المحاصيل الزراعية المُعدَّلة وراثياً

للمرة الأولى عبر آلاف السنين الماضية، أصبح الإنسان والحيوان يتناولان أطعمة وأغذية غير طبيعية. وقد غيَّر الإنسان في الفترة الأخيرة التركيب الأساسي للكائنات الحية، وخصوصاً تلك التي تُستخدَم كغذاء بشري وحيواني. وبتعبير علمي، قام الإنسان بتغيير التركيب الجيني للنباتات ومصادر الأغذية المختلفة عن طريق استخدام تقنيات الهندسة الوراثية أو الهندسة الجينية  Genetic Engineering. 

تعّرف الجينات أو المورثات Gene بأنها الوحدات الوراثية التي تحدّد الخصائص التي يرثها أي كائن حي. كذلك توجد محاولات لتعديل الجينات البشرية ونقل أعضاء معدَّلة أو محوَّرة جينياً في الحيوان، كي يتم استعمالها كقطع غيار بديلة لأعضاء الإنسان التالفة، وهي تغييرات لم تشهد الطبيعة لها مثيلاً منذ نشأتها الأولى وخلال تطورها. 
وللهندسة الوراثية أبعاد إيجابية عديدة. فعلى سبيل المثال، يستخدَم الحمض النووي في مجالات عدة، منها الطب والقضايا الجنائية والإسهام في تحرير وإطلاق سراح أشخاص كانوا متَّهمين بجرائم لم يرتكبوها وفي حل مشكلات تخص الأبوَّة والأنساب في المحاكم. وأيضاً في مجال تنقية قنوات تصريف الزيوت والمياه لإبطال تأثير الملوّثات الخطرة. كما تم تطوير بكتيريا معدَّلة وراثياً من أجل استخدامها لتحويل النفايات والفضلات، بهدف إنتاج الوقود الحيوي.  
لكن استخدام الهندسة الوراثية في الزراعة مازال موضع جدل. فقد طرأت في العقود الأخيرة تغيّرات كثيرة على الزراعة، وطرأ تغيير كبير في نوع وشكل المحصول من خلال الهندسة الجينية. فقد طوّر العلماء، ومازالوا يطورون، أساليب جديدة لتعديل جينات النبات من أجل الحصول على مكاسب مثل القضاء على الآفات الزراعية المُتْلفَة للمزروعات أو لتحسين نوعية المنتوج الزراعي من حيث النوعية والكمية. وأصبحوا قادرين على استئصال جينات من كائنات لا علاقة لها بالنبات كالفيروسات والبكتيريا والسمك، ثم يدمجونها مع جينات النبات. لقد كان تصورنا لعلم الوراثة تصوراً تقليدياً يفترض قيام الجينات بتحديد الصفات الوراثية، وأنَّ كل جين مسؤول عن إبراز صفة وراثية واحدة، ثم جاء عصر الهندسة الوراثية فأعطى تصوراً جديداً لعلم الوراثة، حيث يرى القائمون على علم الوراثة أنه لا يمكن للجين أن يعمل بشكل منفرد، فهو يعمل ضمن شبكة معقدة من الجينات وتعتمد وظيفة كل جين على عمل طاقم الجينات الأخرى في المادة الوراثية الكلِّية Genome. لذلك يمكن أخذ جين مرغوب الصفات زراعياً من كائن أصلي لتهجين جينات كائن آخر، فتنتقل الصفة من الكائن الأصلي إلى الكائن الآخر الذي نُقل إليه الجين.

ظهور التكنولوجيا الحيوية Biotechnology 
ظهرت تطبيقات التكنولوجيا الحيوية في مجال الزراعة في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. وكان أهم ما ظهر، هو اكتشاف بكتيريا قادرة على إدخال جينات من فصائل حية مختلفة إلى النباتات. وكمثال على أهمية ذلك نذكر ما حدث مع بكتيريا كانت تنقل جرثومة تسبب مرضاً سرطانياً للنبات من خلال دخولها في جرح أو شق على النبات. ولما استبدل العلماء بالجينات المسؤولة عن المرض في الجرثومة جينات تُنتج ميزات مرغوباً بها عند النبات (كخاصية ضخامة الثمار أو تحمل الصقيع)، تَحَوَّلَ عمل البكتيريا إلى توصيل هذه الميزات إلى النباتات بدلاً من توصيل المرض. ثم تلا ذلك تطوير لطُرُق جديدة لحَقْن الجينات في النبات بدلاً من إرسالها بوساطة جرثومة، وذلك عن طريق وضع بعض المواد الكيماوية على غشاء النبتة، بحيث تسمح بمرور الجينات المطلوبة إلى الداخل.
وكان أول ظهور لمحصولٍ  مُعَدَّل وراثيّاً في الولايات المتحدة الأمريكية هو الطماطم في عام 1994، والهيئة التي عدّلته وراثيا هي
 (Food And Drug Administration (FdA. وتبعتها في السنة نفسها شركة Asgrow Seed Company، التي طورت بذوراً مقاومة للأمراض. والدفعة القوية التي تَلقّتها التكنولوجيا الحيوية في مجال الزراعة كانت أواخر عام 1996 عندما قامت شركة Monsanto بتسويق نوع جديد من فول الصويا أجريت عليه تعديلات وراثية جعلته يقاوم تأثير مبيدات الأعشاب السامّة التي كانت تنتجها الشركة نفسها. وبحلول عام 2000, أصبح هناك أكثر من 14 مليون هكتار (الهكتار يساوي عشرة آلاف متر مربع) مزروع بهذا المحصول في الولايات المتحدة. ولم يمض كثير من الوقت حتى طال التعديل الوراثي محاصيل أخرى، كمحصول الذرة. وأصبح 40 في المائة من مجمل محاصيل القطن في الولايات المتحدة مُعَدَّلة وراثياً كي تحارب دودة القطن. ويذكر أنَّ نصف المبيدات الحشرية في العالم كانت تُستعمل, قبل التعديل الوراثي, على القطن. وبحلول عام 2000 كان هناك أكثر من أربعين محصولاً مُعَدَّلاً وراثيّا صادقت عليه الفدرالية في الولايات المتحدة لتسويقه. 

المؤيدون والمعارضون للهندسة الوراثية
انقسم الأفراد والمنظمات والدول بين مؤيد ومعارض للهندسة الوراثية، فيرى المؤيدون أنها سَتُقدّم غذاء أفضل ونباتاً قادراً على مقاومة الحشرات والآفات وقادراً على النمو في بيئات متنوعة. ويرى المعارضون أنَّ تلك المحاصيل تشكل خطراً على الإنسان وصحته وعلى البيئة. ومع حلول أواخر تسعينيات القرن العشرين تزايدت المخاوف من تلك المحاصيل، وأصبح واضحاً أنَّ الخلافَ لن ينتهي بسهولة بين الطرفين. فما هي رؤية كل طرف من هذه الأطراف؟

آراء المؤيدين والمعارضين
يقول مناصرو الهندسة الوراثية إن الضغوط التي يواجهها العالم لتوفير طعام البشر تتطلّب حدوث ثورة زراعية، وسيكون البديل برأيهم إجراء تعديلات وراثية على النباتات لإنتاج أنواع جديدة مكافحة للحشرات تستطيع أنْ تتحمّل الجفاف أكثر وتتميز بجودة غذائية أفضل. وتضيف منظمة الأغذية والزراعة (Fao)  قائلة: «إنَّ التكنولوجيا الحيوية مجتمعة مع التقنيات الأخرى قادرة على تأمين حلول لبعض مشكلات الأمن الغذائي». فحالياً يعاني أكثر من 800 مليون إنسان في العالم قسوة الجوع, ومع استمرار ارتفاع عدد السكان في العالم (سيصل إلى 8 مليارات بحلول 2025)، ومع ازدياد وطأة مشكلة نقص المياه عموماً سيجد العالم نفسه أمام مشكلة صعبة جداً وعليه حلها، حتى لو كان عن طريق هندسة الجينات. ويقول العالم جيمس واطسون James Watson، وهو مكتشف بنية الحمض النووي DNA (الدنا) مع زميله فرنسيس كريك Francis Crik والحائز جائزة نوبل لعام 1962: «إذا كان باستطاعتنا الوصول لإنسان أفضل عن طريق معرفة الجين الصحيح وطريقة نقله، فلماذا لا نقوم بذلك؟». وعن الآثار المَرَضيّة المحتملة التي قد تُخَلِّفَها عملية التغيير أو التحوير في سلسلة الحمض النووي يقول: «لستُ على استعداد أنْ أنْفِقَ بنساً واحداً حتى لمعرفة أن مثل هذه الآثار المَرَضيّة موجودة أم لا». ويعلق البروفيسور المناهض لهندسة الجينات رون إبشتين Ron Epstein على ذلك قائلاً: «على حد قول واطسون فإنه يجب علينا المضي قدماً حتى نجابه تلك الأضرار والأمراض الخطيرة، وبأنه علينا المخاطرة حتى ولو كانت ستؤدي إلى كارثة. أي بما معناه، لن تَعرفَ أنَّ الغابة خَطرة حتى يهاجمك النمر ويأكلك. إذا كان واطسون يريد دخول الغابة ويضع نفسه أمام خطر افتراس النمر، فهذا من شأنه، لكن من أعطاه الحق ليجرَّنا جميعاً معه ويُعَرضَنا لهذا الخطر؟ 
وعبرت بعض الجماعات الأوربية خلال العامين 1997 و 1998 عن معارضتها لعمليات التعديل الوراثي للمحاصيل الزراعية. ثم اتسعت هذه الحركة المعارضة لتشمل الولايات التحدة وآسيا. وكانت أهم اعتراضاتهم تتركز حول إمكان تأثير المحاصيل المعدلة وراثياً سلباً على صحة الإنسان. ورأت إحدى الدراسات التي نُشرت في صحيفة New England Journal Of Medicine أنَّ فول الصويا المعدَّل وراثياً بوساطة إدخال جين من نبات الجَوز البرازيلي سوف يُحدث تفاعلات مؤذية لدى من لديهم حساسية لنبات الجوز البرازيلي. وتسببت الأغذية التي تم تحوير محتواها من مادة التريبتوفان Tryptophan (وهي عبارة عن حمض أميني ويعتبر مسكناً طبيعياً وعقاراً منوِّماً) عن طريق هندسة الجينات في موت ثلاثين شخصاً ممَّن تناولوا هذه الأغذية، وإصابة 1500 آخرين بعجز دائم يعزى إلى تلف أجهزتهم العصبية. وقادت تلك المخاوف الأوربيين للتوقف عن استيراد محاصيل معدلة وراثياً من الولايات المتحدة. وطالب بعض النشطاء في أواخر عام 1990 بإجراء عمليات تطهير للأراضي من المحاصيل المعدلة وراثياً. وفي عام 1998 هوجمت بريطانيا بسبب المحاصيل التي تُنتجها شركة Monsanto، وكان هذا الحدث هو الأول من بين أحداث كثيرة أخرى حصلت آنذاك. وفي عام 1999 تابع الاتحاد الأوربي رفضه لاستيراد الذرة المعدّلة وراثياً من الولايات المتحدة, مما أدى إلى خسارة أمريكا 200 مليون دولار. وانتقلت الاحتجاجات إلى الولايات المتحدة أيضاً وقاموا بتخريب الحقول المزروعة بالمحاصيل المعدّلة وراثياً.
ويظهر أنَّ الحكومات كانت تتواطأ مع الشركات الكبرى، إذ عارضت منظمة الغذاء والدواء Fda في الولايات المتحدة مسألة تصنيف المحاصيل الزراعية إلى معدلة وراثياً وتقليدية. وكان الإجراء الوحيد الذي اتخذته الحكومة هو السماح للشركات طوعاً بلصق رقعات على منتجاتها تُبَين إنْ كانَ المنتج  مُعَدَّلاً وراثياً أم لا. وفي حينها كانَ في الولايات المتحدة ثلاث جهات مسؤولة عن تسويق المنتجات المعدّلة وراثياً, وهي الإدارة الأمريكية للزراعة Usda ووكالة حماية البيئة Epa ومنظمة الغذاء والدواء Fda.

أرباح الشركات واستغلال المُزارع
انتشر استعمال البذور المعدّلة وراثياً بكثرة بين المُزارعين، مما جَعلهم يرتبطون اقتصادياً بالشركات المُنتجة لهذه البذور. والعديد من هذه الشركات لها براءات اختراع على أنواع عديدة من البذور والنباتات التي كانت في السابق موارد عامّة متاحة للجميع, وتبعاً لذلك لا يستطيع المُزارع الحصول على هذه البذور إلا بشرائها من تلك الشركات. أي إنَّ هذه الشركات ستلعب دور المُحْتَكر وستجعل المُزارع أسيراً للتكنولوجيا الحيوية. وأوضحُ دليلٍ على احتكار الشركات هو استعمالها للجين المسمى الجين الانتهائي Terminator Gene، ويتكون من ثلاثة جينات يتم إدخالها على المحاصيل المُراد تعديلها وراثياً فتَنتج عن هذه العملية إصابة بذور المحصول بالعقم بعد نُضجها, فلا فائدة سترجى من الاحتفاظ بها وزراعتها من جديد. وبذلك سيصبح المُزارع مضطراً لشراء البذور في كل سنة من الشركات الكبرى. في حين كان المُزارع في السابق يحتفظ بكمية بسيطة من البذور الناتجة عن محاصيله لأجل استنباتها في الموسم اللاحق.

نظرة عامة على المورثات في الخلية الحية
تعمل نواة الخلية كمستودع لمادة الوراثة التي تحدد صفات الكائن الحي. وفي كل خلية من مليارات الخلايا في جسم الكائن الحي توجد معلومات وراثية كاملة. لذلك، ومن حيث المبدأ، يمكن استنساخ أي كائن حي من خلية واحدة فقط. ويوجد الحمض النووي على شكل شريط خيطي ثنائي لولبي يسمى الكروموسوم وظيفته هي خزن المعلومات الوراثية. ويمكن تلخيص ذلك بالقول إنَّ الكروموسومات في الواقع عبارة عن تراكيب خيطية الشكل موجودة داخل النواة، وتحتوي على مادة الحمض النووي DNA الحاملة للجينات الوراثية المسؤولة عن نقل الصفات الوراثية خلال الأجيال. ويوجد في الكروموسوم الواحد أكثر من 100 مليون نيوكليوتيد Nucleotide، وهو الوحدة البنائية للدنا. 

كيف يتم تعديل الأغذية؟
هناك جزيء حمض نووي واحد لكل كروموسوم، وهذا الجزيء قد يضم أكثر من 4000 من المُوَرّثات (الجينات)، وتضم كل الكروموسومات معاً عشرات آلاف المُوَرّثات. فمثلاً تضم خلايا جسم الإنسان أكثر من 100 ألف نوع من المُوَرثات. ومعظم سلسلة الحمض النووي عبارة عن فراغات تقع ما بين الجينات نفسها. وتسمى هذه الفراغات بـ «المُباعِد Spacer». ويمكن استغلال هذه المواقع الفارغة لإدخال جينات جديدة تغير الصفات الوراثية للنوع الذي أدخلت عليه، وهذا هو الأساس الذي تستند إليه الهندسة الحيوية التي تُنتج لنا محاصيل مُعَدَّلة وراثياً. وقد توصل العلماء إلى أساليب يستطيعون بوساطتها التصرف بالجينات من حيث فصلها وتركيبها وإعادة بناء سلسلة الحمض النووي كما يشاؤون. فيتم قطع الجين الذي تم اختياره من أحد الكائنات وغرسه في سلسلة حمض نووي لكائن حي آخر. ومن الطرق المستخدمة نذكر:
استخدام أنواع معينـــــة مـــن الفــيروسات تـــسمى Retroviruses، تـــــعــــمـــل عـــــلى تحويل الحمض النووي Rna  (الرنا) إلى الحمض النووي Dna (الدنا). 
- استخدام الليبوسومات Liposomes، وهي عــــــبارة عن جـــــسيــــمـــات دهـــنـــــــية مفرغة
- استخدام  بكتيريا  من  التربة  تسمى Agrobacterium Tumefactions.
- استخدام خلايا نباتية تسمى البروتوبلاست Protoplasts.

التمييز بين الأغذية المعدَّلة وراثياً 
والأغذية الطبيعية 
في ظل غياب الإشارة إلى نوع الأغذية وهل هي محوَّرة (معدَّلة) وراثياً أم لا? لن يمكن معرفة ذلك من دون إجراء الفحوص والتحاليل المختبرية اللازمة عليها في مختبرات الهندسة الوراثية. والطريقة المتوافرة في الوقت الحاضر للكشف عن الجين المغروس في الكائن المستقبِل له هي طريقة التفاعل التسلسلي للبوليمريز Polymerase Chain Reaction. وهذه الطريقة حساسة جداً وتحتاج من الشخص القائم عليها إلى المعرفة العلمية والعملية التامة بالموضوع.  وبــــشكـــــل عام تــــكون الأغـذية والثمار المحوَّرة جينياً متناسقة الشكل وكبيرة الحجم وبراقة المنظر وخالية من التشوهات والعيوب المختلفة بالمقارنة مع الأغذية العادية الأخرى. وكقاعدة عامة فإن الأغذية والثمار الصغيرة وغير منتظمة الحجم والشكل والأقل لمعاناً وإشراقاً والتي تَنضج بسرعة وتَفسد بسرعة هي الطبيعية وغير المُعَدلة وراثياً. وهي متوازنة من حيث محتواها من العناصر الغذائية ومن الطاقة، وهي الأكثر سلامة وأماناً ليتناولها المستهلك حتى لو لم تكن براقة وجميلة المنظر >