الطاقة النووية أم «الشمسية»؟

الطاقة‭ ‬النووية‭ ‬أم‭ ‬الطاقة‭ ‬الشمسية؟‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬طرح‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬السؤال،‭ ‬فلكل‭ ‬منهما‭ ‬إمكانيات‭ ‬ومجالات‭ ‬للاستخدام،‭ ‬وفي‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬تكاد‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬تعتقد‭ ‬أفضلية‭ ‬الثانية‭: ‬ألا‭ ‬تشرق‭ ‬الشمس‭ ‬ساطعةً‭ ‬تقريباً‭ ‬طوال‭ ‬العام؟‭!  ‬وقبل‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬المقارنة‭ ‬فلنستوضح‭ ‬بعض‭ ‬المفاهيم‭: ‬الطاقة‭ ‬النووية‭ ‬نوعان،‭ ‬طاقة‭ ‬الانشطار‭ ‬وطاقة‭ ‬الاندماج،‭ ‬ومركبات‭ ‬النواة‭ ‬متماسكة‭ ‬بفضل‭ ‬القوى‭ ‬النووية‭ ‬الشديدة‭ ‬جداً،‭ ‬وعند‭ ‬استخلاص‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬طاقة‭ ‬هذا‭ ‬التماسك‭ ‬أو‭ ‬طاقة‭ ‬الربط‭ ‬النووي‭ (‬Nuclear Binding Energy‭) ‬أثناء‭ ‬الانشطار‭ ‬النووي‭ ‬لأنوية‭ ‬ذرات‭ ‬بعض‭ ‬العناصر‭ ‬الثقيلة‭ ‬أو‭ ‬الاندماج‭ ‬النووي‭ ‬لأنوية‭ ‬خفيفة‭ ‬يمكن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬كميات‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬الطاقة‭. ‬

كان تعرُّف الإنسانية على طاقة الانشطار النووي مرعباً عندما أسقط الطيران الحربي الأمريكي في 6 و 9 أغسطس 1945 قنبلتين ذريتين (الأدق: نوويتين) فوق مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين، ما أدى إلى مقتل أكثر من 106 آلاف إنسان في الحال، ذلك بخلاف عشرات ألوف الضحايا خلال الشهور التالية، بالإضافة إلى الخراب الفظيع الذي أصاب المدينتين، وكانت كل من القنبلتين تعادل حوالي 20 ألف طن من مادة TNT. 

أما الاستخدام السلمي لطاقة الانشطار النووية فقد بدأ في 20/12/1951 في مدينة آركو Arco بولاية ايداهو الأمريكية بإضاءة أربعة مصابيح كهربائية (بقدرة كلية أقل من 200 وات) في معمل مجاور لمفاعل بحثي، وفي 27/6/1954 دُشِّنت أول محطة توليد كهرباء بالطاقة النووية، ذلك في مدينة أوبنيسك Obninsk جنوبي العاصمة الروسية موسكو بقدرة 5 ميجاوات، وتم توصيلها بشبكة الكهرباء العمومية للمدينة.

وقد تمت تجربة طاقة الاندماج النووي (النوع الثاني من الطاقة النووية) لأول مرة  على جزيرة اليوجيلاب Elugelab الصغيرة التي «كانت» تقع في شمال المحيط الهادي حتى أول نوفمبر 1952، وفي هذا التاريخ ذابت واختفت تماماً نتيجة انفجار القنبلة الحرارية النووية (المعروفة بالقنبلة الهيدروجينية) الأمريكية، وقد أدى الانفجار إلى انطلاق طاقة حرارية انفجارية تعادل 10 ميجا طن (10 ملايين طن) من مادة TNT، أي قوة تفجيرية أكبر بحوالي خمسمائة مرة من قوة انفجار قنبلة هيروشيما، ونجح الروس في تفجير قنبلتهم الهيدروجينية الأولى في أغسطس1953، ثم بدأ سباق محموم أثناء الحرب الباردة حتى تمت تجربة القنبلة التي أطلق عليها اسم «القنبلة القيصر» Tsar Bomba في 30/10/1961، وقد بلغت شدة التفجير ما يقابل 50 ميجا طن TNT (1) على جزيرة «نوفايا زيمليا» في المحيط المتجمد الشمالي، أي إنها تــــعادل ألفيــــن وخمسمائة قنبلة ذرية كتلك التي ألقيت على هيروشيما، وقد يكون ذلك أحد أهم الأسباب لتوقيع الولايات المتحدة  والاتحاد السوفييتي (السابق) في 5/8/1963 معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية. 

وللآن لم يروّض الاندماج النووي للأغراض السلمية، نظراً لشدة التعقيد العلمي والتكــنولوجي لبناء مفاعل الاندماج النووي، الذي يعتمد على فكرة التوكاماك (2)، التي ستصل فيه درجة حرارة البلازما إلى 150 مليون درجة مئوية، وكذلك للارتفاع الهائل للتكاليف، وتتلخص الأسباب وراء رغبة العلماء والمهندسين في التوصل إلى تشغــــيل مفاعــــلات الاندماج النووي في أن وقود مفاعلات الاندماج المستقـــبلية أكثر وفرة وأقل تكلفة، وهو نظائر الهــيدروجين الثقيل، حيث يوجد حوالي 33 ملليجراما من الديتريوم في كل لتر من مياه البحار، وفي أن طاقة الاندماج النووي حوالي 3-4 أضعاف طاقة الانشطار النووي (في مفاعلات القوى المستخدمة حالياً)، كما أنه لن تنتج نفايات مشعة من وقود الاندماج النووي، في حين أن التخلص من النفايات المشعة من وقود الانشطار النووي واحدة من أهم مشكلات مفاعلات القوى النووية (الانشطارية) الحالـــية.

بالنسبة للطاقة الشمسية، تستقبل الأرض من الشمس طاقة بمعدل 174 مليار ميجاوات، تمتص منها حوالي 70 في المائة أي حوالي 122 مليار ميجاوات، وتنتج كل دول العالم حاليا كهرباء (بحسب أحدث إحصاءات متاحة للعام 2012) بقدرة حوالي 5.5 ملايين ميجاوات، أي أقل من 0.0045 في المائة مما تمتصه الكرة الأرضية من الشمس، ولابد من الإشارة إلى أن كل مصادر الطاقة في عالمنا الأرضي (ماعدا النووية) أصلها الطاقة الشمسية(3).

وفي بلادنا العربية تسطع الشمس طوال العام تقريباً، بل تكون شديدة الحرارة لأشهر قد تصل إلى 7 أو 8 خلال العام؛ فلماذا لا نجعل الشمس مصدرنا الرئيس للطاقة والكهرباء؟ إلا أن الموضوع ليس بهذا اليسر، فعند مقارنة مصادر الطاقة المختلفة لاختيار الأفضل منها لابد أن تتم هذه المقارنة في اتجاهين أساسيين: الاقتصاد، والتأثير في صحة البشر وفي البيئة.

بالنسبة للنواحي الاقتصادية نضع في الاعتبار احتياجات الدولة (أو المنطقة) المعينة من الطاقة كمّاً وغرضاً؛ بمعنى كمية الطاقة المطلوبة لمجمل الأغراض سنوياً، ومعدل الطلب عليها وتباين الأغراض من استخدامها (صناعة، نقل وانتقال، إنارة، استخدامات منزلية... إلخ)، وتكلفة إقامة محطات القوى، والقدرة المطلوبة من المحطة أو وحدة التوليد، واحتياجات المحطة للوقود ووفرته وتكلفته، وتكلفة التشغيل والصيانة، بما في ذلك تكلفة التصرف الآمن في مخلفات توليد الكهرباء وتكاليف تكهين المحطة، أي يجب على متخذي القرار أن يأخذوا في الاعتبار عوامل عديدة يمكن تلخيص أهمها في التالي:

< تكلفة الإنشاء الإجمالية (الأرض والمباني والمعدات الرأسمالية، ومعدات توصيل الكهرباء بشبكة التوزيع الرئيسية).

< تكاليف التشغيل والصيانة بما في ذلك مرتبات العاملين والمزايا المالية الأخرى (كالتأمين الصحي والاجتماعي).

< تكاليف الوقود مضافاً إليها تكاليف الحفاظ على البيئة وصحة العاملين والجمهور ضد الآثار السلبية لاستخدام الوقود المعين، مثل تكاليف تشغيل وصيانة معدات معالجة تسرب الغازات الكربونية والكبريتية في محطات الوقود الأحفوري أو فلاتر امتصاص التسربات الإشعاعية ومعالجة الوقود المستهلك في المحطات النووية.

< تكاليف التكهين decommissioning أي تفكيك معدات المحطة وإعادة تدويرها بعد انتهاء عمرها التشغيلي، وقد يتخذ القرار باستخدام خليط من مصادر الطاقة، خاصة لأغراض خدمة منطقة محدودة عند عدم الاحتياج لقدرات عالية(4). 

على مستوى العالم (بحسب أحدث إحصاءات متكاملة متاحة وهي لعام 2012) تم توليد كهرباء بنسب 40.4 في المائة من الفحم والخبث، و22.5 في المائة من الغاز الطبيعي، و16.2 في المائة من السدود على المجاري المائية، و10.9 في المائة (زادت إلى 11.5 في المائة وفقاً للجمعية النووية العالمية WNA: World Nuclear Association في 1/6/2015) من مفاعلات القوى النووية، و5 في المائة من الزيت والسولار، وحوالي 5 في المائة من كل المصادر الأخرى (محطات الرياح بنسبة 2.4 في المائة، بالوقود البيولوجي 1.4 في المائة، بالطاقة الجيوحرارية 0.3 في المائة، بحرق المخلفات والقمامة 0.3 في المائة، بالطاقة الشمسية بنوعيها 0.5 في المائة (بنسبة 50 إلى 1: ما يولد من الخلايا الضوئية PV:photo-voltaic إلى ما يولَّد من تركيز الحرارة concentrated solar power :CSP، وبطاقة أمواج البحار والمد والجزر 0.003 في المائة)؛ علما بأن المستهدف هو الوصول بإسهام الطاقة الشمسية (مع الرياح) إلى 7-9 في المائة في الثلاثينيات  من القرن الحالي.

يظن كثير منا بالخطأ أن توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية أرخص كثيراً من إنتاجها نووياً، إلا أن الواقع غير ذلك، ففي ظل مستوى التطور العلمي والتكنولوجي الحالي (بل والمنظور على الأقل لعقد من السنين) نجد أن توليد الكهرباء من الرياح والطاقة الشمسية مازال مرتفع التكاليف بشكل ملحوظ، حيث تصل تكلفة إنتاج الميجاوات ساعة من هذه المصادر الأخيرة إلى حوالي (250-300) في المائة من تكلفة التوليد من المصادر الأخرى؛ ومع التطور العلمي والتقني يُتوقع خلال السنوات القليلة المقبلة أن تبلغ تكلفة الميجاوات ساعة كهرباء من الطاقة الشمسية الحرارية 300-320 دولاراً يصرف حوالي  80 في المائة منها على الإنشاء، ومن الطاقة الشمسية الضوئية  200-210 دولارات منها حوالي 90 في المائة تكاليف إنشاء، أما محطات توربينات الرياح فسيكلف الميجاوات ساعة كهرباء من «مزارعها» (Wind Plant) القريبة من الشواطئ (onshore) حوالي 100 دولار، ومن تلك البعيدة عن الشواطئ (offshore) ستظل التكلفة عالية في مستواها الحالي: 240 دولاراً، أكثر من  85  في المائة منها للإنشاء، وتبلغ تكلفة إنتاج الميجاوات ساعة كهرباء نووياً 100-120 دولاراً، وتمثل تكاليف الإنشاء 75-80 في المائة من هذا المبلغ. 

تحتاج محطات توليد الكهرباء الشمسية (أو مزارع الرياح) إلى مساحات كبيرة مقارنة بما يلزم لإنشاء محطات القوى النووية؛ وحالياً توجد أكبر مزرعة رياح عاملة في العالم (AWEC)  في ولاية كاليفورنيا بقدرة 1,020MW، وكان قد تم إنشاء ثالث أكبر مزرعة في نهاية 2009، وهي محطة روسكو ROSCOE الأمريكية في ولاية تكساس على مساحة حوالي مائة ألف فدان (400 km2) لإقامة 627 توربين رياح لإنشاء المحطة ذات القدرة  MW781.5؛ وفي مصر حيث يتم توليد حوالي 1 في المائة من الكهرباء من مزرعة رياح الزعفرانة غربي خليج السويس بقدرة حوالي 545 ميجاوات. 

تم في 2006, تخصيص مساحة 656 كم2 (157 ألف فدان) لهذه المزرعة، زيدت في 2009 بقرارين جمهوريين إلى 1229 كم2 (حوالي 300 ألف فدان)، ثم إلى 6418 كم2 (أكثر من مليون ونصف مليون فدان!) في ثلاث مناطق أخرى في صعيد مصر شرق وغرب النيل في محافظات بنى سويف والمنيا وأسيوط، للوصول عام 2025 إلى قدرة كلية مقدارها 2170 ميجاوات، أي ما يقابل قدرة مفاعليّ قوى نوويين
متوسطين (5).

وحاليا تعمل أكبر محطات شمسية ضوئية مركبة في العالم: في كاليفورنيا (Solar Star I2) بقدرة 579 MW وطوباز Topaz و«ديزرت صنلايت» Desert Sunlight كل منهما بقدرة 550 ميجاوات وكوبر ماونتان Copper Mountain بقدرة  458 MW، وفي الصين Longyangxia بقدرة  MW 320 وتحتاج كل منها لملايين الخلايا الضوئية (كألواح المرايا) تُركب على مساحات تبلغ عشرات الكيلومترات المربعة؛ وتعمل أكبر محطة أوربية مفردة  بالقرب من مدينة بوكينغ Pocking  في مقاطعة بافاريا الألمانية بقدرة 10MWe بسلسلة خلايا ضوئية بطول 16.5 كم في منطقة مراعي، كانت حقلاً للتدريب العسكري سابقاً، وتبلغ مساحتها حوالي 18 فداناً؛ وتعمل أحدث وأقوى محطة شمسية حرارية مركبة «إيفانباه» Ivnpah بقدرة 392 MW  بعد إتمام إنشائها في 2014 بالقرب من لاس فيغاس/كاليفورنيا على مساحة 3500 فدان. ذلك في حين يُبنى مفاعل القوى النووي (متوسط القدرة 1000 MW) فقط على مساحة مئات الأمتار المربعة (أو داخل غواصة أو سفينة). 

والآن ما الإجابة عن السؤال/العنوان؟ لا بد لنا في الوطن العربي- والمجتمع البشري - أن ننشئ سلة للطاقة تمتلئ بكل أنواعها بحسب ما ذُكر في بداية المقال، فقد يكون استخدام الطاقة الشمسية (مع مزارع الرياح عند توافر المساحة والمال) مفيدا في المدن المتوسطة والصغيرة والقرى، وللأجهزة المنزلية، أما بالنسبة للمدن الكبرى ولأغراض الصناعة والنقل والمواصلات الكهربية كالقطار وقطار الأنفاق فلا بد من اللجوء إلى محطات القوى العالية القدرة، وعلى رأسها - كما أعتقد - مفاعلات القوى النووية، للابتعاد التدريجي عن الآثار الضارة، إذ تتجه لأن تكون مدمرة للبيئة والبشر- لاستعمال الوقود الأحفوري (الاحتباس الحراري)، وللأخذ في الاعتبار تناقص مخزونه وتنامي أسعاره، واستعداداً لدخول «العصر النووي» الذي نطرق بابه لأكثر من 60 سنة.

(1) ذلك بعد تقليل وقودها قبل التجربة إلى النصف، في الغالب، خوفاً من آثارها التدميرية المتوقعة على البيئة.

(2) الفكرة العبقرية للعالمين الروسيين ساخاروف وتام المقترحة عام 1950 باحتواء الوقود الاندماجي (البلازما) أثناء حدوث عمليات الاندماج داخل الـ «توكاماك» وتتلخص في حبس البلازما داخل نطاق فراغي على هيئة حلقة دائرية المقطع تحدث عمليات الاندماج النووي داخله بوساطة مجال مغناطيسي قوي جداً.

(3) إما مصادر مباشرة (حرارة أو ضوء الشمس)، وإما غير مباشرة كطاقة الرياح التي تهب نتيجة اختلاف الضغط بسبـــب تفاوت درجة الحـــرارة، وبالنسبة للطاقة المائية (من السدود) فالأنــــهار تجـــري نتـــيجة الأمطار من السحب ومن تبـــخر ماء البحر، أمَّا المحــــروقات بكل أنواعها فطاقــــتها شمــــســـية متحولة بعمليات فيزيوكيمــــيائية ومخــــتزنة لسنوات أو قرون. 

(4) كما حدث بالنسبة لمحطة الكريمات (جنوب مصر) التي تستخدم فيها طاقة الوقود الأحفوري بجوار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. 

(5) تبلغ المساحة المخصصة لموقع الضبعة الذي يتــــسع لثمانـــية مفاعلات بــــقـــدرة كلـــــية 8 - 12 ألف مــــيجاوات كـــهــــرباء أي حـــــوالـــي 45 كم2 .