الجزائري إلياس الزرهوني ... شخّص السرطان وترقق العظام بالأشعة

افي‭ ‬كل‭ ‬مرّة‭ ‬كنت‭ ‬تناقشني‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة‭ ‬تحتكر‭ ‬العلوم،‭ ‬وأنها‭ ‬تمتنع‭ ‬عن‭ ‬نقلها‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭ ‬تحت‭ ‬ذريعة‭ ‬حقوق‭ ‬الملكية‭ ‬الفكرية‭ ‬وبراءات‭ ‬الاختراع‭ ‬المملوكة‭ ‬للشركات‭ ‬الكبرى‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬ربما‭ ‬كنت‭ ‬محقاً،‭ ‬لكن،‭ ‬هل‭ ‬فكّرت‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬استعداد‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬ذاتياً‭ ‬لاستقبال‭ ‬العلوم‭ ‬الحديثة‭ ‬وتطوّراتها‭ ‬المتلاحقة‭ ‬بسرعة‭ ‬الضوء؟‭ ‬هل‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬متطوّر‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التجاوب‭ ‬فعلياً‭ ‬مع‭ ‬إيقاع‭ ‬تقدم‭ ‬وارتقاء‭ ‬العلوم‭ ‬عالمياً؟‭ ‬كم‭ ‬تنفق‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬البحوث؟‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬هي‭ ‬مستعدة‭ ‬للتفاوض‭ ‬مع‭ ‬الشركات‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬براءات‭ ‬الاختراع؟‭ ‬وهل‭ ‬لديها‭ ‬خطة‭ ‬للاستفادة‭ ‬علمياً‭ ‬وعملياً،‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬البراءات،‭ ‬إذا‭ ‬حصلت‭ ‬عليها؟ب‭. ‬

انهمرت‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة‭ ‬من‭ ‬لسان‭  ‬العالِم‭ ‬الأمريكي‭ - ‬الجزائري‭ ‬إلياس‭ ‬الزرهوني،‭ ‬أثناء‭ ‬لقاء‭ ‬مع‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬علمي‭ ‬دولي‭ ‬نظّمته‭ ‬امكتبة‭ ‬الإسكندريةب،‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2010‭.‬

 

التصوير‭ ‬بالأشعة‭: ‬من‭ ‬التشريح‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬الأعضاء‭ ‬والجزيئات

غادر الزرهوني (مواليد بلدة ندرومة، 1951) الجزائر في سن الرابعة والعشرين، بعد أن نال بكالوريوس الطب (1975) من جامعتها، ثم نال منحة لمتابعة الدراسات العليا في جامعة «جون هوبكنز» الأمريكية، وفي عام 1985، أصبح بروفيسوراً في تلك الجامعة، ثم صار نائباً لعميد كلية الطب فيها، إضافة لكونه رئيساً لقسم التصوير بالأشعة فيها.

وبذا انفتح المجال أمام الزرهوني كي يركّز بحوثه المتقدمة على التصوير الطبقي المحوري بوساطــة الكمبيوتر Computerized Axial Tomography، واختصاراً «كات» (CAT)، ثم «التصوير بالرنين المغناطيسي» Magnetic Resonance Imaging «إم آر آي» (MRI). وابتكر طريقة للتصوير بالأشعة باستخدام الـ«كات» والـ«إم آر آي»، واشتغل مع فريق علمي من أجل تطوير الـ«إم آر آي» من كونه مجموعة صور تُظهر التركيب التشريحي للجسم وأعضائه، ليكون أداة في التعرّف إلى طريقة عمل الأعضاء، بل حتى التراكيب الجزيئية الدقيقة في الأنسجة.

وأثناء رئاسته قسم الأشعة في كلية الطب بـ«جامعة جون هوبكنز»، قاد الزرهوني جهوداً علمية أدت إلى تطوير الـ«إم آر آي» كي يعطي صوراً ثلاثية الأبعاد، ما مكّن أعين الأطباء من التطلع إلى بواطن الجسم وأعضائه وكأن عيونهم مبثوثة في دواخلها فعلياً. ومع جهود الزرهوني وفريقه، ظهرت أيضاً صور الرنين المغناطيسي الثلاثية الأبعاد التي ترصد الأعضاء والأنسجة أثناء عملها وحركتها، ولا تكتفي بمجرد التوقف عند صور جامدة بأبعادها الثلاثة. واستفاد أطباء القلب والرئتين في تلك الجامعة، قبل غيرهم من التقنيات التي طوّرها الزرهوني، ما بدّل كثيراً في طرق تعاملهم مع أمراض القلب والشرايين، وكذلك سرطان الرئة، وهي من الأسباب الأكثر شيوعاً للمرض والوفاة في الولايات المتحدة الأمريكية.

ويسجَّل للزرهوني أن تلك التقنيات في التصوير بالأشعة التي طوّرها في «جامعة جون هوبكنز»، لقيت رواجاً عالمياً ضخماً. وفي شبه إغماضة العين، باتت «الأفلام» الثلاثية الأبعاد بالأشعة (سواء بطريقة الـ«إم آر آي» أو الـ«كات»)، أداة رئيسة في تشخيص مجموعة كبيرة من الأمراض، وخصوصاً السرطان، وسجّل الزرهوني إنجازاته في ثماني براءات اختراع مسجَّلة في الولايات المتحدة، إضافة إلى 157 بحثاً علمياً موثقاً ومراجعاً، ما يجعلها نقطة مرجعية في طب الأشعة.

ومن الإنجازات البارزة التي تسجَّل للزرهوني، تطويره تقنية الـ«إم آر آي»، وهي وسيلة للتشخيص المبكّر للأمراض السرطانية، عبر تحديد نسبة الكالسيوم في الأنسجة المصابة، ما جعل هذه الطريقة بديلاً عن طرق تقليدية، مثل أخذ خزعة بالطرق الجراحية، من أعضاء المريض. وفي السياق عينه، استعمل تلك الوسيلة لقياس كثافة العظم، الأمر الذي ساهم في تشخيص مرض ترقق العظام، وهو مرض شائع عند النساء وكبار السن.

ونال الزرهوني، الذي احتل مجموعة كبيرة من المناصب العلمية المرموقة، الميدالية الذهبية من «الجمعية الأمريكية لأشعة رونتجن»، وحاز مرتين جائزة «بول لوتربور»، وميدالية «فيلق الشرف» من «الرابطة الوطنية الفرنسية»، وغيرها.

وطبّق الزرهوني ابتكاراته في علاج الرئيسين الجزائري السابق هواري بومدين، والأمريكي السابق رونالد ريغان. وكذلك أسّس خمس شركات طبيّة خاصة، لعل أبرزها «مجموعة الزرهوني المحدودة للاستشارات العالمية للعلوم والصحة». ووصفها الزرهوني بأنها مؤسسة دولية تعنى بتخطيط برامج العلوم والصحة، بالتعاون مع حكومات وشركات متعددة الجنسيات، عبر تزويد هذه الأطراف بالبحوث والخبرات والتقنيات العلمية الحديثة.

ووصل إلى منصب مدير لـ«معاهد الصحة الوطنية» في الولايات المتحدة، وهي أضخم مؤسسة لبحوث البيولوجيا عالمياً، وتزيد ميزانيتها على 30 مليار دولار سنوياً، وتضم الهيئة 27 مركزاً للبحوث، يعمل فيها 18 ألف موظف بينهم 6000 باحث. وتموّل «معاهد الصحة الوطنية» بحوثاً يجريها قرابة 325 ألف شخص في ما يزيد على 3100 جامعة ومؤسسة علمية.

في عام 2002، كرّم الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش العالِم الزرهوني بتعيينه مديراً لـ«معاهد الصحة» بين عامي 2002 و2008. وكُرّر تكريمه من البيت الأبيض في عام 2010 عندما عيّنه الرئيس الديمقراطي باراك أوباما مندوباً علمياً لأمريكا في دول شمال إفريقيا (باستثناء مصر) والخليج العربي، ويعطي تكريم عالِم عربي من قبل رئيسين أمريكيين متناقضين حزبياً، أنموذجاً عن كيفية تعاطي الدول المتقدمة مع العلم والعقول العلمية.

في أكثر من حديث، لفت الزرهوني
إلى مساعٍ تبذلها دوائر علمية أمريكية وغربية، لنشر المعرفة العلمية عالمياً، خصوصاً عبر الإنترنت.

وأوضح أن تلك المساعي تتصارع مع معارضة قوية من مؤسسات وقوى في أمريكا والغرب، لكنها لم تفتّ في عضد الساعين إلى نشر المعرفة العلمية، بل أعطتهم رؤية واقعية لأمور العِلم وعلاقته بالسياسة واستراتيجيات الدول، ومع الشركات العملاقة وسطوتها.

 

حريّة‭ ‬المعرفة

في استعادة لتجربته في نشر المعرفة، أكّد الزرهوني أنه تابع جهوداً لنشر المعرفة عبر الإنترنت، انطلقت على يد مَن سبقه مباشرة في إدارة «معاهد الصحة الوطنية»، وهو البروفيسور الأمريكي هارولد فارمس، الحاصل على جائزة نوبل في الطب. وأوضح الزرهوني أنه عمل بدأب على جعل قواعد البيانات الإلكترونية التي تموّلها «معاهد الصحة الوطنية» متاحة بشكل مفتوح على الإنترنت. ولفت إلى أنه توسّع كثيراً في تجربة نشر البحوث العلمية على الشبكة الإلكترونية الدولية، من خلال مواقع مثل «بلوس.أورغ» (Plos.Org)، الذي أسّسه فارمُس، ونقلها إلى مستوى أعلى. وبيّن أنه أنشأ «مكتبة الوصول العام» (Public Access Library)، أثناء إدارته تلك المعاهد. وتضع هذه المكتبة الإلكترونية كميات ضخمة من البحوث وبراءات الاختراع على الإنترنت، بشكل مفتوح للعموم.

في اللقاء المشار إليه آنفاً في «مكتبة الإسكندرية» (2010)، ضرب الزرهوني مثالاً معبّراً: «قبل أن نسأل الدول الصناعية والشركات عن نقل المعرفة، وهو سؤال صحيح، يجب التنبّه إلى مدى الجهوزية الذاتية للدول النامية لتلقي العلم، سأعطيك مثالاً واضحاً يتعلق بالمعلومات عن المجين «الجينوم» (Genome)، إذ جُعلت تلك المعلومات الضخمة والمتقدمة في قواعد بيانات إلكترونية مفتوحة على الإنترنت، بمبادرة من الرئيس بل كلينتون، منذ بداية القرن الـ21. ما الدول التي استفادت منها، ودخلت إلى تلك القواعد؟ في المقدمة هناك الصين والبرازيل والهند والكوريّتان، في حين لا يزيد نصيب الدول العربية من الدخول على قواعد بيانات الجينوم على 1.5 في المائة! هل يدل ذلك على استعداد علمي عربي لتلقي العلوم المعاصرة؟» .