الآفاق الواعدة لجراحات النانو

عما قريب، ستكون الروبوتات النانوية Nanorobots جاهزة لدخول الجسم البشري وشن الحرب ضد البكتيريا، والسرطان، والعديد من الأمراض الأخرى. وقد صمّم العلماء بالفعل معظم محتويات صندوق الأدوات الطبية الذي ستستخدمه تلك الروبوتات النانوية، أما الآن، فقد شرعوا في تطوير المحركات ومعدات الملاحة اللازمة، لقد أكملت الممرضات إجراء الفحوص قبل الجراحية، وينتظر المريض بدء العملية الجراحية، وأخيراً، سيفتح باب غرفة العمليات، ويدلف إلى الغرفة مليونا روبوت نانوي في أمبولة زجاجية موضوعة على عربة يدفعها أحد المساعدين.

فور أن يــــقوم كبــير الجراحين بحـــــقن الــــسائـــل الصـــــافي الــمحــــتوي على الروبوتات الصغيرة في أحد الأوعية الدموية للمريض، تتجه الــــروبــــوتات صوب الدماغ، حيث تتمثل مهمتها في إزالة خثرة دموية، تتعاون الروبوتات في ما بينها على نحو فعال، فبعضها يقود الفريق إلى الخثرة الدموية، ويقوم في الوقت نفسه بإرسال الإشارات، ما يسمح بمشاهدة العملية الجراحية على شاشات تلفازية مثبّتة في غرفة العمليات، في حين تم تزويد البعض الآخر بكلابات تُشبه الكماشة، تقبض على الخثرة الدموية، وتلتصق بها، أثناء قيام الجراحين الروبوتيين بتقطيعها إلى قطع صغيرة باستخدام المباضع الحادة. يتم تجميع القطع بواسطة ذراع قابضة، ثم يتم تحميلها في وعاء، في حين تقوم روبوتات نانوية أخرى بحقن العقاقير مباشرة في الأنسجة المصابة، ما يعزّز قدرتها على الشفاء. وبعد العملية الجراحية الناجحة، تدلف الروبوتات النانوية إلى حالة خاملة، ثم تتدفق في مجرى الدم لتُطرح من الجسم لاحقاً، تستغرق الجراحة أقل من نصف ساعة، قد يمثل هذا أحد السيناريوهات المحتملة لعلاج الخثرات الدموية (وغيرها من العمليات الجراحية الأخرى) في المستقبل.
وقد تمكّن العلماء بالفعل من تطوير روبوتات ضئيلة الحجم وإطلاقها في جسم الإنسان، فمنذ سنوات عدة يستخدم الأطباء روبوتات نانوية شديدة البساطة، يمكنها القضاء على خلايا السرطان عن طريق حرقها دون الإضــــرار بالأنــــسجة السليمة المجاورة، لكن التحدي الحقيقي هو تطوير روبوتات قادرة على التحرك في الجسم من تلقاء نفسها، والعثور على الأنسجة المريضة، واستخدام أدوات صــــغــــــيرة لإجـــــراء الجراحات الدقيقة من خلال العمل مباشرة على الأورام، أو الخثرات الدموية وغيرها، أما اليوم، فإن النماذج البدئية جاهزة للتجارب العملية، وبات من الممكن تزويد الروبوتات المتطورة بخصائص فريدة للغاية. 

تقطيع القِطَع 
هناك عديد من المزايا الواضحة لجراحات النانو الروبوتــية، فمــــعظم  الأمـــراض تحدث بسبب وجود خلل في إحـدى الـــخـــــلايا  أو فـــــي أحد مكونات الخلية الصغيرة، ونتيجة لذلك، فإن كثيراً ما يكون من المستحيل على الأطباء والجراحين أن يعملوا على مستوى الخلايا المريضة، لقد تم تصميم معظم الأدوية بحيث تكون فعالة ضد أنواع معينة من الخلايا، ولكن عندما يعطى هذا الدواء في صورة أقراص أو حقن، فإنه يؤثر على كامل الجسم، ما يزيد بشكل ملحوظ من خطر وقوع الآثار الجانبية، ويحلم العلماء منذ فترة طويلة بأن يصير بوسعهم إجراء الجراحات وحقن الأدوية عميقاً بداخل الجسم، وفي الأنسجة المريضة مباشرة، وفي الأنسجة المريضة وحدها، وإذا تواصلت النتائج العلمية الأخيرة فقد يتحقق هذا الحلم قريباً.
وقــــد تحــــــقّق أحــــــد الفتوحات الكبرى في هذا المجال في العام 2006، عندما نجح بول روثموند من معهد كاليفورنيا للتكـــنولوجيا في ثني أحد طيقان الحمض الريبي النووي المنزوع الأكسجين (الدنا: DNA) إلى شكل يمكن التحكم فيه، ومنذ ذلك الحين أصبح الدنا من اللبنات المفضـــلة للروبوتات النانوية لدى العلماء، ويمكن حَبْك ونسج الدنا وربطه بالجزيئات في صور مختلفة، ما يجعله مثالياً كهيكل بنيوي لروبوت نانوي، ومنذ ذلك الحين تم استخدام الدنا في بناء روبوتات نانوية على شكل حاويات حاملة للأدوية، وقد تحقّق تقدم كبير آخر عندما تمكن العلماء من الاستفادة من قدرة بعض البروتينات على الارتباط بجزيئات معينة. وبـــوســــع  العلماء استخدام هذه التكنولوجيا في تطوير روبوتات نانوية، والتي يمكنها القبض على الخلايا السرطانية أو الإمساك بأي خثرة دموية. 

تزويد الروبوتات بالطاقة 
من بين أكبر التحديات الهندســــية الـــــتي تواجه تكنولوجــــيا الــــنانو تمكين الروبوتات النانوية من الـــــتــــحرك عـــــــبر أرجاء الجسم،يجب أن يكون أولئك الجراحون النانويون مزودين بنوع من المحركات والوقود ومعدات الملاحة حتى يتمكنوا من الوصول إلى الأنسجة المريضة، وعلى أي حال فقد قطع العلماء شوطاً لا بأس به في سبيل حل هذه المشكلات، ففي عام 2010، تمكن تشانغ ليانغ فانغ وجوزيف وانغ من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو من تطوير نموذج لمحرك فعال جداً يمكن أن يسيّر الروبوتات النانوية.
يستخدم هذا الروبوت النانوي الذي يشبه في شكله الصاروخ، بيروكسيد الهيدروجين (H2O2) كوقود، ويتألف المحرك النفاث لهذا الصاروخ من طبقات من أربعة معادن، البلاتين، والذهب، والحديد والتيتانيوم. وعند وضعه في سائل يحتوي على محلول ضعيف من بيروكسيد الهيدروجين فإن المحرك يمتص الوقود من خلال فتحته الأمامية، ثم يفصله إلى الماء والأكسجين، وبالتالي تندفع الآلاف من فقاعات الهواء الصغيرة عبر ذيل الصاروخ. ومن شأن هذا المحرك تزويد الروبوت النانوي بقدر كبير من الطاقة بحيث يمكنه التحرك بسرعة ليصل إلى ملليمترين في الثانية، ربما لا يبدو هذا سريعاً، ولكن بالنظر إلى حجمه فهو يشبه قيادة سيارة بسرعة 600 كلم/ ساعة. 
وكذلك فإن فصل بيروكسيد الهيدروجين إلى مكوّناته يوفر القوة الدافعة لمحرك نانوي آخر طوره علماء في جامعة ولاية بـــنــسلفانــــيا الأمـريكية، يتكون المحرك من قضيب معدني صغير يحتوي على البلاتين في المقدمة والذهب في الخلف. ينقسم بيروكسيد الهيدروجين إلى الأكسجين واثنين من البـــروتـــونات والإلكترونات الحرة، عندما يتلامس مع البلاتين. وبعد الانقسام فإن الإلكترونين يتحركان عبر القضيب المعدني وصولاً إلى الذهب في الخلف، حيث يواجهان البروتونين اللذين قطـــعا الــرحلة نفسها، ولكن على الجزء الخارجي من الـــقضـــيب المـــعـدني، والآن  يتـــحد البروتونان والإلكترونان مع بيروكسيد الهيدروجين، مما ينتج عنه توليد جزيء من الماء، يتم تكرار العملية، ما يخلق زخماً حركياً يدفع القضيب المعدني عبر السائل بسرعة مقابلة لقيادة سيارة بسرعة 180 كلم/ ساعة.
وفي حين ظل بيروكسيد الهيدروجين حتى الآن الوقود المفضل للاستخدام في الروبوتات النانوية، فقد يوفر ســـــكر الــــــدم طـــاقـــــة  حــــركية للروبوتات في المستقبل، ويوجد الجلوكوز في الدم بصورة دائمة، ويمكن استقلابه عن طريق الاستفادة من الأكسجين الذي تحمله كريات الدم الحمر، ووفقاً للحسابات التي أجراها روبرت فريتاس من معهد التصنيع الجزيئي في بالو ألتو، فمن الممكن استخدام هذا المبدأ من قبل روبوت نانوي لتوليد ما لا يقل عن 10 بيكوواط من الطاقة، قد يبدو هذا منخفضاً جداً، لكنه يمثل في الواقع قدراً من الطاقة يزيد بعشرة آلاف ضعف على الكمية التي تستخدمها جراثيم الإشريكية القولونية عندما تسبح مستخدمة سياطها، وعند هذه المرحلة لم يتم بعد صنع نموذج بدئي للروبوتات النانوية التي تعمل بطاقة الجلوكوز، فالأمر لا يزال يشكل نظرية يصعب تنفيذها.

هل تنتفي الحاجة الى البطاريات؟
هناك عديد من تصاميم الــــروبــــوتات الـــــــــــــنانـــوية التي لا تحتاج في الواقع إلى إمدادات خارجية من الطاقة، فباستــخدام عـــمليات بيولوجية وكيميائية مفهومة جيداً يمكن جعل الكماشات النانوية تقضم، كما يمكن لساق الروبوت النانوي اتخاذ خطوة إلى الأمام من تلقاء نفسها، وذلك ببساطة عن طريق الاستفادة من التفاعلات الكيميائية التي تتم على المستوى الجزيئي. وفي العام 2012 استخدم مـــيلان ستويانوفيتش من جامعة كولومبيا في نيــويورك هذا المبدأ لتصميم روبوت نانوي بالغ الصغر، يشبه عنكبوتاً ثلاثي الأرجل، لا يزيد طول العنكبوت النانوي على أربعة نانومترات، وهو أصغر بخمسة ملايين مرة من العنكبوت العادي. أما سيقانه الثلاثة فمصنوعة من طيقان منفردة قصيرة من الدنا، يكون الدنا في العادة جزيئاً مزدوج الطاق، يتكون من طاقين متقابلين يسعى أحدهما دائماً للانضمام إلى الآخر.
وعلى أي حال فإن سيقان الروبوت المصنوعة من الدنا هي وحيدة الطاق، وبالتالي ستتمدد باستمرار، بحثاً عن طاق الدنا المتوافق معها، وعند إطلاق روبوت نانوي على سطح من الدنا المفرد الطاق، فهو يقوم بتحريك أرجله الثلاث الضئيلة خطوة فخطوة، وبهذه الطريقة، يمكن للعنكبوت أن يتحرك إلى الأمام بسرعة 180 نانومتر/ ساعة، وهو ما يقابل حركة عنكبوت عادي بسرعة متر واحد في الساعة، وعلى أي حال فإن العلماء لا يكتفون باستخدام جزيء الدنا لتشغيل العنكبوت، إذ يستخدمون الشفرة الوراثية للدنا كخريطة، والتي يمكن للعنكبوت أن يتحرك مسترشداً بها، وبالتالي فقد أظهر ميلان ستويانوفيتش وزملاؤه أنه يمكن التحكم في حركات العنكبوت النانوي عن طريق رصف طريق مؤلف من العديد من متواليات الدنا المفرد الطاق، تتوافق بدقة في سيقان الروبوت، حيث يقوم العنكبوت النانوي باتباع درب الدنا الذي وضعه الجراح. وبهذه الطريـــقة يمكن للعلماء الــتحــــكم في الروبــــوت بحــــيث يتحرك إلى الهدف مباشرة أو يتبع طريقاً بــديلاً، ينعطف مرة أو مرتـــيـــن أثناء الطريق.