النحلة المُمتنّة والطفلة زينب
في مساء يوم من أيام الربيع, وفي مدينة تطوان صاحبة الينابيع, لم تعد النحلة للخليّة كما عادت أخواتها النحلات من رحلتهن المعتادة, والكل قلق عليها. لقد كان يوم النحلة يومًا شاقّاً وعسيرًا, وأفلتت فيه من الموت بشقّ الأنفس, بعد أن سقطت بكوب شاي, لقد أغوتها حلاوة الشاي وخضرة النعناع الذي يزيّن الأكواب, فصارت مدمنة على ارتياد المدينة, بمقاهيها, ومخابزها المليئة بالحلويات الشهية, تأخذ من هنا وتمتصّ من هناك.
وفي صباح ذلك اليوم خرجت النحلة في رحلتها اليومية, بحثًا عن حلاوة اعتادت عليها بين أكواب الشاي والحلويات التي تمتلئ بها المدينة. في البدء حلّقت عاليًا لتختبر حركة الريح, ولتتأكّد من قوّتها, ولتقرّر إن كان عليها الذهاب في رحلة البحث عن الرحيق أم العودة إلى الخلية في انتظار أن يتحسّن الطقس. وبدون تردّد اختارت رحلتها إلى المدينة, وبينما هي تتجوّل من مكان إلى آخر, ومن نافذة إلى أخرى, استرعى انتباهها كوب شاي يتوسّطه نبات النعناع الذي يمنحه مذاقًا شهيّاً. اقتربت منه وكان البخار يرتفع منه, وكان الكوب موضوعًا بجانب نافذة منفتحة تطلّ على جبل بوعنان, في شقة بوسط المدينة. حلّقت النحلة في الغرفة, واقتربت من الكأس لتختلس الرحيق من الكوب, في حين اقتربت طفلة صغيرة منها, وراحت تراقبها, و فجأة سقطت النحلة بالكوب, فأسرعت الطفلة نحو أبيها المنشغل بالحديث مع أمّها:
فتركها والدها, وبالفعل أخرجتها زينب. في البدء لم يصدر من جسد النحلة أي حركة, ولكن ما إن لامست أشعة الشمس جناحيها الواهنين حتى بدأ جسدها في التململ بحثًا عن الدفء لاستعادة العافية والرغبة في التحليق, وشيئًا فشيئًا استعادت خفّة جناحيها, وحاولت التحليق, ففرحت زينب, وصاحت: ماما, بابا النحلة تتحرّك!
ابتسما في وجهها, واتّجهوا معًا إلى النحلة, ولكن الدهشة أصابتهم حين لم يجدوا لها أثرًا, فقد حلّقت بعيدًا!!
جاء صباح آخر, وكان يوم عطلة لم تغادر زينب فيه الفراش, استيقظت على طنين النحلة وهي تلتصق بزجاج النافذة, فأسرعت لفتح النافذة في وجه ضيفتها التي دخلت وأخذت تتجوّل في أرجاء الغرفة.
توالت الأيام هكذا بين النحلة وزينب التي لا تستيقظ إلا على طنين صديقتها النحلة, ولا تبدأ يومها إلا بعد أن تقدّم لها أشهى الحلويات.
ذات مساء, ارتفعت حرارة جسم الطفلة زينب فقامت أمها بحملها إلى السرير بعد أن تحسّست جبهتها, لقد كانت حرارتها غير عادية. استسلمت زينب للنوم, وراحت لِأرض الأحلام, وهناك بانت لها النحلة بجسد امرأة فستانها أبيض, كأنها عروس بجناحين ذهبيين, وقفت أمام سريرها, ثم انحنت وحملتها بين ذراعيها, ابتسمت في وجهها, وأعادتها إلى مكانها, وبينما هي منبهرة بالنحلة, امتلأت السماء بالنحل, وهي بلباس أبيض وأجنحة ذهبية مُرفرفة, وتصدر طنينًا كأنه موسيقا سمفونية. عادت النحلة وأخذت زينب بين يديها, وطارت بها, وتبعتها النحلات في موكب, وبعد ساعات كانت زينب بين يدَي النحلة الملكة التي رحّبت بها ترحيبًا حارًّا, وقدّمت لها علبة فيها عسل ملكي.
- خذي يا عزيزتي هذا الدواء عرفانًا مني لكِ لأنك أنقذت إحدى بناتي.
حين استفاقت زينب, من نومها, وحلمها, وجدت جدّتها بجانبها, ابتسمت الجدة في وجه حفيدتها, وعانقتها بحرارة وقالت لها: هل أحكي لك يابنتي حكاية?
ابتسمت زينب: لا ياجدّتي, أنا مَن سيحكي لك حكاية.
وهكذا انطلقت حكاية النحلة والطفلة زينب, من مكان إلى مكان, ومن لسان إلى لسان, بعد أن تلقّفها الرُّواة, وصارت دعوة للإنسان, للخير والرحمة و الإحسان, وبِأيّ مخلوق كان!