬مكوّنةً‭ ‬ثلاثة‭ ‬أقواس‭. ‬يمتد‭ ‬اثنان‭ ‬منها‭ ‬بطول‭ ‬باطن‭ ‬القدم‭ ‬على‭ ‬الجانبين‭ (‬الأقواس‭ ‬الطولانية‭: ‬الأنسية‭ ‬والوحشية‭)‬،‭ ‬فيما‭ ‬يمتد‭ ‬الثالث‭ ‬بعرض‭ ‬باطن‭ ‬القدم‭ (‬القوس‭ ‬المستعرضة‭). ‬

وبسبب‭ ‬هذه‭ ‬الأقواس؛‭ ‬يُظهر‭ ‬أثر‭ ‬انطباع‭ ‬قدم‭ ‬رطبة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭: ‬الكعب‭ ‬والحافة‭ ‬الوحشية‭ ‬للقدم‭ ‬والوسادات‭ ‬تحت‭ ‬رؤوس‭ ‬الأمشاط‭ ‬ووسادات‭ ‬السُّلاَمَيات‭ ‬القاصية؛‭ ‬لأنها‭ ‬فقط‭ ‬الأجزاء‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬تماسٍ‭ ‬مع‭ ‬الأرض‭. ‬بينما‭ ‬لا‭ ‬يلامس‭ ‬بطن‭ ‬القدم‭ ‬سطح‭ ‬الأرض‭ ‬أثناء‭ ‬الوقوف،‭ ‬حيث‭ ‬يقع‭ ‬وزن‭ ‬الجسم‭ ‬كاملاً‭ ‬على‭ ‬القدم‭. ‬

آليات‭ ‬دعم‭ ‬الجسور‭ ‬المقوسة‭ ‬

يقوم‭ ‬المهندسون‭ ‬بتصميم‭ ‬الجسور‭ ‬المُقوّسة،‭ ‬مستخدمين‭ ‬القواعد‭ ‬الهندسية‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬تدعم‭ ‬تصميم‭ ‬أقواس‭ ‬القدم‭. ‬لشرح‭ ‬تلك‭ ‬القواعد؛‭ ‬دعونا‭ ‬نتصور‭ ‬أننا‭ ‬مهندسون‭ ‬نعمل‭ ‬في‭ ‬‮«‬نموذج‭ ‬محاكاة‭ ‬الجسور‭ ‬داخل‭ ‬القدم‭ ‬البشرية‮»‬‭!‬

والآن‭ ‬دعونا‭ ‬نحمّل‭ ‬تلك‭ ‬الأقواس‭ ‬الثلاثة‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬أقدامنا‭ ‬مهمة‭ ‬كبيرة‭ ‬جداً‭... ‬سنُحمّلها‭ ‬مهمة‭ ‬توزيع‭ ‬وزن‭ ‬الجسم‭ ‬كاملاً‭ ‬على‭ ‬المساحة‭ ‬الصغيرة‭ ‬للقدم؛‭ ‬وعليها‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬ثباتها‭ ‬ومرونتها‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الوقوف‭ ‬والسير‭ ‬والوثب‭ ‬والركض؛‭ ‬على‭ ‬الأسطح‭ ‬المستوية‭ ‬وغير‭ ‬المستوية،‭ ‬فكيف‭ ‬يمكننا‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬أقواس‭ ‬القدم‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬وزن‭ ‬الجسم‭ ‬بأكمله‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الظروف؟‭!‬

 

النحت‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬أسافين

علينا‭ ‬أولاً‭ ‬أن‭ ‬نقوم‭ ‬بنحت‭ ‬العظام‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬أسافين‭ (‬أوتاد‭). ‬سنكتشف‭ ‬أن‭ ‬أقواس‭ ‬القدم‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬عظام‭ ‬إسفينية‭ ‬تتمفصل‭ ‬في‭ ‬الأمام‭ ‬مع‭ ‬العظام‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية‭ ‬والثالثة‭ ‬لمشط‭ ‬القدم،‭ ‬بينما‭ ‬تتمفصل‭ ‬في‭ ‬الخلف‭ ‬مع‭ ‬العظم‭ ‬الزورقي،‭ ‬وفي‭ ‬الإنسي‭ ‬مع‭ ‬العظم‭ ‬النردي‭.‬

بعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬نحت‭ ‬العظام؛‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقوم‭ ‬برصِها‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬بعضها‭ ‬وترتيبها‭ ‬متداخلة‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬منحنى‭ ‬القوس،‭ ‬بحيث‭ ‬تتجه‭ ‬الحافة‭ ‬المدببة‭ ‬للإسفين‭ ‬إلى‭ ‬أسفل‭. ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صفّ‭ ‬العظام‭ ‬وتثبيتها‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى؛‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يتوسط‭ ‬كل‭ ‬قوس‭ ‬العظمة‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬حجر‭ ‬المُرتكز‭ ‬Keystone‭ ‬الذي‭ ‬يشغل‭ ‬مركز‭ ‬القوس‭ ‬المصمم‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬نصف‭ ‬دائرة‭.‬

وتلعب‭ ‬عظام‭ ‬القدم‭ ‬هنا‭ ‬دور‭ ‬الأحجار‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬تاريخياً‭ ‬بمادة‭ ‬القنطرة،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬سُمِّيت‭ ‬أحياناً‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الحجرية‮»‬‭ ‬عوضاً‭ ‬عن‭ ‬القنطرة‭. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬من‭ ‬الأحجار‭ ‬الإسفينية‭ ‬المتراصة‭ ‬دون‭ ‬استخدام‭ ‬الملاط‭ ‬أو‭ ‬المونة‭ ‬الرابطة‭ ‬بُنيت‭ ‬جميع‭ ‬الجسور‭ ‬الرومانية‭ ‬القديمة‭. ‬ومنها‭ ‬جسر‭ ‬‮«‬عين‭ ‬ديوار‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يبعد‭ ‬12 كم‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬المالكية‭ ‬السورية‭. ‬ويتألف‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬قناطر‭ ‬من‭ ‬الحجر‭ ‬المنحوت‭ ‬لم‭ ‬يتبقَ‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬واحدة،‭ ‬يبلغ‭ ‬ارتفاعها‭ ‬15‭ ‬متراً‭.‬

 

ربط‭ ‬الحواف‭ ‬السفلية‭ ‬ببعضها

بعد‭ ‬أن‭ ‬قمنا‭ ‬بنحت‭ ‬العظام؛‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقوم‭ ‬بربط‭ ‬حوافها‭ ‬السفلية‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭. ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬يقوم‭ ‬مهندسو‭ ‬الجسور‭ ‬باستخدام‭ ‬رَزّات‭ ‬Staples‭ ‬أو‭ ‬مشابك‭ ‬معدنية‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬الحجارة‭ ‬جنباً‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬بفعالية‭. ‬فهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬تقوي‭ ‬الجسر‭ ‬وتمنع‭ ‬ميل‭ ‬الحواف‭ ‬السفلية‭ ‬للحجارة‭ ‬إلى‭ ‬الانفصال؛‭ ‬وتكبح‭ ‬انهيارها‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬الجسر‭ ‬محملاً‭ ‬بثقل‭. ‬وتجعل‭ ‬القوس‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬امتصاص‭ ‬الصدمات‭.‬

عوضاً‭ ‬عن‭ ‬الرَزّات‭ ‬والمشابك‭ ‬المعدنية؛‭ ‬علينا‭ ‬استعمال‭ ‬حزمة‭ ‬من‭ ‬اللفافات‭ ‬السميكة‭ ‬المرنة‭ ‬لربط‭ ‬العظام‭ ‬ببعضها‭ ‬البعض‭. ‬وهنا‭ ‬نعثر‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬التشابه‭ ‬المعماري‭ ‬بين‭ ‬التركيب‭ ‬التشريحي‭ ‬لأقواس‭ ‬القدم‭ ‬وهندسة‭ ‬الجسور‭ ‬المقوسة؛‭ ‬فالأربطة‭ ‬هنا‭ ‬تقوم‭ ‬بوظيفة‭ ‬المشبك‭ ‬المعدني؛‭ ‬حيث‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تثبيت‭ ‬الأقواس‭ ‬وتمتص‭ ‬الصدمات،‭ ‬مما‭ ‬يشكل‭ ‬حمايةً‭ ‬للساق‭ ‬والعمود‭ ‬الفقري‭ ‬خاصةً‭ ‬أثناء‭ ‬السير‭ ‬فوق‭ ‬الأسطح‭ ‬غير‭ ‬المنتظمة‭ ‬وأثناء‭ ‬القفز؛‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬توفر‭ ‬الرَزّات‭ ‬والمشابك‭ ‬المعدنية‭ ‬الثبات‭ ‬والمرونة‭ ‬للجسر‭.‬

محاكاة‭ ‬نموذج‭ ‬الجسور‭ ‬العارضية‭ ‬

‭(‬Beam‭ ‬bridge‭)‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬امتداد‭ ‬الجسر‭ ‬كبيراً‭ ‬والدعامات‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬نهايتيه‭ ‬غير‭ ‬مستقرة؛‭ ‬يتعين‭ ‬وضع‭ ‬عارضة‭ ‬ربط‭ (‬beam‭ ‬Tie‭) ‬تصل‭ ‬بين‭ ‬نهايتيه‭ ‬ستمنع‭ ‬تباعد‭ ‬هاتين‭ ‬الدعامتين‭ ‬وتثبتهما،‭ ‬مما‭ ‬يمنع‭ ‬سقوط‭ ‬القوس‭. ‬ويُعرف‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الجسور‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الجسور‭ ‬العارضية‮»‬‭. ‬

علينا‭ ‬أن‭ ‬نضيف‭ ‬إلى‭ ‬أقواس‭ ‬القدم‭ ‬‮«‬عارضة‭ ‬ربط‮»‬‭ ‬إذن؛‭ ‬أين‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نضعها؟‭ ‬ليس‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نفكر‭ ‬طويلاً،‭ ‬فقد‭ ‬راعت‭ ‬الهندسة‭ ‬الإلهية‭ ‬حاجة‭ ‬القدم‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬الاستقرار‭ ‬والثبات‭ ‬أثناء‭ ‬الحركة؛‭ ‬فأضافت‭ ‬إليها‭ ‬‮«‬عارضة‭ ‬ربط‮»‬‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬وتر‭ ‬العضلة‭ ‬المثنية‭ ‬الطويلة‭ ‬للإبهام‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬بعمل‭ ‬عارضة‭ ‬أفقية‭ ‬مدعومة‭ ‬بركائز‭ ‬شاقولية‭ ‬في‭ ‬نهايتيها‭. ‬

 

محاكاة‭ ‬نموذج‭ ‬الجسور‭ ‬المُعلّقة

Bridge‭ ‬Suspension

كما‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬الاسم‭ ‬هي‭ ‬جسور‭ ‬تُعلّق‭ ‬بكوابل‭ ‬Cables  ‬طويلة‭ ‬متصلة‭ ‬بأبراج‭ ‬كبيرة؛‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭  ‬تبدو‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬حرف‭ ‬A‭ ‬كبير‭. ‬تقوم‭ ‬تلك‭ ‬الكوابل‭ ‬بنقل‭ ‬حمل‭ ‬الشد‭ ‬عليها‭ ‬إلى‭ ‬الأبراج‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بدورها‭ ‬بنقل‭ ‬الحِمل‭ ‬إلى‭ ‬سطح‭ ‬الأرض‭. ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬أمثلة‭ ‬الجسور‭ ‬المعلقة‭: ‬جسر‭ ‬البوابة‭ ‬الذهبية‭ ‬بكاليفورنيا،‭ ‬وجسر‭ ‬بروكلين‭ ‬بنيويورك‭.‬

يتميز‭ ‬هذا‭ ‬التصميم‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬التمدد‭ ‬ومقاومة‭ ‬قوى‭ ‬الانحناء‭ ‬والفتل‭ ‬التي‭ ‬يتعرض‭ ‬لها‭ ‬الجسر‭ ‬باستمرار‭. ‬ولكي‭ ‬يتوزع‭ ‬وزن‭ ‬الجسم‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬امتداد‭ ‬قوس‭ ‬القدم‭ ‬وليس‭ ‬مركزه‭ ‬فقط؛‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقوم‭ ‬بتعليق‭ ‬أقواس‭ ‬القدم‭ ‬من‭ ‬الأعلى؛‭ ‬تقوم‭ ‬بهذه‭ ‬المهمة‭ ‬بالفعل‭ ‬العضلة‭ ‬الشظوية‭ ‬الطويلة‭. ‬

وهكذا‭ ‬تقدم‭ ‬‮«‬أقواس‭ ‬القدم‮»‬‭ ‬مثالاً‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬التشريح‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬‮«‬القوس‮»‬‭ ‬في‭ ‬التحمل‭ ‬وتوفير‭ ‬الثبات‭ ‬للبنية‭ ‬الجسدية؛‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬قدمت‭ ‬القناطر‭ ‬مثالاً‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬الهندسة‭ ‬المعمارية‭ ‬في‭ ‬تحمل‭ ‬الأوزان‭ ‬وتوفير‭ ‬الثبات‭ ‬للمنشأة‭ ‬الهندسية،‭ ‬فالأقواس‭ ‬في‭ ‬المثالين؛‭ ‬تقاوم‭ ‬الضغوط‭ ‬وتتحمل‭ ‬الأوزان‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬والسكون‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يُفسر‭ ‬تكييف‭ ‬أقدامنا‭ ‬مع‭ ‬الأسطح‭ ‬غير‭ ‬المنتظمة‭ ‬وثباتها‭ ‬فوق‭ ‬الأسطح‭ ‬المنحدرة‭. ‬واستمرارية‭ ‬استخدام‭ ‬الجسور‭ ‬المُقوسة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬الشاحنات‭ ‬الثقيلة‭ ‬تمر‭ ‬عليها‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬2000‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬إنشائها‭! ‬■