رحلة إلى «قبر الغريب» في أغمات

رحلة‭ ‬طافت‭ ‬بنا‭ ‬أحداثها‭ ‬فوق‭ ‬أمكنة‭ ‬تباعدت‭ ‬في‭ ‬مسافاتها‭ ‬وتنافرت‭ ‬في‭ ‬أحوالها‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الخصب‭ ‬والجدب،‭ ‬والرخاء‭ ‬والشدة،‭ ‬سار‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬من‭ ‬ذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬قبره‭ ‬في‭ ‬أغمات،‭ ‬وشاطرنا‭ ‬أهل‭ ‬إشبيلية‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الوداع‭ ‬الأخير‭ ‬ألمَ‭ ‬الفراق‭ ‬وتقلّبات‭ ‬الرفاق،‭ ‬ملك‭ ‬شاعر‭ ‬كان‭ ‬يأمر‭ ‬دهره‭ ‬فيمتثل،‭ ‬حتى‭ ‬ردّه‭ ‬دهره‭ ‬مَنهيًّا‭ ‬وَمأمورًا،‭ ‬مصيره‭ ‬صار‭ ‬عِبرة‭ ‬لمن‭ ‬لا‭ ‬يعتبر،‭ ‬ولأنه‭ ‬استوعب‭ ‬الدرس‭ ‬فقد‭ ‬حذّر‭ ‬من‭ ‬سيأتون‭ ‬بعده‭ ‬شعرًا‭ :‬

مَن‭ ‬باتَ‭ ‬بَعدَكَ‭ ‬في‭ ‬مُلكٍ‭ ‬يُسرُّ‭  ‬بِهِ

فَإِنَّما‭ ‬باتَ‭ ‬بِالأَحلامِ‭ ‬مَغرورا

رحلتنا‭ ‬كاللوحة،‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬رؤيتها‭ ‬دون‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬أجزائها،‭ ‬ومَن‭ ‬يكتفِ‭ ‬بجزء‭ ‬يكون‭ ‬كالذي‭ ‬سمع‭ ‬شطرًا‭ ‬من‭ ‬الحكاية‭ ‬وأهمل‭ ‬بقيتها،‭ ‬من‭ ‬إشبيلية‭ ‬جنوب‭ ‬الأندلس‭ ‬انطلقنا،‭ ‬وعلى‭ ‬مراكش‭ ‬مررنا،‭ ‬وفي‭ ‬قرية‭ ‬أغمات،‭ ‬وسط‭ ‬المغرب،‭ ‬انتهينا‭.‬

 

زمان‭ ‬الشقندي‭ ‬وزماننا‭ ‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬بالإمكان‭ ‬تنفيذ‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬دفعةً‭ ‬واحدة،‭ ‬ليس‭ ‬لصعوبة‭ ‬الأمر،‭ ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬أصبحت‭ ‬أمور‭ ‬السفر‭ ‬والتنقل‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬أكثر‭ ‬سهولة‭ ‬ومرونة‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬المسألة‭ ‬باختصار‭ ‬كانت‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالمدة‭ ‬الزمنية‭ ‬المتاحة‭ ‬والظروف‭ ‬المواتية‭ ‬لتنفيذ‭ ‬رحلة‭ ‬مكتملة‭ ‬بأبعادها‭ ‬المكانية‭.‬

جدول‭ ‬الرحلة‭ ‬تضمن‭ ‬ثلاث‭ ‬محطات‭ ‬رئيسة،‭ ‬أولاها‭ ‬في‭ ‬إسبانيا،‭ ‬وثانيتها‭ ‬والأخيرة‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬وهما‭ - ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ - ‬مراكش‭ ‬وأغمات،‭ ‬كانت‭ ‬إشبيلية‭ ‬محطتنا‭ ‬الأولى،‭ ‬وبعدها‭ ‬بأشهر‭ ‬قليلة‭ ‬توجّهنا‭ ‬إلى‭ ‬مراكش،‭ ‬ومنها‭ ‬توغلنا‭ ‬إلى‭ ‬بلدة‭ ‬أغمات‭.‬

ليس‭ ‬في‭ ‬إشبيلية‭ ‬اليوم‭ ‬آثار‭ ‬باقية‭ ‬مشهودة‭ ‬تخلّد‭ ‬سيرة‭ ‬بني‭ ‬العبّاد‭ ‬الذين‭ ‬حكموها‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬نهاية‭ ‬الخلافة‭ ‬الأموية،‭ ‬فملكهم‭ ‬لم‭ ‬يعّمر‭ ‬طويلًا،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يدُم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬عقود‭ ‬وبضع‭ ‬سنين،‭ ‬مثلهم‭ ‬مثل‭ ‬بقية‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف‭ ‬الذين‭ ‬تقاسموا‭ ‬مدن‭ ‬وبلدان‭ ‬وحصون‭ ‬الدولة‭ ‬المركزية‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬من‭ ‬قرطبة‭ ‬معظم‭ ‬أجزاء‭ ‬الدولة‭ ‬الأيبيرية‭.‬

إشبيلية‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬عاصمة‭ ‬للحكم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬واختيرت‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الوالي‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬بن‭ ‬موسى‭ ‬بن‭ ‬نصير،‭ ‬وأول‭ ‬جنود‭ ‬دخلوها‭ ‬من‭ ‬جنود‭ ‬الفتح‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬حمص،‭ ‬ولواؤهم‭ ‬في‭ ‬الميمنة‭ ‬بعد‭ ‬لواء‭ ‬جند‭ ‬دمشق،‭ ‬وبها‭ ‬استقروا‭.‬

وصفها‭ ‬الشقندي‭ ‬قائلًا‭: ‬من‭ ‬محاسنها‭ ‬اعتدال‭ ‬الهواء،‭ ‬وحُسن‭ ‬المباني،‭ ‬وتزيين‭ ‬الخارج‭ ‬والداخل،‭ ‬وتمكّن‭ ‬التمصر،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬العامة‭ ‬تقول‭: ‬الو‭ ‬طلب‭ ‬لبن‭ ‬الطير‭ ‬في‭ ‬إشبيلية‭ ‬وُجدب،‭ ‬وكلام‭ ‬الشقندي‭ ‬عن‭ ‬اعتدال‭ ‬الهواء‭ ‬صحيح‭ ‬وقت‭ ‬المساء‭ ‬فقط،‭ ‬وفي‭ ‬فصل‭ ‬الربيع‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬فصول‭ ‬السنة،‭ ‬لأن‭ ‬إشبيلية‭ ‬التي‭ ‬زرناها‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الصيف‭ ‬وتجولنا‭ ‬في‭ ‬شوارعها‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬حارّة‭ ‬جدًا‭ ‬وقت‭ ‬الظهيرة،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬زمان‭ ‬الشقندي،‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬دولة‭ ‬الموحدين،‭ ‬وتوفاه‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1232م،‭ ‬كان‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬التلوث‭ ‬وظاهرة‭ ‬الاحتباس‭ ‬الحراري‭ ‬وانبعاث‭ ‬الغازات‭ ‬الدفيئة‭. ‬

 

‮«‬بنسيون‮»‬‭ ‬عبّاد‭ ‬

لم‭ ‬ترشدنا‭ ‬أبحاثنا‭ ‬عن‭ ‬مَعْلَم‭ ‬لبني‭ ‬عبّاد‭ ‬مثل‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬في‭ ‬غرناطة،‭ ‬أو‭ ‬الجامع‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬قرطبة،‭ ‬كانت‭ ‬الخرائط‭ ‬والمرشدون‭ ‬يركّزون‭ ‬على‭ ‬برج‭ ‬االخيرالداب،‭ ‬أو‭ ‬المئذنة‭ ‬المهيبة‭ ‬التي‭ ‬بنيت‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الموحدين،‭ ‬وتحولت‭ ‬بعد‭ ‬سقوطهم‭ ‬إلى‭ ‬برج‭ ‬لأجراس‭ ‬كنيسة‭ ‬إشبيلية،‭ ‬وحتى‭ ‬القصور‭ ‬التي‭ ‬بنيت‭ ‬أيام‭ ‬المعتمد؛‭ ‬مثل‭ ‬قصر‭ ‬المورق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يبعد‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬االخيرالداب‭ ‬لم‭ ‬تبقَ‭ ‬على‭ ‬صورتها‭ ‬القديمة؛‭ ‬فمنها‭ ‬ما‭ ‬تهدّم‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬تبدلت‭ ‬معالمه‭ ‬بالكامل،‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬أجد‭ ‬له‭ ‬مبررات‭ ‬غير‭ ‬المدة‭ ‬الزمنية‭ ‬القصيرة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬نفقات‭ ‬العمران‭ ‬والحروب‭ ‬لا‭ ‬تتفق‭ ‬في‭ ‬دفتر‭ ‬واحد،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬لأحدهما‭ ‬أن‭ ‬يطغى‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬وفي‭ ‬حقبة‭ ‬طموحات‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف‭ ‬للتوسع‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ودفع‭ ‬الجزية‭ ‬للممالك‭ ‬المسيحية‭ ‬في‭ ‬الشمال،‭ ‬بات‭ ‬الصرف‭ ‬على‭ ‬الحرب‭ ‬ومجالس‭ ‬الشعراء‭ ‬واجتذاب‭ ‬العلماء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.‬

ومن‭ ‬سخريات‭ ‬القدر‭ ‬أن‭ ‬تقودنا‭ ‬المصادفات،‭ ‬ونحن‭ ‬نتجول‭ ‬داخل‭ ‬الشوارع‭ ‬المحيطة‭ ‬بـ‭ ‬االخيرالداب،‭ ‬نحو‭ ‬لوحة‭ ‬إرشادية‭ ‬لفندق‭ ‬صغير‭ ‬جدًا‭ (‬بنسيون‭) ‬حمل‭ ‬اسم‭ ‬عبّاد‭! ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يتبقّ‭ ‬لنا‭ ‬غير‭ ‬النهر‭ ‬لنسأله،‭ ‬وإليه‭ ‬توجهنا‭.‬

 

وحملتهم‭ ‬الجوارٍ‭ ‬المنشآت

كان‭ ‬نهر‭ ‬الوادي‭ ‬الكبير‭ ‬هو‭ ‬الراوي‭ ‬لحكايا‭ ‬من‭ ‬عاشوا‭ ‬على‭ ‬ضفتيه،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬أبطال‭ ‬مشهد‭ ‬رحيل‭ ‬الملك‭ ‬المخلوع‭ ‬وأسرته‭ ‬الذي‭ ‬رسمه‭ ‬لنا‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬قلائد‭ ‬العقيان‭ ‬ومحاسن‭ ‬الأعيان‭ ‬بيوم‭ ‬مهيب‭: ‬

اثم‭ ‬جمع‭ ‬هو‭ ‬وأهله،‭ ‬وحملتهم‭ ‬الجوارِ‭ ‬المنشآت،‭ ‬وضمتهم‭ ‬جوانحها‭ ‬كأنهم‭ ‬أموات،‭ ‬بعدما‭ ‬ضاق‭ ‬عنهم‭ ‬القصر،‭ ‬وراق‭ ‬منهم‭ ‬العصر،‭ ‬والناس‭ ‬قد‭ ‬حشروا‭ ‬بضفتي‭ ‬الوادي،‭ ‬وبكوا‭ ‬بدموع‭ ‬كالغوادي،‭ ‬فساروا‭ ‬والنوح‭ ‬يحدوهم،‭ ‬والبوح‭ ‬باللوعة‭ ‬لا‭ ‬يعدوهم‭...‬ب‭ ‬يا‭ ‬ترى‭ ‬لماذا‭ ‬ارتدَت‭ ‬إشبيلية‭ ‬السواد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم؟‭ ‬أهو‭ ‬الحزن‭ ‬على‭ ‬مليكها‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أرحم‭ ‬من‭ ‬والده‭ ‬المعتضد‭ ‬الطاغية،‭ ‬وأكثر‭ ‬جرأة‭ ‬في‭ ‬استدعاء‭ ‬المرابطين‭ ‬لمقاتلة‭ ‬ألفونسو‭ ‬السادس‭ ‬في‭ ‬موقعة‭ ‬االزلاقةب؟‭ ‬أم‭ ‬كان‭ ‬حزنًا‭ ‬على‭ ‬أيامهما‭ ‬القادمة‭ ‬مع‭ ‬حكامهم‭ ‬الملّثمين‭ ‬الذين‭ ‬أتوهم‭ ‬من‭ ‬بيئة‭ ‬مختلفة،‭ ‬ولهم‭ ‬طرائق‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬لم‭ ‬يألفوها‭ ‬من‭ ‬قبل؟‭! ‬

ولد‭ ‬المعتمد‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬منيف‭ ‬وعاش‭ ‬حياة‭ ‬رغيدة‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬للهمّ‭ ‬أو‭ ‬الكدر‭ ‬موطئ‭ ‬قدم،‭ ‬تولّى‭ ‬الحكم‭ ‬بعد‭ ‬أبيه‭ ‬وجدّه،‭ ‬وهو‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬حكام‭ ‬بني‭ ‬عبّاد،‭ ‬وكان‭ ‬وصول‭ ‬جده‭ ‬القاضي‭ ‬إسماعيل‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬واستقلاله‭ ‬بإشبيلية‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التحولات‭ ‬في‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬داخل‭ ‬الجزيرة‭ ‬الأيبيرية،‭ ‬ومع‭ ‬انفراط‭ ‬عقد‭ ‬الخلافة‭ ‬الأموية‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الأندلس،‭ ‬طمح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حاكم‭ ‬مستقل‭ - ‬ومن‭ ‬ضمنهم‭ ‬ابن‭ ‬عباد‭ - ‬إلى‭ ‬سد‭ ‬فراغ‭ ‬الخلافة‭ ‬بالقوة‭ ‬أو‭ ‬بالحيلة‭ ‬عندما‭ ‬نصّب‭ ‬شخصًا‭ ‬يشبه‭ ‬الخليفة‭ ‬الأموي‭ ‬هشام‭ ‬المؤيد‭ ‬لتولي‭ ‬الحكم‭ ‬باسمه،‭ ‬تلك‭ ‬الحيلة‭ ‬سال‭ ‬لأجلها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدماء،‭ ‬وبينما‭ ‬نجح‭ ‬المعتضد‭ ‬في‭ ‬ضم‭ ‬بعض‭ ‬دويلات‭ ‬الطوائف،‭ ‬تمكّن‭ ‬المعتمد‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬ما‭ ‬عجز‭ ‬عنه‭ ‬والده‭ ‬وجده،‭ ‬وذلك‭ ‬بانتزاع‭ ‬قرطبة‭ ‬عاصمة‭ ‬الخلافة‭ ‬السابقة‭ ‬من‭ ‬حكّامها‭ ‬بني‭ ‬جهور‭.‬

كانت‭ ‬شرارة‭ ‬حرب‭ ‬الاسترداد‭ ‬قد‭ ‬انطلقت‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬الملك‭ ‬المنصور‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬عامر،‭ ‬وملوك‭ ‬الطوائف‭ ‬منهمكون‭ ‬في‭ ‬توسيع‭ ‬رقعة‭ ‬دويلاتهم،‭ ‬حتى‭ ‬رجّت‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬أقدامهم‭ ‬رجًّا،‭ ‬عندما‭ ‬استولى‭ ‬ملك‭ ‬قشتالة‭ ‬ألفونسو‭ ‬السادس‭ ‬على‭ ‬طليطلة‭ (‬1085م‭) ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الأندلس،‭ ‬وتشغل‭ ‬مساحتها‭ ‬ربع‭ ‬مساحة‭ ‬الجزيرة‭ ‬الأيبيرية،‭ ‬ليطلق‭ ‬ابن‭ ‬العسال‭ ‬الإنذار‭ ‬الأول‭ ‬للرحيل‭:‬

يا‭ ‬أهل‭ ‬أندلس‭ ‬حثّوا‭ ‬مطيّكُمُ‭ 

فما‭ ‬المقام‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬الغلط

الثوب‭ ‬ينسل‭ ‬من‭ ‬أطرافه‭ ‬وأرى‭ 

ثوب‭ ‬الجزيرة‭ ‬منسولًا‭ ‬من‭ ‬الوسط

كان‭ ‬نصرًا‭ ‬مدويًّا‭ ‬استقوى‭ ‬به‭ ‬ألفونسو‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف،‭ ‬وزاد‭ ‬من‭ ‬عزيمته‭ ‬ووقاحته‭ ‬لضمّ‭ ‬ما‭ ‬استطاع‭ ‬منها،‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬صاحب‭ ‬إشبيلية‭ ‬تزحف‭ ‬الدقائق‭ ‬ككائن‭ ‬منزوع‭ ‬اليدين‭ ‬والأرجل،‭ ‬لقد‭ ‬تزايدت‭ ‬الضغوط‭ ‬على‭ ‬المعتمد‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج،‭ ‬حتى‭ ‬ثقُل‭ ‬رأسه‭ ‬وشعر‭ ‬بالاختناق،‭ ‬كان‭ ‬ملك‭ ‬قشتالة‭ ‬يزداد‭ ‬صلافة،‭ ‬وابن‭ ‬عبّاد‭ ‬يقلّب‭ ‬بين‭ ‬خيارات‭ ‬مرّة‭ ‬لكل‭ ‬منها‭ ‬مصير‭ ‬مظلم‭.‬

كان‭ ‬مشهد‭ ‬سقوط‭ ‬طليطلة،‭ ‬وهي‭ ‬أكثر‭ ‬قواعد‭ ‬الأندلس‭ ‬تحصينًا،‭ ‬يدق‭ ‬ناقوس‭ ‬الخطر‭ ‬فوق‭ ‬عروش‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف،‭ ‬وخيار‭ ‬المواجهة‭ ‬مع‭ ‬ألفونسو،‭ ‬اعتمادًا‭ ‬على‭ ‬النفس،‭ ‬أشبه‭ ‬بالانتحار،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬التعاون‭ ‬بين‭ ‬الممـــالك‭ ‬المجاورة‭ ‬كغرناطة‭ ‬وباطليوس‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الثقة‭ ‬الكافية‭ ‬بين‭ ‬خصوم‭ ‬ألدّاء،‭ ‬إذًا‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الاستعانة‭ ‬بقوة‭ ‬خارجية‭ ‬تضاف‭ ‬إلى‭ ‬قدرات‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف‭ ‬لدرء‭ ‬خطر‭ ‬الجيش‭ ‬القشتالي،‭ ‬وإيقاف‭ ‬طموحات‭ ‬ألفونسو‭ ‬السادس‭ ‬عند‭ ‬حدها،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الخيار‭ ‬مطلب‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬لكن‭ ‬أمير‭ ‬المرابطين‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬تاشفين‭ ‬رفض‭ ‬أن‭ ‬يعبر‭ ‬إلى‭ ‬عدوة‭ ‬الأندلس‭ ‬دون‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬ملوكها‭.‬

وقد‭ ‬تم‭ ‬تخويف‭ ‬المعتمد‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬تاشفين‭ ‬وما‭ ‬قد‭ ‬يطول‭ ‬ملكه‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬طمع‭ ‬فيه‭ ‬الأخير،‭ ‬فردّ‭ ‬بحضرة‭ ‬الوزراء‭ ‬والقضاة‭ ‬والفقهاء‭ ‬والأعيان‭ ‬بما‭ ‬خلّده‭ ‬اتالله‭ ‬إني‭ ‬لأوثر‭ ‬رعي‭ ‬الجمال‭ ‬لسلطان‭ ‬مراكش‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أغدو‭ ‬تابعًا‭ ‬لملـــــك‭ ‬النصــارى،‭ ‬وأن‭ ‬أؤدي‭ ‬له‭ ‬الجزية،‭ ‬إنَّ‭ ‬رعي‭ ‬الجمال‭ ‬خيرٌ‭ ‬من‭ ‬رعي‭ ‬الخنازيرب،‭ ‬وتم‭ ‬الأمر‭ ‬كما‭ ‬اشترط‭ ‬ابن‭ ‬تاشفين‭ ‬وتجمّعت‭ ‬جيوش‭ ‬المرابطين‭ ‬وملوك‭ ‬الطوائف‭ ‬على‭ ‬خطة‭ ‬واحدة،‭ ‬ووقعت‭ ‬المواجهة‭ ‬في‭ ‬االزلاقةب‭ ‬التي‭ ‬هزم‭ ‬فيها‭ ‬جيش‭ ‬قشتالة‭ ‬شرّ‭ ‬هزيمة‭.‬

لقد‭ ‬رسم‭ ‬المعتمد‭ ‬مصير‭ ‬ملكه،‭ ‬وحدث‭ ‬ذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غادر‭ ‬ابن‭ ‬تاشفين‭ ‬الأندلس،‭ ‬وعاد‭ ‬المعتمد‭ ‬بعد‭ ‬عدة‭ ‬سنوات‭ ‬لمصالحة‭ ‬ألفونسو،‭ ‬وعندما‭ ‬علم‭ ‬أمير‭ ‬المرابطين‭ ‬بذلك‭ ‬عزم‭ ‬أمره‭ ‬على‭ ‬خلع‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف،‭ ‬لينهيَ‭ ‬فصلاً‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬الوجود‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الأندلس،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬ملك‭ ‬إشبيلية‭ ‬من‭ ‬يستنجد‭ ‬به‭ ‬لمواجهة‭ ‬جيش‭ ‬ابن‭ ‬تاشفين‭ ‬غير‭ ‬جيشه‭ ‬الضعيف‭ ‬الذي‭ ‬هزم‭ ‬سريعًا‭ ‬أمام‭ ‬جحافل‭ ‬المرابطين،‭ ‬وظل‭ ‬المعتمد‭ ‬يقاتل‭ ‬ببسالة‭ ‬من‭ ‬حاصروا‭ ‬قصره‭ ‬حتى‭ ‬توقّف‭ ‬عن‭ ‬القتال‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬نتيجتها‭ ‬محسومة‭ ‬سلفًا،‭ ‬وهكذا‭ ‬تم‭ ‬أسره‭ ‬ونفيه‭ ‬وأهله‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬طويلة‭ ‬إلى‭ ‬أغمات،‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬انتهت‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬رحلتنا‭.‬

 

تاريخ‭ ‬طويل

نزلنا‭ ‬مراكش،‭ ‬والشوق‭ ‬يحدونا‭ ‬لزيارة‭ ‬قبر‭ ‬الملك‭ ‬الشاعر،‭ ‬لكن‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬مراكش‭ ‬دون‭ ‬المرور‭ ‬على‭ ‬ساحة‭ ‬الفناء‭ ‬والأسواق‭ ‬المحيطة‭ ‬بها؟‭ ‬هذا‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬التفريط‭ ‬بمتعة‭ ‬لا‭ ‬تحققها‭ ‬قراءة‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬أو‭ ‬مشاهدة‭ ‬برنامج‭ ‬وثائقي‭ ‬عن‭ ‬مراكش‭.‬

في‭ ‬مراكش‭ ‬تنفتح‭ ‬أمامنا‭ ‬بوابة‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل،‭ ‬بدأ‭ ‬منذ‭ ‬تأسيس‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬المرابطين‭ ‬لكي‭ ‬تكون‭ ‬عاصمة‭ ‬دولتهم‭ ‬الفتيّة،‭ ‬وعاصمة‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬المغرب‭ ‬ونصف‭ ‬بلاد‭ ‬الأندلس‭ ‬بعد‭ ‬ضمّها‭ ‬تحت‭ ‬راية‭ ‬الدولة‭ ‬المرابطية،‭ ‬وكان‭ ‬المرابطون‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬متمركزين‭ ‬في‭ ‬أغمات‭.‬

لم‭ ‬نكن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬وسائق‭ ‬ماهر‭ ‬ننهي‭ ‬معه‭ ‬زيارة‭ ‬أهم‭ ‬معالم‭ ‬مراكش‭ ‬بعد‭ ‬زيارة‭ ‬أغمات،‭ ‬كانت‭ ‬اساحة‭ ‬الفناب‭ ‬أو‭ ‬ساحة‭ ‬فناء‭ ‬جامع‭ ‬الكتبية‭ ‬هي‭ ‬المحطة‭ ‬التي‭ ‬أتى‭ ‬ذكرها‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬من‭ ‬سألناهم‭ ‬ومَن‭ ‬لم‭ ‬نسألهم‭ ‬عن‭ ‬أهم‭ ‬معالم‭ ‬مراكش،‭ ‬كانت‭ ‬الإجابات‭ ‬متنوعة،‭ ‬قبور‭ ‬السعديين،‭ ‬قصر‭ ‬الباهية،‭ ‬جامع‭ ‬المنصور،‭ ‬باب‭ ‬أكناو،‭ ‬أسواق‭ ‬مراكش‭ ‬التراثية،‭ ‬حديقة‭ ‬ماجوريل‭... ‬إلخ‭. ‬لقد‭ ‬تمكّنا‭ ‬من‭ ‬زيارة‭ ‬معظمها،‭ ‬ولكل‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬قصة‭ ‬ودروس‭ ‬وعِبَر،‭ ‬ولكن‭ ‬بقي‭ ‬لساحة‭ ‬االفناب‭ ‬سحر‭ ‬وجاذبية‭ ‬لا‭ ‬يقاوَمان‭.‬

 

ساحة‭ ‬الفنا‭... ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الخَرس

تتفجّر‭ ‬سحرًا،‭ ‬خريطة‭ ‬يرسمها‭ ‬صراع‭ ‬سرمدي‭ ‬بين‭ ‬عالَمَي‭ ‬النهار‭ ‬والليل،‭ ‬فيها‭ ‬تتجمد‭ ‬عقارب‭ ‬الزمن‭ ‬وتنزوي‭ ‬أشعار‭ ‬المديح‭ ‬عن‭ ‬الوصف،‭ ‬يدخلها‭ ‬المكدور‭ ‬فيتهشم‭ ‬حزنه‭ ‬وتقف‭ ‬البهجة‭ ‬عند‭ ‬حدودها‭ ‬لمعانقة‭ ‬الزوّار‭ ‬والعابرين‭ ‬والتائهين،‭ ‬إنها‭ ‬ساحة‭ ‬االفناب‭ ‬المكان‭ ‬المفتوح‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الخرس‭.‬

قيل‭ ‬إن‭ ‬االفناب‭ ‬يعني‭ ‬فناء‭ ‬المنزل،‭ ‬وقيل‭ ‬إنها‭ ‬تعني‭ ‬الموت،‭ ‬لأن‭ ‬الساحة‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬البعيد‭ ‬كانت‭ ‬مسرحًا‭ ‬لتنفيذ‭ ‬عمليات‭ ‬الإعدام،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬قاعدة‭ ‬استعراض‭ ‬وانطلاق‭ ‬الحملات‭ ‬العسكرية‭ ‬لجيوش‭ ‬المرابطين‭.‬

ومنذ‭ ‬عام‭ ‬2001م‭ ‬تم‭ ‬ضم‭ ‬ساحة‭ ‬االفناب‭ ‬لتكون‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬التراث‭ ‬الإنساني‭ ‬العالمي‭ ‬التي‭ ‬ترعاها‭ ‬منظمة‭ ‬اليونسكو،‭ ‬واليوم‭ ‬تزيد‭ ‬مساحتها‭ ‬على‭ ‬40‭ ‬ألف‭ ‬كيلومتر‭ ‬مربع‭.‬

وقت‭ ‬الظهيرة‭ ‬شمس‭ ‬مراكش‭ ‬ليست‭ ‬بالهيّنة،‭ ‬والتجول‭ ‬في‭ ‬أزقة‭ ‬الأسواق‭ ‬التراثية‭ ‬المظللة‭ ‬خيار‭ ‬ممتاز‭ ‬لالتقاط‭ ‬الصور‭ ‬والاطلاع‭ ‬على‭ ‬محتويات‭ ‬المتاجر‭ ‬بصورة‭ ‬أفضل،‭ ‬لأن‭ ‬حركة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المساء‭ ‬تكون‭ ‬مضاعفة،‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬أراد‭ ‬السير‭ ‬تحت‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬االفناب‭ ‬فسوف‭ ‬يجد‭ ‬عشرات‭ ‬العربات‭ ‬المتحركة‭ ‬لبيع‭ ‬عصير‭ ‬البرتقال‭ ‬البارد،‭ ‬الذي‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬خلطة‭ ‬سريّة‭ ‬تجبر‭ ‬المشتري‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬الكأس‭ ‬الثانية‭ ‬والتفكير‭ ‬بالثالثة،‭ ‬لشدة‭ ‬حلاوة‭ ‬ذلك‭ ‬العصير‭. ‬

عالَم‭ ‬ساحة‭ ‬الفنا‭ ‬الليلي‭ ‬ينهض‭ ‬من‭ ‬العدم،‭ ‬ليحتل‭ ‬كل‭ ‬شبر‭ ‬من‭ ‬عالَم‭ ‬النهار،‭ ‬يختلط‭ ‬فيه‭ ‬الواقع‭ ‬بالسحر،‭ ‬وربما‭ ‬تمرّ‭ ‬بكم‭ ‬أطياف‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬بشر،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬أطياف‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬تأبى‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬البقعة‭ ‬الساحرة،‭ ‬دكاكين‭ ‬متنقلة‭ ‬تتخذ‭ ‬مواقعها‭ ‬المحددة،‭ ‬أدخنة‭ ‬رطبة‭ ‬تحجب‭ ‬ما‭ ‬وراءها،‭ ‬وروائح‭ ‬مغناطيسية‭ ‬تثير‭ ‬فضول‭ ‬المارة‭ ‬للاقتراب،‭ ‬إنها‭ ‬المطاعم‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تظهر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬المساء،‭ ‬تقف‭ ‬متجاورة‭ ‬بشكل‭ ‬منظم،‭ ‬وباعتها‭ ‬يعدّون‭ ‬أطعمتهم‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق‭ ‬ليقدّموها‭ ‬طازجة‭ ‬إلى‭ ‬الزبائن،‭ ‬وخاصة‭ ‬الأجانب‭ ‬منهم،‭ ‬لكي‭ ‬يخوضوا‭ ‬تجربة‭ ‬تذوّق‭ ‬الأطعمة‭ ‬التقليدية‭ ‬من‭ ‬المطبخ‭ ‬المغربي،‭ ‬في‭ ‬جلسة‭ ‬بسيطة‭ ‬على‭ ‬طاولات‭ ‬وكراسي‭ ‬خفيفة‭.‬

الحلقات‭ ‬االجماهيريةب‭ ‬هي‭ ‬المحركات‭ ‬التي‭ ‬تمد‭ ‬ساحة‭ ‬االفناب‭ ‬بالحيوية‭ ‬والدهشة‭ ‬المتواصلة،‭ ‬فرق‭ ‬موسيقية‭ ‬باللباس‭ ‬التراثي‭ ‬تعزف‭ ‬وتغني‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬حماس‭ ‬الجمهور،‭ ‬عرّافون‭ ‬وقارئات‭ ‬ابختب‭ ‬ومرقّصو‭ ‬قرود‭ ‬وأفاعي‭ ‬يبهرون‭ ‬من‭ ‬تحلّقوا‭ ‬حولهم،‭ ‬لديهم‭ ‬مخزون‭ ‬تراكم‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬واللغة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التواصل،‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬المشكلة،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬دفع‭ ‬بضعة‭ ‬دراهم‭ ‬لإطالة‭ ‬أمد‭ ‬العروض‭ ‬الممتعة‭.‬

ولكن‭ ‬الكل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬ميقاتُب،‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬الشاعر‭ ‬ابن‭ ‬اللبانة،‭ ‬لقد‭ ‬مضت‭ ‬بنا‭ ‬الساعات‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نشعر‭ ‬بها،‭ ‬ونحن‭ ‬نتنقل‭ ‬من‭ ‬افرجةب‭ ‬إلى‭ ‬افرجةب‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬نغادر‭ ‬ساحة‭ ‬االفناب،‭ ‬ففي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬سنذهب‭ ‬إلى‭ ‬خاتمة‭ ‬رحلتنا‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬إشبيلية‭ ‬وستنتهي‭ ‬في‭ ‬أغمات‭.‬

 

تحت‭ ‬إمرة‭ ‬الحرّاس‭ ‬الملثمين

وجدنا‭ ‬ضالتنا‭ ‬في‭ ‬عبدالسلام،‭ ‬وهو‭ ‬سائق‭ ‬أجاد‭ ‬التنقل‭ ‬بنا‭ ‬بين‭ ‬معالم‭ ‬مراكش‭ ‬بطريقة‭ ‬مكّنتنا‭ ‬من‭ ‬زيارة‭ ‬مواقع‭ ‬عدة‭ ‬خلال‭ ‬رحلتنا‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تدم‭ ‬سوى‭ ‬أيام‭ ‬معدودات،‭ ‬كنت‭ ‬أغالب‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬النعاس‭ ‬دهمني‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الطريق،‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬شربت‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬القهوة‭ ‬الـاكحلةب،‭ ‬كما‭ ‬يقال‭ ‬بالدارجة‭ ‬المغربية،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬فائدة،‭ ‬لأنني‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينام‭ ‬جيّدًا‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬المعتاد‭.‬

تستغرق‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬مراكش‭ ‬وأغمات‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬ساعة،‭ ‬وتبلغ‭ ‬المسافة‭ ‬بينهما‭ ‬نحو‭ ‬30‭ ‬كيلومترًا،‭ ‬جلست‭ ‬أرقب‭ ‬جانبَي‭ ‬الطريق،‭ ‬حركة‭ ‬الناس،‭ ‬الأشجار‭ ‬المتراكضة،‭ ‬الدكاكين،‭ ‬التنافر‭ ‬في‭ ‬الملابس‭ ‬بين‭ ‬التقليدي‭ ‬والحديث،‭ ‬الباعة‭ ‬المتجولين،‭ ‬العلامات‭ ‬الإرشادية‭ ‬التي‭ ‬تقيس‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬مسافة‭ ‬رحلتنا‭.‬

نعاسي‭ ‬امتزج‭ ‬مع‭ ‬خيالات‭ ‬نسجتها‭ ‬صفحات‭ ‬التاريخ‭ ‬وتأثيرات‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬اهناكب‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا،‭ ‬لأنه‭ ‬صار‭ ‬اهناب‭ ‬ويقاس‭ ‬بالأمتار،‭ ‬وفجأة‭ ‬توقفت‭ ‬بنا‭ ‬السيارة،‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحرّاس‭ ‬الملثّمين‭ ‬قطعوا‭ ‬طريقنا،‭ ‬أحدهم‭ ‬طرق‭ ‬على‭ ‬زجاج‭ ‬نافذتي،‭ ‬عبدالسلام‭ ‬لم‭ ‬ينبس‭ ‬ببنت‭ ‬شفة،‭ ‬سألني‭ ‬الملثم‭: ‬ماذا‭ ‬تفعلون‭ ‬هنا؟‭ ‬ما‭ ‬وجهتكم؟‭ ‬رددتُ‭ ‬نحن‭ ‬زوار‭ ‬لمدينة‭ ‬مراكش،‭ ‬ووجهتنا‭ ‬قبر‭ ‬المعتمد‭ ‬بن‭ ‬عبّاد،‭ ‬سمعت‭ ‬كلمات‭ ‬شعرت‭ ‬أنها‭ ‬نبرة‭ ‬تذمّر‭ ‬مما‭ ‬قلته،‭ ‬الحارس‭ ‬الذي‭ ‬كلّمني‭ ‬تراجع‭ ‬للوراء‭ ‬وتقدّم‭ ‬مكانه‭ ‬مَن‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬رئيسهم،‭ ‬سألني‭ ‬بصيغة‭ ‬الجمع‭ ‬مستنكرًا،‭ ‬ما‭ ‬بالكم؟‭ ‬لقد‭ ‬مات‭ ‬صاحبكم‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬ينثر‭ ‬الدراهم‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭! ‬قلت‭: ‬لا‭ ‬نريد‭ ‬غير‭ ‬قراءة‭ ‬الفاتحة‭ ‬على‭ ‬قبره،‭ ‬اقترب‭ ‬رئيس‭ ‬الحراس‭ ‬منّي‭ ‬ووضع‭ ‬يده‭ ‬اليسرى‭ ‬فوق‭ ‬سقف‭ ‬السيارة‭ ‬وقال‭: ‬أليس‭ ‬من‭ ‬الأَولى‭ ‬أن‭ ‬تزور‭ ‬قبر‭ ‬أمير‭ ‬المسلمين‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬تاشفين‭ ‬الذي‭ ‬نصر‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسلمين‭ ‬في‭ ‬االزلاقةب؟‭ ‬ونظر‭ ‬في‭ ‬عينيّ‭ ‬وأكمل‭: ‬أليس‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬فيه‭ ‬صاحبكم‭ ‬المعتمد‭ ‬بعد‭ ‬الزلاقة‭: ‬

ولولاك‭ ‬يا‭ ‬يوسف‭ ‬المتقي

رأينا‭ ‬الجزيرة‭ ‬للكفر‭ ‬دارًا

‭ ‬قلت‭ ‬بلى‭ ‬والله،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬سنفعله‭ ‬الآن‭ ‬و‭... ‬وفجأة‭ ‬تبخَر‭ ‬من‭ ‬أحاطوا‭ ‬بنا‭ ‬وتداخل‭ ‬الخيال‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬عبدالسلام‭ ‬الذي‭ ‬أفقت‭ ‬على‭ ‬صوته‭ ‬وهو‭ ‬يسألني‭: ‬هل‭ ‬نتوقف‭ ‬عند‭ ‬ضريح‭ ‬ابن‭ ‬تاشفين؟

‭ ‬

مثوى‭ ‬بطل‭ ‬الزلاقة‭ ‬وفخر‭ ‬المرابطين

لقد‭ ‬وصلنا‭ ‬بالفعل‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬دفن‭ ‬فيه‭ ‬ابن‭ ‬تاشفين‭ ‬وبُني‭ ‬له‭ ‬ضريح‭ ‬يخلّد‭ ‬ذكراه،‭ ‬توقفنا‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ليس‭ ‬بالبعيد،‭ ‬وتوجهنا‭ ‬صوب‭ ‬بوابة‭ ‬الضريح،‭ ‬رأيت‭ ‬لوحة‭ ‬بيضاء‭ ‬مكتوبًا‭ ‬عليها‭ ‬باللون‭ ‬الأسود‭ ‬اضريح‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬تاشفينب‭ ‬دون‭ ‬ألقاب،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬شيء‭ ‬لافت‭ ‬غير‭ ‬البساطة‭ ‬والهدوء‭ ‬وروح‭ ‬التقشف‭ ‬التي‭ ‬سكنت‭ ‬حياة‭ ‬ابن‭ ‬تاشفين،‭ ‬وأزعم‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬صمم‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬استلهمه‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬عنها‭ ‬غير‭ ‬لبس‭ ‬الصوف‭ ‬وأكل‭ ‬الشعير‭ ‬ولحم‭ ‬الإبل‭ ‬وشرب‭ ‬ألبانها‭.‬

عندما‭ ‬اقتربنا‭ ‬لقراءة‭ ‬الفاتحة‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬ابن‭ ‬تاشفين،‭ ‬وجدت‭ ‬لوحة‭ ‬رخامية‭ ‬وضعت‭ ‬عند‭ ‬رأسه‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬سأنقله‭ ‬هنا‭ ‬حرفيًا‭: ‬

امثوى‭ ‬بطل‭ ‬الزلاقة‭ ‬وفخر‭ ‬المرابطين‭... ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬تاشفين‭... ‬ولد‭ ‬سنة‭ ‬410‭ ‬هجرية،‭ ‬ونشأ‭ ‬نشأة‭ ‬الأبطال،‭ ‬أسس‭ ‬مدينة‭ ‬مراكش‭ ‬سنة‭ ‬454 هـ،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬أعظم‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬توحيد‭ ‬كلمة‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬وتطهير‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬رجس‭ ‬الكفر،‭ ‬وأشهر‭ ‬معاركه‭ ‬البطولية‭ ‬معركة‭ ‬الزلاقة‭ ‬474‭ ‬هـ،‭ ‬توفي‭ ‬يوم‭ ‬الاثنين‭ ‬ثالث‭ ‬محرم‭ ‬سنة‭ ‬500،‭ ‬وهذا‭ ‬قبره‭ ‬الذي‭ ‬كاد‭ ‬يمحى‭ ‬أثره‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬تداركه‭ ‬بعنايته‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬الخامس،‭ ‬الذي‭ ‬أمر‭ ‬بتشييد‭ ‬هذا‭ ‬الضريح‭ ‬تقديرًا‭ ‬لما‭ ‬أسداه‭ ‬من‭ ‬خير‭ ‬للإسلام‭ ‬والمسلمين‭. ‬وذلك‭ ‬بتاريخ‭ ‬تاسع‭ ‬وعشري‭ ‬ربيع‭ ‬النبوي‭ ‬عام‭ ‬1379‭ ‬الموافق‭ ‬لثالث‭ ‬أكتوبر‭ ‬سنة‭ ‬1959،‭ ‬أدام‭ ‬الله‭ ‬بطل‭ ‬الحاضر‭ ‬السعيد،‭ ‬ورحم‭ ‬مفخرة‭ ‬الماضي‭ ‬المجيدب‭. ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أدينا‭ ‬الواجب‭ ‬تجاه‭ ‬أمير‭ ‬المسلمين،‭ ‬خرجنا‭ ‬متجهين‭ ‬إلى‭ ‬أغمات‭.‬

 

وفاء‭ ‬الشعراء‭ ‬للملك‭ ‬الشاعر

في‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬اقبر‭ ‬الغريبب‭ ‬تذكّرت‭ ‬من‭ ‬ساروا‭ ‬قبلنا‭ ‬إليه‭ ‬وهم‭ ‬كثر،‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أعني‭ ‬من‭ ‬زاروا‭ ‬قبره‭ ‬بعد‭ ‬مماته،‭ ‬لكنني‭ ‬أعني‭ ‬من‭ ‬تكبّدوا‭ ‬مشاق‭ ‬السفر‭ ‬وخطر‭ ‬نقمة‭ ‬المرابطين‭ ‬لأجل‭ ‬زيارة‭ ‬المعتمد‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬أسره،‭ ‬ووجدت‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬ضربوا‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬الوفاء‭ ‬لرجل‭ ‬لم‭ ‬يبخل‭ ‬عليهم‭ ‬بكرمه‭ ‬وقربه‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬ملكًا،‭ ‬فلم‭ ‬يجدوا‭ ‬ما‭ ‬يقدمونه‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬سوى‭ ‬المغامرة‭ ‬بحياتهم‭ ‬لأجله،‭ ‬وإهدائه‭ ‬بعض‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬خلّدت‭ ‬وفاءهم‭ ‬له‭.‬

وقد‭ ‬برز‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬شاعران؛‭ ‬هما‭ ‬أبو‭ ‬محمد‭ ‬عبدالجبار‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬الصقلي،‭ ‬المعروف‭ ‬بابن‭ ‬حمديس‭ ‬الصقلي،‭ ‬وأبوبكر‭ ‬الداني‭ ‬محمَّد‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬اللخمي،‭ ‬المعروف‭ ‬بابن‭ ‬اللبَّانة،‭ ‬لم‭ ‬تتبدل‭ ‬أقوالهم‭ ‬مع‭ ‬تبدُّل‭ ‬أحوال‭ ‬من‭ ‬مدحوه،‭ ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬حمديس‭:‬

غريبٌ‭ ‬بأرض‭ ‬المغربين‭ ‬أسيرُ

سيبكي‭ ‬عليه‭ ‬منبر‭ ‬وسرير

إذا‭ ‬زال‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬بطيِّب‭ ‬ذكره

ولميرَ‭ ‬ذاك‭ ‬اللهوَ‭ ‬منه‭ ‬منيرُ

وتندبه‭ ‬البيض‭ ‬الصوارمُ‭ ‬والقنا

وينهلَّ‭ ‬دمعٌ‭ ‬بينهنَّ‭ ‬غزيرُ

سيبكيه‭ ‬في‭ ‬زاهيه‭ ‬والزاهرِ‭ ‬الندى

وطلابُه‭ ‬والعرفُ‭ ‬ثم‭ ‬نكيرُ

إذا‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬أغمات‭ ‬قد‭ ‬مات‭ ‬جوده

فما‭ ‬يرتجى‭ ‬للجود‭ ‬بعد‭ ‬نشورُ

مضى‭ ‬زمنٌ‭ ‬والملك‭ ‬مستأنس‭ ‬به

وأصبح‭ ‬عنه‭ ‬اليومَ‭ ‬وهو‭ ‬نَفورُ

أذلَّ‭ ‬بني‭ ‬ماء‭ ‬السماء‭ ‬زمانُهم

وذُلُّ‭ ‬بني‭ ‬ماء‭ ‬السماء‭ ‬كثيرُ

برأيٍ‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬المضلل‭ ‬فاسدٍ

متى‭ ‬صلحت‭ ‬للصالحينَ‭ ‬دهورُ

فما‭ ‬ماؤها‭ ‬إلا‭ ‬بكاءٌ‭ ‬عليهمُ

يفيض‭ ‬على‭ ‬الأكباد‭ ‬منه‭ ‬بحورُ

فيا‭ ‬ليت‭ ‬شعري‭ ‬هل‭ ‬أبيتنَّ‭ ‬ليلةً

أمامي‭ ‬وخلفي‭ ‬روضةٌ‭ ‬وغديرُ

بمنبتة‭ ‬الزيتون‭ ‬مورثة‭ ‬العلى

تغنّي‭ ‬حمامُ‭ ‬أو‭ ‬ترفُّ‭ ‬طيورُ

بزاهرها‭ ‬السامي‭ ‬الذي‭ ‬جاده‭ ‬الحيا

تشيدُ‭ ‬الثريا‭ ‬نحونا‭ ‬وتشيرُ

ويلحظنا‭ ‬الزاهي‭ ‬وسعد‭ ‬سعوده

غيورين‭ ‬والصبُّ‭ ‬المحبُّ‭ ‬غيورُ

تراه‭ ‬عسيرًا‭ ‬أو‭ ‬يسيرًا‭ ‬منالُه

ألا‭ ‬كلُّ‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الإله‭ ‬يسيرُ

أما‭ ‬ابن‭ ‬اللبانة‭ ‬فيقول‭ ‬عنه‭: ‬

لِكُلِّ‭ ‬شَيْءٍ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْأَشْيَاءِ‭ ‬مِيقَاتٌ‭ ‬

وَلِلْمُنَى‭ ‬مِنْ‭ ‬مَتَائِيهِنَّ‭ ‬غَايَاتُ‭ ‬

وَالدَّهْرُ‭ ‬فِي‭ ‬صِبْغَةِ‭ ‬الْحِرْبَاءِ‭ ‬مُنْغَمِسٌ‭ ‬

أَلْوَانُ‭ ‬حُلَّتِهِ‭ ‬فِيهَا‭ ‬اسْتِحَالاَتُ‭ ‬

انْفُضْ‭ ‬يَدَيْكَ‭ ‬مِنَ‭ ‬الدُّنْيَا‭ ‬وَسَاكِنِهَا‭ ‬

فَالْأَرْضُ‭ ‬قَدْ‭ ‬أَقْفَرَتْ‭ ‬وَالنَّاسُ‭ ‬قَدْ‭ ‬مَاتُوا‭ ‬

وَقُلْ‭ ‬لِعَالِمِهَا‭ ‬الْأَرْضِيِّ‭ ‬قَدْ‭ ‬كَتَمَتْ‭ ‬

سَرِيرَة‭ ‬َ‭ ‬الْعَالَمِ‭ ‬الْعُلْوِيِّ‭ ‬أَغْمَاتُ‭ ‬

مَنْ‭ ‬كَانَ‭ ‬بَيْنَ‭ ‬النَّدَى‭ ‬وَالْبَأْسِ‭ ‬أَنْصُلُهُ‭ ‬

هِنْدِيَّةٌ‭ ‬وَعَطَايَاهُ‭ ‬هُنَيْدَاتُ‭ ‬

رَمَاهُ‭ ‬مِنْ‭ ‬حَيْثُ‭ ‬لَمْ‭ ‬تَسْتُرْهُ‭ ‬سَابِغَةٌ‭ ‬

دَهْرٌ‭ ‬مُصِيبَاتُهُ‭ ‬نُبْلٌ‭ ‬مُصِيبَاتُ‭ ‬

وَكَانَ‭ ‬مِلْءَ‭ ‬عِيَانِ‭ ‬الْعَيْنِ‭ ‬تُبْصِرُهُ‭ ‬

وَلِلْأَمَانِيِّ‭ ‬فِي‭ ‬مَرْآهُ‭ ‬مِرْآةُ‭ ‬

أَنْكَرْتُ‭ ‬إِلّا‭ ‬الْتِوَاءَاتِ‭ ‬القُيُودِ‭ ‬بِهِ‭ ‬

وَكَيْفَ‭ ‬تُنْكَرُ‭ ‬فِي‭ ‬الرَّوْضَاتِ‭ ‬حَيَّاتُ‭ ‬

لَهْفِي‭ ‬عَلَى‭ ‬آلِ‭ ‬عَبَّادٍ‭ ‬فَإِنَّهُمُ‭ ‬

أَهِلَّةٌ‭ ‬مَا‭ ‬لَهَا‭ ‬فِي‭ ‬الْأُفْقِ‭ ‬هَالاَتُ‭ ‬

 

وَلَم‭ ‬أَكُن‭ ‬قَبلَ‭ ‬ذاكَ‭ ‬النَعـشِ‭ ‬أَعلَمُـهُ

‭ ‬وأخيرًا‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬أغمات،‭ ‬وتوقفنا‭ ‬عند‭ ‬ضريح‭ ‬المعتمد‭ ‬بن‭ ‬عبّاد،‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬أيّة‭ ‬مقارنة‭ ‬بين‭ ‬ضريحه‭ ‬وضريح‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬تاشفين،‭ ‬حيث‭ ‬بدا‭ ‬ضريح‭ ‬المأسور‭ ‬أكثر‭ ‬فخامة‭ ‬من‭ ‬ضريح‭ ‬مَن‭ ‬أسَره،‭ ‬دخلنا،‭ ‬وكأي‭ ‬مقبرة‭ ‬حلّت‭ ‬الرهبة‭ ‬مكان‭ ‬الشغف،‭ ‬فلا‭ ‬شيء‭ ‬أجدى‭ ‬من‭ ‬طلب‭ ‬المغفرة‭ ‬لمن‭ ‬رحلوا،‭ ‬ولا‭ ‬حكمة‭ ‬تتجلى‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬حكمة‭ ‬ميّت‭ ‬رثى‭ ‬نفسه،‭ ‬ووعظنا‭ ‬بأن‭ ‬دوام‭ ‬الحال‭ ‬من‭ ‬المحال‭.‬

ضريح‭ ‬المعتمد‭ ‬فوق‭ ‬القبة‭ ‬الصغيـــــرة‭ ‬يضم‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭ ‬قبر‭ ‬زوجته‭ ‬المعروفـــة‭ ‬باعتماد‭ ‬الرميكية،‭ ‬وكتب‭ ‬فوقه‭ (‬هنا‭ ‬قبر‭ ‬اعتماد‭ ‬الرميكية‭ ‬زوج‭ ‬المعتمد‭ ‬التي‭ ‬شاركته‭ ‬في‭ ‬نعيمه‭ ‬وبؤسه‭)‬،‭ ‬أما‭ ‬القبر‭ ‬الثالث‭ ‬فهو‭ ‬لابنهما،‭ ‬ويدعى‭ ‬أبو‭ ‬سليمان‭ ‬الربيع‭. ‬

أيام‭ ‬المعتمد‭ ‬في‭ ‬أغمات‭ ‬عبأت‭ ‬صدره‭ ‬بالحزن‭ ‬والأسى‭ ‬ليُخرج‭ ‬منه‭ ‬شعرًا‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬أجمل‭ ‬منه‭ ‬أيام‭ ‬عزّه‭ ‬وافتخاره،‭ ‬ولأنه‭ ‬أدرك‭ ‬النهاية،‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬أبيات‭ ‬قصيدة‭ ‬رثى‭ ‬فيها‭ ‬نفسه،‭ ‬وأوصى‭ ‬بأن‭ ‬تعلّق‭ ‬عند‭ ‬قبره،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬كان،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭: ‬

 

قَبرَ‭ ‬الغَريب‭ ‬سَقاكَ‭ ‬الرائِحُ‭ ‬الغـادي‭ ‬

حَقًّا‭ ‬ظَفَرتَ‭ ‬بِأَشـلاء‭ ‬ابـن‭ ‬عَبّـادِ

بِالحِلمِ‭ ‬بالعِلمِ‭ ‬بِالنُعمـى‭ ‬إِذِ‭ ‬اِتّصلَـت‭ ‬

بِالخَصبِ‭ ‬إِن‭ ‬أَجدَبوا‭ ‬بالريّ‭ ‬لِلصادي

بالطاعِن‭ ‬الضارِب‭ ‬الرامي‭ ‬إِذا‭ ‬اِقتَتَلوا‭ ‬

بِالمَوتِ‭ ‬أَحمَرَ‭ ‬بالضرغـامة‭ ‬العـادي

بالدَهر‭ ‬في‭ ‬نِقَم‭ ‬بِالبَحـر‭ ‬فـي‭ ‬نِعَـمٍ‭ ‬

بِالبَدرِ‭ ‬في‭ ‬ظُلمٍ‭ ‬بِالصَدرِ‭ ‬في‭ ‬النـادي

نَعَم‭ ‬هُوَ‭ ‬الحَـقُّ‭ ‬وَافانـي‭ ‬بِـهِ‭ ‬قَـدَرٌ‭ ‬

مِـنَ‭ ‬السَمـاءِ‭ ‬فَوافانـي‭ ‬لِميـعـادِ

وَلَم‭ ‬أَكُن‭ ‬قَبلَ‭ ‬ذاكَ‭ ‬النَعـشِ‭ ‬أَعلَمُـهُ‭ ‬

أَنَّ‭ ‬الجِبال‭ ‬تَهـادى‭ ‬فَـوقَ‭ ‬أَعـوادِ

كَفاكَ‭ ‬فارفُق‭ ‬بِما‭ ‬اِستودِعتَ‭ ‬مِن‭ ‬كَرَمٍ‭ ‬

رَوّاكَ‭ ‬كُلُّ‭ ‬قَطـوب‭ ‬البَـرق‭ ‬رَعّـادِ

يَبكي‭ ‬أَخـاهُ‭ ‬الَّـذي‭ ‬غَيَّبـتَ‭ ‬وابِلَـهُ‭ ‬

تَحتَ‭ ‬الصَفيحِ‭ ‬بِدَمعٍ‭ ‬رائِـح‭ ‬غـادي

حَتّى‭ ‬يَجودَكَ‭ ‬دَمعُ‭ ‬الطَـلّ‭ ‬مُنهَمِـرًا‭ ‬

مِن‭ ‬أَعيُن‭ ‬الزَهرِ‭ ‬لم‭ ‬تَبخَل‭ ‬بِإِسعـادِ

وَلا‭ ‬تَـزالُ‭ ‬صَـلاة‭ ‬اللَـهِ‭ ‬دائِـمَـةً‭ ‬

عَلى‭ ‬دَفينـكَ‭ ‬لا‭ ‬تُحصـى‭ ‬بِتعـدادِ

 

أسيرٌ‭ ‬ليس‭ ‬كأيّ‭ ‬أسير

لقد‭ ‬سجلت‭ ‬قصائد‭ ‬المعتمد‭ ‬بن‭ ‬عباد‭ ‬إشارات‭ ‬واضحة‭ ‬حول‭ ‬حياته‭ ‬وأسرته‭ ‬في‭ ‬الأسر،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬ظروفه‭ ‬المعيشية،‭ ‬فهو‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لم‭ ‬يحبس‭ ‬وحده‭ ‬وتُرك‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬أفراد‭ ‬أسرته،‭ ‬وبابه‭ ‬لم‭ ‬يُغلق‭ ‬أمام‭ ‬زواره،‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬حمديس‭ ‬وابن‭ ‬اللبانة،‭ ‬وكان‭ ‬يكتب‭ ‬الرسائل‭ ‬ويستقبلها‭.‬

تلك‭ ‬الأوضاع‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬المعتمد‭ ‬بالغ‭ ‬في‭ ‬شكواه،‭ ‬فهو‭ ‬ملك‭ ‬ولد‭ ‬وعاش‭ ‬حياة‭ ‬القصور‭ ‬ورغد‭ ‬العيش،‭ ‬وأي‭ ‬بديل‭ ‬لن‭ ‬يرضيه‭ ‬عمّا‭ ‬كان‭ ‬فيه،‭ ‬فهو‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭:‬

فيما‭ ‬مَضى‭ ‬كُنتَ‭ ‬بِالأَعيادِ‭ ‬مَسرورًا

فَساءَكَ‭ ‬العيدُ‭ ‬في‭ ‬أَغماتَ‭ ‬مَأسورا

علينا‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬ما‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬كملك‭ ‬وليس‭ ‬كأي‭ ‬شخص‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬وزيرًا‭. ‬

وعندما‭ ‬يتأسى‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬حال‭ ‬بناته‭:‬

تَرى‭ ‬بَناتكَ‭ ‬في‭ ‬الأَطمارِ‭ ‬جائِعَةً

يَغزِلنَ‭ ‬لِلناسِ‭ ‬ما‭ ‬يَملِكنَ‭ ‬قَطميرًا

‭ ‬فهو‭ ‬يعاني‭ ‬الأمرَّين‭ ‬من‭ ‬عجزه‭ ‬عن‭ ‬فعل‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬ومن‭ ‬شريط‭ ‬الذكريات‭ ‬الذي‭ ‬يذكره‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياة‭ ‬النعيم‭ ‬التي‭ ‬توافرت‭ ‬لبناته‭ ‬من‭ ‬أثواب‭ ‬لا‭ ‬عدد‭ ‬لها‭ ‬وحليّ‭ ‬وجواهر‭ ‬منثورة‭ ‬تحت‭ ‬أقدامهن‭ ‬وطعام‭ ‬وشراب‭ ‬يكفي‭ ‬أغمات‭ ‬ويزيد‭.‬

ولعل‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬عن‭ ‬سرب‭ ‬طيور‭ ‬القطا‭ ‬دليل‭ ‬وجود‭ ‬فضاء‭ ‬ما‭ ‬يجلس‭ ‬فيه‭ ‬داخل‭ ‬مكان‭ ‬أسره،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭: ‬

بكيتُ‭ ‬إلى‭ ‬سرب‭ ‬القطا‭ ‬إذ‭ ‬مررن‭ ‬بي

سوارح‭ ‬لا‭ ‬سجن‭ ‬يعوق‭ ‬ولا‭ ‬كبل

أما‭ ‬توقه‭ ‬للحرية‭ ‬وشعوره‭ ‬بضيق‭ ‬المكان‭ ‬فقد‭ ‬جعله‭ ‬يبكي‭ ‬لطيور‭ ‬لا‭ ‬تعرفه‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬من‭ ‬بكى‭ ‬لرؤيتها،‭ ‬فأيّ‭ ‬حزن‭ ‬وكمد‭ ‬كان‭ ‬يتجرعه‭ ‬المعتمد‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬وكل‭ ‬ساعة؟‭! .

إشبيلية‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬عاصمة‭ ‬للحكم‭ ‬الإسلامي‭ ‬واختيرت‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الوالي‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬بن‭ ‬موسى‭ ‬بن‭ ‬نصير،‭ ‬وأول‭ ‬جنود‭ ‬دخلوها‭ ‬من‭ ‬جنود‭ ‬الفتح‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬حمص‭ ‬ولواؤهم‭ ‬في‭ ‬الميمنة‭ ‬بعد‭ ‬لواء‭ ‬جند‭ ‬دمشق‭ ‬وبها‭ ‬استقروا،‭ ‬وصفها‭ ‬الشقندي‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬من‭ ‬محاسنها‭ ‬اعتدال‭ ‬الهواء،‭ ‬وحسن‭ ‬المباني،‭ ‬وتزيين‭ ‬الخارج‭ ‬والداخل،‭ ‬وتمكن‭ ‬التمصر،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬العامة‭ ‬تقول‭: ‬لو‭ ‬طلب‭ ‬لبن‭ ‬الطير‭ ‬في‭ ‬إشبيلية‭ ‬وجد‮»‬

كان‭ ‬المرشدون‭ ‬يركزون‭ ‬على‭ ‬برج‭ ‬‮«‬الخيرالدا‮»‬‭ ‬أو‭ ‬المئذنة‭ ‬المهيبة‭ ‬التي‭ ‬بنيت‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الموحدين‭ ‬وتحولت‭ ‬بعد‭ ‬سقوطهم‭ ‬إلى‭ ‬برج‭ ‬لأجراس‭ ‬كنيسة‭ ‬إشبيلية

جامع‭ ‬المنصور‭ ‬الذي‭ ‬بني‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬الموحدي‭ ‬يعقوب‭ ‬المنصور‭ ‬الموحدي،‭ ‬ويحمل‭ ‬هذا‭ ‬الجامع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اسم،‭ ‬مثل‭ ‬المنصور‭ ‬والجامع‭ ‬الكبير‭ ‬وجامع‭ ‬القصر‭ ‬