خصوصيات التربية العلمية في الثقافة العربية الإسلامية

تُعدّ‭ ‬التربية‭ ‬العلمية‭ ‬والتقنية‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬القضايا‭ ‬التربوية‭ ‬التي‭ ‬حظيت‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬باهتمامات‭ ‬وأولويات‭ ‬متزايدة‭ ‬من‭ ‬الحكومات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬وذلك‭ ‬ضمن‭ ‬برامج‭ ‬الإصلاح‭ ‬والتطوير‭ ‬التربوي،‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالتقدم‭ ‬المتسارع‭ ‬للعلوم‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬والمطالبة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬بملاحقة‭ ‬هذا‭ ‬التقدم‭ ‬المتسارع‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬ثورات‭ ‬علمية‭ ‬وتقنية‭ ‬متتابعة،‭ ‬وتحقيق‭ ‬أقصى‭ ‬إفادة‭ ‬ممكنة‭ ‬منه‭ ‬لكلّ،‭ ‬أو‭ ‬جُلّ،‭ ‬عناصر‭ ‬العملية‭ ‬التربوية‭ ‬والتعليمية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬الميمات‭ ‬الخمسة‭.‬

الميمات الخمسة هي: المعلم المربِّي، والمتعلِّم المربَِّي، والمنهاج أو المقرر الدراسي، ومكان التدريس والتدريب (المدرسة والمعمل والمدرج،... وما يلزم ذلك كله من معدات وأجهزة وأدوات وتمويل، بالإضافة إلى الإدارة التعليمية الواعية والمؤهلة)، ثم المجتمع الذي يحتضن كل هذه العناصر، ويغذيها ويقويها، وينتظر في الوقت نفسه عائدها ومردودها الإيجابي.

وينعكس هذا الاهتمام العالمي في كثير من التقارير العالمية التي صدرت حول تشخيص الأسباب التي تحول دون إكساب الأفراد قدراً مناسباً من المعارف والمهارات العلمية اللازمة والضرورية لحياتهم الشخصية والمجتمعية، في محاولة لتغيير النظرة السطحية التي أدّت بكثيرين إلى العزوف عن دراسة الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا.

ونشير هنا في هذا السياق، على سبيل المثال والعبرة، إلى التقرير الشهير «أمة في خطر»، الذي جاء لتصحيح العملية التعليمية في الولايات المتحدة، بعد أن استشعرت أن الخطر يهددها أولاً من جهة التعليم. وعلى إثر تراجع ملحوظ في تعليم مادة الرياضيات، أصدر الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية رونالد ريجان البيان رقم 5461 في أبريل 1986 م، الذي يحث  على تركيز الاهتمام بالرياضيات لأهمية دورها في العلوم الحديثة، وتفادي النقص في إقبال الطلبة على دراسة الرياضيات، والعمل على إقامة أسبوع قومي لمادة الرياضيات في أمريكا.

وإن شئنا مثالاً آخر لأحد مظاهر الاهتمام العالمي بالتربية العلمية والتقنية، نذكر ما فعلته اليابان عام 1999م، عندما قامت الوكالة اليابانية للعلم والتكنولوجيا بالبدء في تنفيذ برنامج مدته ثلاث سنوات يهدف إلى زيادة الوعي لدى عامة الناس بالتقدم العلمي والتقني، ويتضمن أوجه نشاط  عديدة ومتنوعة تشمل مهرجانات علمية للشباب، وبها أولمبياد «لأجهزة الروبوت»، إنشاء مكتبات فيديو علمية وتقنية، وبناء متحف علمي جديد باسم Science world وغير ذلك.

ولما كان الارتباط وثيقاً بين مصطلح التربية العلمية والتقنية ونشر التنوير العلمي والثقافة العلمية، فإن من بين المشاريع العلمية العالمية الفريدة والمتميزة التي تهتم ببرامج التربية العلمية ما يسمى ببرنامج «Blossoms»، الإلكتروني العالمي والمجاني على شبكة الإنترنت، والذي يديره معهد «ماساتشوستس» للتكنولوجيا (MIT) وموقعه الإلكتروني http://Blossoms.mit.edu، ويعرف باسم مشروع «المصادر المفتوحة للتعلم المدمج لدراسات العلوم والرياضيات» (Blended Learning Open Source Science Or Math Studies)، وترعاه مجموعة من التربويين المتميزين من مختلف أنحاء العالم لإتاحة العلم للجميع، ويتضمن المشروع مكتبة علمية مرئية تفاعلية لتعليم الرياضيات والعلوم والهندسة، بهدف مساعدة جميع الأفراد والطلاب حول العالم في التواصل مع مجتمعات المعرفة المتقدمة، وكذلك لتدريبهم وإكسابهم – بطريقة تفاعلية مثيرة– مهارات التفكير العليا. ويشترك في هذا البرنامج، مع الولايات المتحدة الأمريكية، كثير من الدول والمؤسسات العلمية والتعليمية حول العالم، من بينها السعودية والأردن ولبنان وباكستان. وبدأ المشروع في المملكة العربية السعودية عام 2011 لإنتاج 20 فيديو تعليمياً تفاعلياً باللغة العربية، ومستوحى من البيئة المحيطة، في مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء.

ويتضح مما سبق أن القاسم المشترك بين العلماء والخبراء والمهتمين بمجال التربية العلمية وتدريس العلوم يتمثل في أنهم يحاولون اقتراح السبل والمداخل غير التقليدية: الجمالية، والجذابة، والتفاعلية، والفعالة، والممتعة، لدراسة العلوم والرياضيات والتكنولوجيا، وربطها وظيفياً بحياة الأفراد والطلاب للاستفادة منها في بناء مجتمع المعرفة والمهارة الذي يتميز به القرن الواحد والعشرون، بعد أن أصبح من غير المقبول أن تتسم مهارة الأداء في أي مجال من المجالات بالشكل على حساب المضمون المعرفي، أو العكس. أما في بلادنا العربية والإسلامية، فإن التربية العلمية والتقنية تتوافر لها، إضافة إلى ما سبق، مقاربات خاصة تمثل قيمة إيجابية عليا مضافة لا تتوافر لغيرها في الثقافات الأخرى. وسوف نعرض يإيجاز بعض هذه المقاربات فيما يلي:

 

فقه‭ ‬المصطلحات‭ ‬وبناء‭ ‬المفاهيم‭ ‬ونموها

إن قضية المصطلح كثيراً ما تثير بعض الإشكاليات التي يطول النقاش والجدال حولها، على الرغم من شيوع مقولة «لا مشاحة في المصطلح». ولا نقصد بكلمة «فقه» هنا معناها الاصطلاحي الذي حدده الفقهاء، وإنما نقصد المعنى اللغوي الذي هو أعمق من مجرد الفهم أو المعرفة، وأقرب إلى معرفة المضمون والمراد الحقيقي. وقد عيب على المنافقين عدم إدراكهم للغرض من الكلام، حيث قال تعالي فيهم: ‮«‬فمال‭ ‬هؤلاء‭ ‬القوم‭ ‬لا‭ ‬يكادون‭ ‬يفقهون‭ ‬حديثا‮»‬‭ (‬سورة‭ ‬النساء‭: ‬78‭)‬. فهم عرب يفهمون قطعاً مدلول الألفاظ وما تحمله من المعاني. لكنهم لمرض نفوسهم وفساد عقولهم، لا يفهمون غرض المخاطب، وهو الله سبحانه وتعالى، أو رسوله –– من خطابه الذي يدعوهم فيه إلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.

وهكذا يكون فقه العلم مثلاً في ثقافتنا العربية الإسلامية هو الإدراك السليم لحقائق الأشياء، وهو معنى مطلق، غير مقيد بتخصيص بعينه، كما هي الحال مع العلم الطبيعي في الثقافة الغربية، الذي جاءت ترجمته Science العربية غير دقيقة رغم شيوعها. فنقول مثلاً: علم الفيزياء، وعلم الفلك، وعلم التاريخ، وعلم التفسير، وغير ذلك من فروع العلم المختلفة.

المهم أن يلاحظ في أسلوب التربية العلمية، وما يتضمنه من مصطلحات ومفاهيم، أن لكل لغة جوهرها وإطارها الفكري الذي يعطي لمفاهيمها ظلالاً ودلالات لا يمكن أن تتطابق مع لغة أخرى. وتظهر هذه القضية بدرجة أوضح في مجال الترجمة العلمية للمصطلحات والمفاهيم من اللغات الأخرى إلى العربية، وأقرب مثال لذلك ترجمة كلمة «أتوم» Atom إلى «ذرة»؛ وصوغ قانون بقاء المادة على الصورة: «المادة لا تفنى ولا تستحدث»، أي لا تخلق من عدم، فهي ترجمة فلسفية حادت بالقانون العلمي عن موضوعيته، وجعلت من المادة ندّاً لخالق المادة، فضلاً عن أوجه اللبس والغموض العديدة التي يسببها غياب فقه المصطلحات والمفاهيم والعلوم بالنسبة لكلمات من قبيل «الحضارة»، و«الثقافة»، و«التربية»، و«المنهجية»، و«العقلانية»، و«التنوير»، و«العولمة»، وغيرها في جانب كبير من الأدبيات الحديثة التي تعالج موضوعات الفكر العالمي عامة، وتنعكس بدلالات وإيحاءات غريبة على الفكر الإسلامي بصورة خاصة.

وينبغي اعتبار هذا المعنى في سعينا لإدراك حقائق الأشياء، ومعرفة جوهر العلوم المختلفة بما تتضمنه من قضايا ومفاهيم ومصطلحات.

 

التربية‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬التوافق‭ ‬

بين‭ ‬الفكر‭ ‬والواقع

إن المعرفة في حد ذاتها تمثل لدى الإنسان حاجة عقلية ملحة تدفعه إلى التماس الحقيقة في كل مظهر من مظاهر الوجود، لكنها في الوقت نفسه تستمد قيمتها من حصيلة مردودها في المجتمع البشري، وتتوقف هذه الحصيلة بطبيعة الحال على درجات استيعاب الإنسان لعلوم عصره، وحسن استخدامه لها وفق مقومات ثقافته ومنهج تفكيره، وفي إطار القيم والمعايير والضوابط التي يرتضيها المجتمع أساساً لتوجيه السلوك ورسم خطى التقدم والرقي.

لذا نجد أن المجتمعات المتقدمة، أو التي تسعى بوعي وإصرار نحو التقدم والمدنية، قد أدركت جوهر العلاقة الوثيقة بين تنمية الإنسان حضارياً، وانتمائه فكرياً وعقائدياً. وأيقنت هذه المجتمعات أن الدعامة الأساسية في تحقيق نهضتها ومواصلة تقدمها يجب أن تقوم على تأصيل ثقافتها وتعزيز قيمها، بما يجعل سلوك الفرد متوافقاً مع الإطار الفكري الذي يحكم حركتها ويحدد أهدافها.

وعادة ما يقع العبء الأكبر في هذا الصدد على المؤسسات التربوية والتعليمية التي تضطلع بتدريس مناهج محددة في مراحل التعليم العام: الابتدائي والثانوي والعالي أو الجامعي، ويكون لها أكبر الأثر في تكوين ثقافة المتعلمين، وتزويدهم بأساسيات المعرفة وأنماط الفهم التي تجعلهم قادرين على الإسهام في البناء الحضاري لمجتمعهم. هذا هو ما تأخذ به دول كثيرة في الشرق والغرب على حد سواء، بصرف النظر عن مدى نضج وصواب الاتجاهات الفكرية أو المذاهب الفلسفية والعقائدية المطروحة في هذا المجتمع أو ذاك. بينما نجد الفجوة واسعة بين الهدف والتطبيق في كثير من الدول النامية، على الرغم من الجهود المبذولة في تعميم التعليم وتوسيع رقعة انتشاره. وتعزو الدراسات العالمية المقارنة هذه الفجوة التي تعوق الانطلاقة التنموية للمؤسسات التعليمية والتربوية، إلى أن هذه الدول النامية قد غدت معرضاً عالمياً كبيراً لأشتات من النماذج والفلسفات التعليمية الوافدة من كل أنحاء العالم الصناعي، وأنها تحاول تطبيقها كما هي، أو مرتدية شعارات التجديد والتطور في بيئة تختلف عن بيئتها الأصلية.

وهنا ينبغي عند الحديث عن أي مشروع تنموي، بما في ذلك التربية العلمية والتقنية المعنية أساساً بتنمية الطاقات البشرية التي تكفل نمو المواهب والقدرات الوطنية، ألا تغفل المجتمعات العربية والإسلامية أهمية البعد الإيماني وتأصيل الثقافة الذاتية، وإذكاء الشعور النفسي القائم على المعرفة الصحيحة لطبيعة العلاقة بين ثلاثية الدين والكون والإنسان.

فالمعرفة تأتي دائماً ثمرة لفكر وعقيدة، ومن ثم فإنها تتجمد في مجتمع يغاير واقعه وفكره وعقيدته.

 

درس‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬التربية‭ ‬العلمية

عندما اختارت «اليونسكو» عام 2005م للتعريف بعلم الفيزياء ومكانته في حياتنا، وجعلت المناسبة مرور مائة عام على اكتشاف الأبحاث المهمة للفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين ونشرها، واختارت شعار الاحتفال «العام الدولي للفيزياء»، دعوت في مقال نشرته جريدة الأهرام المصرية في صفحتها المتميزة «ثقافة» إلى ضرورة العمل على الإفادة القصوى من هذه المناسبة في التعريف بعلم الفيزياء والترغيب في دراسته والوقوف على أحدث منجزاته، وأن نحيط، في الوقت نفسه، من لا يعرف، علماً ببعض إسهامات علمائنا - قديماً وحديثاً– في تقدم العلوم عامة، والعلوم الفيزيائية على وجه الخصوص. وقلت حينئذ إن الفيزياء التي يحتفل بها العالم لم يصنعها أينشتاين وحده، ولكن صنعتها أفكار علماء كثيرين، قبله وبعده، من مختلف الأمم، وفي مقدمها أمتنا العربية الإسلامية.

وفي عام 2015، م احتفلت «اليونسكو» بما هو أقرب إلينا، بالعام الدولي للضوء وتطبيقاته على شرف عبقري الحضارة العربية الإسلامية الحسن بن الهيثم، مؤسس المنهج العلمي التجريبي وعلم البصريات، وصاحب فكرة الجيل الأول لكاميرات التصوير الضوئي، وغيرها، فأين الصدى الإيجابي لكل هذا في عالمنا العربي والإسلامي، وخاصة في مؤسساته التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية؟!

إننا لم نحسن - بعدُ - الإفادة من رصيدنا الحضاري ومخزوننا الروحي والوجداني في تربية أبنائنا وتنوير عقولهم وتأكيد انتمائهم وتحقيق آمالهم في الارتقاء إلى حياة أكثر أمناً واستقراراً وتقدماً.

لقد سبق أن عبر يعقوب برنوفسكي في كتابه «العلم والقيم الإنسانية» (1956م) عن مبدأ مهم مؤداه أنه لا يمكن لثقافة من الثقافات، أو حضارة من الحضارات، أن تضع صنوف فعاليتها ونشاطها الواحد بمعزل عن الآخر، وحينئذ تكون عناصر الثقافة بجميع مستوياتها متغيرة تتبادل التأثر والتأثير، من دون أن تكون مستقلة عن غيرها، بل تتصل فيما بينها كأجزاء من موقف شامل تختلف النظرة إلى زواياه، ولكنها جميعا في النهاية متغيرة متساندة وفق المفاهيم المنهجية.

ونحن من جانبنا ندعو إلى تأسيس فلسفة عربية إسلامية تخصنا نحن معشر العرب والمسلمين، يكون لها إطـارها الفكري المستنير، ورصيدها الحضاري الزاخــــر، وهدفها الإنساني الواعد، نجري على فلكـــها، وندور حول مدارها نحو غاية كـــونية حضارية أسمى... لنا ولغيرنا. ولقد وجدنا هذه الفلسفة التطبيقية الجديدة التي تعبر بصدق عن هويتــــنا، فــــي وحدة المعـــــرفة وتكامــــل الثقافات وتلاقحــــها وتقاطعها، من دون طغـــيان إحداها على الأخرى أو تجاوزها... فتناغم العلوم الطبيعية والتقنية مع العلوم الاجتماعية والإنسانية، وما زخـــرت به العلوم الدينية الإسلامية، يشكل مجمـــوعها نسقاً حضارياً شاملاً ينبغي تســـليط الضوء عليه من دون أن تشغلنا أو تــــشل فاعليتــــنا السلبيات والمعوقات المتوطنــــة في واقعنا المعاصر، فأي واقع يمكن إصلاحه وتجديده، بل حتى تغييــــره إلى الأفضــــل إذا لــــزم الأمر .

المخابر‭ ‬هي‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬للعلم