صعوبة النظرية النسبية حقيقة أم وهم؟

يروى أن أحد زملاء السير  آرثر  أدنغتون، عالم الفلك البريطاني الشهير، قال له ذات يوم: «بروفيسور أدنغتون، لا تكن متواضعاً، فلابد أنك واحد من بين ثلاثة أفراد في العالم فقط، يفهمون النظرية النسبية لأينشتاين. بعد برهة من الصمت أجاب أدنغتون ساخراً: أتساءل: من يكون الشخص الثالث؟!». ويروي إبراهام بيس، كاتب سيرة أينشتاين، أنه عندما عزم أحد الناشرين على نشر كتاب حول النسبية طلب من أينشتاين تأليف الكتاب بنفسه، فوافق على الفور، لكنه حذر الناشر، قائلاً: أخشى ألا يفهم الكتاب سوى 12 فرداً حول العالم.

تشير إجابة السير أدنغتون الساخرة إلى أن عدد من يفهمون نظرية أينشتاين في النسبية هما اثنان فقط؛ السير أدنغتون إلى جانب أينشتاين بالطبع، باعتباره مكتشف النظرية. 
أما الناشر المتحمس فقد دفعته شجاعته إلى نشر كتاب قد لا يفهمه سوى 12 فرداً حول العالم!
عندما ذاع صيت النظرية النسبية في العقد الثاني من القرن الماضي، كان يشاع أن عدد من يفهمونها حول العالم لا يتجاوز 10 أفراد. 
ولكن هل لهذه الشائعات مصداقية، أم هي مجرد مبالغات من نسج خيال الصحفيين؟ وهل النسبية نظرية نخبوية فعلاً يقتصر الإلمام بها على قلة من العلماء أو العباقرة؟.
من حيث المبدأ لا يمكن التكهُّن بدقة عن عدد الأفراد الذين تمكنوا من الإلمام بالنظرية النسبية في الفترة التي أعقبت نشرها قبل حوالي قرن. أما الأرقام المتداولة عن عدد الأفراد الملمين بالنظرية أو القادرين على فهمها فليست إلا وجهات نظر خاصة.
ولكن، حتى لو افترضنا أن هذه الشائعات لا تتمتع بمصداقية، فمما لا شك فيه أن النسبية العامة لم تكن من النظريات السهلة أو المتيسر فهمها أو سبر أغوارها بالنسبة إلى عامة الناس، بل وحتى لكثير من المتخصصين.  ثمة عاملان أساسيان في نظرنا يجعلان النسبية نظرية غامضة يثير اقتحام عالمها الرعب في نفوس الطلاب والباحثين والهواة على حد سواء.
العامل الأول: البنية المفهومية للنظرية    
تعتبر النسبية من النظريات التي تتناقض مع البديهيات Counter Intuitive، وذلك لأنها لا تنسجم مع حواسنا وخبراتنا. 
فعلى سبيل المثال، تقوم النظرية على فكرة دمج المكان والزمان في كيان رباعي الأبعاد يسمى «الزمكان»، وهذا يتناقض بشكل صارخ مع خبراتنا، فنحن اعتدنا النظر إلى المكان والزمان على أنهما كيانان مستقلان تماماً، لذلك فإنه من الصعب، وفقاً لوجهة النظر التقليدية، القبول بفكرة أن الزمان والمكان هما وجهان لعملة واحدة، كما يقول علماء النسبية. 
إن إضافة بُعد رابع إلى الكون عبر دمج الزمان والمكان في كيان واحد تتناقض مع تجاربنا التي تخبرنا أن للكون ثلاثة أبعاد فقط (الطول والعرض والارتفاع). في الواقع، نحن لا نستطيع أن نتخيل كوناً يضم أبعاداً أربعة ربما بسبب الطريقة التي تطورت بها أدمغتنا أو التي تشكل بها وعينا، لكن عدم القدرة على تخيل البعد الرابع لا يعني، وفق النظرية النسبية، أنه غير موجود.
فإذا كان من الصعب إدراك البُعد الرابع من خلال حواسنا مباشرة، فيمكن التعامل معه عبر التجريد الذهني من خلال المعادلات الرياضية. فنحن قادرون على التحقق من وجود هذا البعد بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال التحقق من نتائج وجود هذا البعد على العالم الفيزيائي.
لقد حقق الفيزيائيون، عبر إضافة البعد الرابع للقوانين الفيزيائية، نجاحاً منقطع النظير في تبسيط ووصف عديد من الظواهر الطبيعية بدقة متناهية، حتى أضحى وجود هذا البعد في الكون أمراً غير قابل للجدل في الفيزياء المعاصرة (ثمة نظريات فيزيائية حديثة مثل نظرية الأوتار الفائقة تزعم أن للكون 10 أبعاد لا 4 فقط، ولكن هذه النظرية لم تخضع لأي إثبات تجريبي حتى هذه اللحظة).
ثمة إشكالات أخرى تطرحها النظرية النسبية على وعينا، فوفقاً للنظرية فإن المكان والزمان (الزمكان بلغة النظرية) ينحنيان ويتحدبان بفعل وجود المادة أو الطاقة... ولكن ما الذي يعنيه ذلك؟!
إذا افترضنا أن انحناء المكان أمر قابل للتخيل، فإن فكرة انحناء الزمن لم تنجح في إرساء مناخ من الاسترخاء الفكري بين العلماء أو عامة الناس. 
فهل يمكن اعتبار الزمكان، وفقاً لهذه النظرية، قطعة من القماش تتمدد وتنكمش وتنحني وتتحدب؟!
لقد ذهب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانْت إلى نفي الوجود الموضوعي للزمان والمكان، حيث اعتبر أنهما أطر ذهنية مجردة يصنعها العقل الإنساني من أجل تنظيم الحوادث الكونية بطريقة تمكن الإنسان من استيعاب العالم من حوله، فهل يمكن لهذه الأطر الذهنية، التي تلعب دوراً حيادياً على مسرح الأحداث الكونية وفق رؤيتنا التقليدية، أن تتحول في فيزياء أينشتاين إلى لاعب حقيقي يتفاعل مع الأجسام ويؤثر في حركتها؟!.
أما فكرة نسبية الزمن، فهي واحدة من أكثر الأفكار غرابة في النظرية النسبية، فالزمن وفقاً للنظرية لا يتدفق بشكل متساوٍ بالنسبة إلى المراقبين الذين ينتمون لمراجع فيزيائية مختلفة، فتدفق الزمن يعتمد على سرعة المراقب وحركته بالنسبة إلى إطار مرجعي معين، وهذه الحقيقة كانت معروفة منذ نشر أينشتاين النسبية الخاصة في عام 1905م، غير أن ما أضافته النسبية العامة لموضوع الزمن، هو أن الجاذبية تؤدي إلى إبطاء تدفق الزمن.
إن نسبية الزمن أمر قد تم التحقق منه باستخدام أحدث التقنيات، فلو كان الزمن مطلقاً، وفقاً للنظرية الكلاسيكية، لما نجحت أنظمة تحديد المواقع الجغرافية (GPS) مثلاً في تحديد المواقع بدقة، لأن هذه الأنظمة تم تصميمها وفقاً لمبدأ نسبية الزمن، الذي تقوم علية النظرية النسبية، فقد روعي في أثناء تصميم هذه الأنظمة اختلاف تدفق الزمن بين القمر الاصطناعي وسطح الأرض، حيث إن قوة الجاذبية تختلف بين سطح الأرض القريب من مصدر الجاذبية والقمر الاصطناعي البعيد نسبياً عنها.
إن نسبية الزمن تناقض قناعاتنا الراسخة منذ آلاف السنين، فنحن ترعرعنا على النظرة النيوتونية للزمن المطلق، الذي ينساب بشكل متساوٍ في جميع أرجاء الكون، ولا يتأثر بالجاذبية أو بالحركة. 
نستنتج مما سبق أن البنية المفهومية للنظرية النسبية تشكل عائقاً أمام غير المتخصصين، طالما أن استيعاب المفاهيم النسبوية وفقاً للإطار الفكري الكلاسيكي المستمد من تجاربنا وخبراتنا يعد أمراً متعذراً.  أما المتخصصون من علماء الفيزياء أو الرياضيات، فمن المرجح أن البنية المفهومية للنظرية النسبية لا تمثل عائقاً أمام كثير منهم، خاصة أنهم يتعاملون في كثير من أبحاثهم مع مفاهيم مجردة ومعقدة. 
بيد أن المتخصصين يواجهون معضلة من نوع آخر عندما يقتحمون عالم النسبية الغامض، وتتمثل في البنية الرياضية المعقدة للنظرية النسبية، التي تجعل علماء النسبية يتحدثون بلغة غامضة وغير مفهومة حتى بالنسبة إلى المتخصصين في الفروع الأخرى للفيزياء.

العامل الثاني: البنية الرياضية للنظرية
تتسم النسبية العامة بالجمال، حيث يرى بعض العلماء أنها أجمل النظريات العلمية على الإطلاق، وينبع جمال النظرية في الواقع من بساطتها الساحرة في وصف ظاهرة الجاذبية. 
بيد أن هذه البساطة ليست إلا القمة في جبل الجليد التي تخفي تحتها بنية رياضية مفرطة في التعقيد. تقوم النسبية العامة على فكرة جوهرية مفادها أن الجاذبية ليست قوة بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكنها ظاهرة تنتج من تشوه نسيج «الزمكان» نتيجة لوجود المادة أو الطاقة. 
إن وجود المادة في مكان ما من الفضاء يؤدي إلى انحناء الفضاء حول المادة، وهذا الانحناء هو الذي يسبب حركة الأجسام، فيسمى التأثير المسبب لهذه الحركة «جاذبية» أي إن الجاذبية، وفقاً لأينشتاين، ليست إلا الآلية التي يكشف من خلالها الكون عن بنيته الهندسية.  إن هذه الفكرة البسيطة في محتواها تتحول إلى استراتيجية مفخخة عندما نسعى إلى صوغها رياضياً.
يعود السبب الرئيس في التعقيد الرياضي للنظرية النسبية إلى انحناء الزمكان، فلا يمكن من حيث المبدأ استخدام رياضيات بسيطة في دراسة الأسطح المنحنية، حيث إن استخدام الهندسة المستوية (الإقليدية) في مثل هذه الحالات يغدو عبثاً لا طائل من ورائه.  إن الحاجة إلى التعبير عن الجاذبية كانعكاس لبنية الكون الهندسية بطريقة لا تتغير مع تغيير نظام الإحداثيات Coordinate Systems المستخدم، دفعت علماء النسبية إلى توظيف التنسورات Tensors في دراسة النسبية العامة، والتنسورات هي كيانات رياضية معقدة، يشكل وجودها في معادلات النسبية العامة أحد أهم العوامل في زيادة تعقيد البنية الرياضية للنظرية.
إن دراسة النسبية العامة بعمق تحتاج إلى الإلمام بفروع متقدمة في الرياضيات كالهندسة التفاضلية وهندسة ريمان، وقد كان أينشتاين نفسه غير ملمّ بشكل كافٍ بهذه الفروع، فالثابت لدى مؤرخي العلم أن أينشتاين استعان بصديقه عالم الرياضيات مارسيل غروسمان لدراسة هندسة ريمان، وهي نوع من الهندسات غير الإقليدية التي وظفها أينشتاين في صوغ نظريته في النسبية العامة.
ثمة معضلة رياضية أخرى في النظرية، تتمثل في صعوبة إيجاد حلول لمعادلات المجال field Equations، وهي مجموعة من المعادلات التفاضلية غير الخطية تصف العلاقة بين المادة والطاقة من جهة وهندسة «الزمكان» من جهة أخرى، ولا شك في أن أي فرد تلقى تدريباً جامعياً في الرياضيات يدرك مدى صعوبة حل المعادلات التفاضلية، خاصة إذا كانت غير خطية. 
في الواقع، لا توجد حلول عامة لمعادلات المجال، فالحلول التي أوجدها العلماء والباحثون حتى الآن تمثل حالات محددة مبنية على عدد من الافتراضات التبسيطية. لكن المفارقة أنه على الرغم من صعوبة هذه المعادلات، فإن أول حل لها اكتُشف بعد نشر أينشتاين أبحاثه حول النظرية النسبية بأسابيع قليلة فقط، حيث اكتشف عالم ألماني مغمور يدعى كارل شوارزشيلد أول الحلول لمعادلات النسبية عندما كان مجنداً في الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى (لعل هذا الاكتشاف المبكر يفند مزاعم أدنغتون من أنه هو وأينشتاين فقط يفهمان النظرية النسبية، إلا إذا كان شوارزشيلد قادراً على حل المعادلات من دون أن يفهم محتوى النظرية!).

هل «النسبية» معقدة؟
بعد هذا الاستعراض للتعقيدات التي يمكن أن تواجه دارس النظرية النسبية، نعود إلى التساؤل الذي طرحناه في بداية هذا المقال... هل لاتزال النظرية النسبية معقدة ونخبوية ولا يفهمها إلا أفراد معدودون حول العالم؟ هل ما كان صحيحاً في بداية القرن العشرين لايزال صحيحاً اليوم بعد انقضاء قرن من الزمن على اكتشاف النظرية؟
الإجابة هي لا بالطبع، حيث يوجد اليوم كثير من الباحثين من علماء الفيزياء والرياضيات الذين ينتجون أبحاثاً جديدة وعميقة حول النظرية النسبية، كما أن النظرية اليوم تدرس في آلاف الجامعات حول العالم. إضافة إلى ذلك فإنه يتوافر في المكتبات عديد من الكتب الشعبية والمتخصصة، التي تشرح النظرية بمختلف لغات العالم. 
وإذا كان الإلمام العميق بالنظرية غير ممكن من دون دراسة بنيتها الرياضية المعقدة، فإن الإلمام بالمبدأ العلمي الذي تقوم عليه النظرية متيسر من دون الحاجة إلى الرياضيات. 
وقد كان أينشتاين نفسه من المؤمنين بشدة ببساطة العلم (بالرغم من تحذيره لناشر كتابه حول النسبية من صعوبة فهم الكتاب!)، حيث كان يرى أن النظريات العلمية يمكن فهمها وتبسيطها لعامة الناس من دون الحاجة إلى إغراقهم بالتعقيدات الرياضية التي لا يحتاج إليها سوى الباحث المتخصص .