حاسوب الكم ... حلم بدأ يتحقق

يستخدم الحاسوب النظام العددي الثنائي، وهو بالتالي بحاجة إلى رقمين أو حالتين مختلفتين فقط، ويختلف هذا النظام تماماً عن النظام العشري الذي نستخدمه في حياتنا العملية، واستخدمت الأنابيب المفرغة من الهواء Vacuum Tubes في صناعة حاسوب أربعينيات القرن الماضي لهذا الغرض. والأنبوب المفرغ من الهواء يشبه في حجمه مصباح الإضاءة العادي، ويمكن من خلاله التحكم في حركة الإلكترونات، وبالتالي التيار الكهربائي، فيمكن أن يمر  التيار  الكهربائي من خلاله ويرمز لذلك بالرمز (1)، أو يمنع مروره ويرمز لذلك بالرمز (0).

 كان حجم الحاسوب في تلك الفترة كبيراً جداً ويشغل قاعة كبيرة ويستهلك طاقة عالية، وكان أيضاً سريع العطب، بسبب تركيب الأنابيب المفرغة، وقد حالت هذه المشكلات دون تطوير حاسوب تلك الفترة، وأوقف عن العمل بعد محاولات وتجارب مضنية عدة.
كان اختراع الترانزستور عام 1947 نقلة نوعية في الصناعات الإلكترونية، وخاصة الحاسبات، فهو صغير الحجم (كان يقاس بالملليمتر) ويستهلك طاقة صغيرة ورخيص الثمن، ويقوم بمهمة الأنبوب المفرغ بكفاءة عالية.
وقد حصل العلماء الثلاثة الذين شاركوا في اكتشاف طريقة عمله، وهم: باردن J.Bardeen وبرايتن W.H Brattian وشوكلي S.Shockley على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1956.
يستخدم الترانزستور في الحاسوب كمفتاح Switch يسمح بمرور التيار الكهربائي (1) أو يمنع مروره (0). 
وتطورت الصناعات الإلكترونية بعد ذلك بصورة كبيرة وسريعة، فاخترع كيلبي G. Kilby عام 1958 الدوائر التكاملية Integrated Circuits LC، وحصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2000 على هذا الاختراع العظيم. 
وتحتوي الدوائر التكاملية على أعداد كبيرة من العناصر الإلكترونية، وخاصة الترانزستورات، في مساحة صغيرة، ثم تطورت صناعة هذه الدوائر لتحتوي على أعداد أكبر وأكبر من الترانزستورات، وغيرها من العناصر الإلكترونية، وظهر الحاسوب الشخصي رخيص الثمن وانتشرت الحاسبات بصورة كبيرة جداً.
 ومع التطور وصغر حجم العناصر الإلكترونية، وخاصة الترانزستورات، أمكن وضع أعداد كبيرة جداً منها في شريحة المعالج، ويمكن لشركة إنتل InteL أن تضع في الوقت الحاضر مليارات الترانزستورات في معالجاتها.

قانون مور
لاحظ المهندس ورجل الأعمال الأمريكي مور Moore، وهو من مؤسسي شركة إنتل وأحد مديريها، أن حجم الترانزستورات وبقية العناصر الإلكترونية يتناقص مع الوقت، ويمكن بالتالي زيادة عددها على الشريحة نفسها، وتبين له عام 1965 أن أعداد هذه العناصر تضاعفت على شريحة السيليكون نفسها سنوياً منذ اكتشاف الدوائر التكاملية، أي خلال الفترة من 1958 إلى 1965. 
وقد حدث بطء في النمو والتطور بعد تلك الفترة، وتم تحديث أو تطوير القانون المعروف باسم قانون مور، ليتضاعف عدد العناصر الإلكترونية على الشريحة نفسها بعد مرور عام ونصف العام. 
لقد بدأ الترانزستور بطول يقاس بالملليمترات، وهو يقاس الآن بالنانومتر (أصغر بمليون مرة)، وكان طوله عام 2012 حوالي 22 نانومتراً، ويتوقع الخبراء أن يصل العام الحالي إلى حوالي 10 نانومترات.
 ومع التطور، فإن هذا الطول سيتناقص، ويتوقع الخبراء أن يصل طوله إلى ما يقارب نصف قطر الذرة بعد حوالي عشر سنوات أو أقل. 
وستكون الأمور مختلفة تماما في هذه الحالة، إذ إن القوانين التي تحكم الأنظمة الصغيرة جداً أو الميكروسكوبية (مثل الفوتونات والإلكترونات والذرات والجزيئات) مختلفة تماماً عن القوانين العادية التي تحكم الأنظمة الكبيرة العادية مثل الترانزستورات. وفي الحقيقة، فلا يمكننا استخدام القوانين الكلاسيكية لدراسة الذرات ونستخدم بدلا منها ميكانيكا الكم quantum mechanics التي يعتبرها البعض أعظم ما أنتجه العقل البشري، وسنبين الفرق الجوهري بين الحالتين لاحقاً.
إن الدول تتسابق في صناعة حواسيب سريعة بقدرات عالية، ويعتبر حاسوب الصين Sunway Taihulight supercomputer أعظم وأسرع الحواسيب الكلاسيكية في الوقت الحاضر، حيث يستخدم ملايين المعالجات المتصلة مع بعضها بعضاً، وتقدر سرعته بحوالي 93 ألف مليون مليون عملية في الثانية الواحدة، وهي ثلاثة أضعاف سرعة الحاسوب المنافس.
يشغل الحاسوب مساحة تعادل مساحة نصف ملعب كرة قدم، ويستهلك 20 مليون واط من الطاقة، وهي كافية لاستخدام بلدة صغيرة، وقد كلف هذا الحاسوب حوالي 400 مليون دولار.

الفرق بين الترانزستور والذرة
تسمى الوحدة الأساسية للمعلومات في الحاسوب الكلاسيكي العادي بت Bit، وهي إما (1) أو (0). 
وتعتمد نظرية هذا الحاسوب على اليقينية، فالترانزستور إما أن يمرر التيار الكهربائي (1) أو لا يمرره (0)، ولا يوجد احتمال آخر.
 أما نظرية الكم التي تعالج الذرات فتعتمد على الاحتمالات، وتسمى الوحدة الأساسية للمعلومات في هذه الحالة بت كمية Qubit، ويمكن أن تكون إما (1) أو (0) كما في الحالة السابقة، ويمكن أن تكون أيضا في حالات أخرى جديدة مزيجاً من الحالتين السابقتين بنسب مختلفة.
 تكون الحالات الجديدة عبارة عن تجميع خطي Linear Combination من الحالتين، ويسمى هذا المبدأ المهم في ميكانيكا الكم بمبدأ التطابق Superposition.
يمكن استخدام الفوتونات أو الإلكترونات أو الذرات أو غيرها من الأنظمة الصغيرة في حاسوب الكم بدلا من الترانزستورات، وسوف نستخدم الإلكترونات في توضيح الفرق بين حاسوب الترانزستورات الكلاسيكي وحاسوب الإلكترونات الكمي.
إن حركة الإلكترون حول النواة تشبه حركة الأرض حول الشمس، فالأرض تدور حول الشمس وتدور أيضاً حول نفسها. وكذلك فالإلكترون يتحرك حركة مدارية حول النواة Orbital Motion ويدور أو يغزل حول نفسه فيما يعرف بـ «سبن الإلكترون» Spin.
 وفي الحقيقة، فإن الحركة المغزلية للإلكترون سبن لم تظهر في المعادلات النظرية في البداية، واضطر العلماء لافتراضها لتفسير نتائج بعض التجارب العملية. 
لقد ظهر سبن الإلكترون لأول مرة في دراسة بول ديراك P.Dirac  من جامعة كامبريدج التي استخدم فيها نظرية الكم النسبية لدراسة حركة الإلكترون في المجال المغناطيسي عام 1928، وحصل على جائزة نوبل في الفيزياء بعد ذلك بخمس سنوات، أي عام 1933. 
وهناك حالتان مختلفتان لحركة الإلكترون المغزلية، فإما أن يدور أو يغزل باتجاه حركة عقارب الساعة وتعرف هذه الحالة بـ «Spin Down»، أو يغزل بعكس عقارب الساعة وتعرف الحالة بـ «Spin Up».
ويوجد فرق بسيط في الطاقة بين الحالتين، فيمكن أن تمثل الحالة الأولى الصفر (0) بينما تمثل الحالة الثانية (1). 
والفرق الأساسي بين هذه الحالات الكمية والحالات السابقة، أن الإلكترون يمكن أن يوجد في الحالتين معاً في اللحظة نفسها حسب مبدأ التطابق، وهذا يعني وجود عدد كبير من الحالات وليس حالتين فقط، كما هي الحال في الحاسوب الكلاسيكي.
 إن مبدأ التطابق يعني أيضاً أن حاسوب الكم يعمل على نظام التوازي Parallel، أي إن جميع العمليات الحسابية تبدأ في اللحظة نفسها، مما يوفر كثيراً من الوقت. 
وعلى العكس من ذلك، فإن حاسوب الترانزستور يعمل على التوالي Series، فلا تبدأ العملية الحسابية الثانية إلا بعد الانتهاء من العملية الأولى، وهكذا.
واجهت العلماء في البداية مشكلة أساسية، إذ إن الإلكترون يصبح مثل الترانزستور عند إجراء عملية القياس، وتكون الحالة إما (1) أو (0) فقط. 
وقد أمكن التغلب على هذه المشكلة من خلال خاصية كمية مهمة أخرى تعرف بالترابط أو التشابك الكمي Quantum Entanglement، وهي خاصية لم يتمكن العلماء من تفسيرها حتى الآن. 
فإذا أثرنا على إلكترونين معزولين بقوة مثلا، فإنه ينشأ بينهما نوع من الترابط والتأثير المتبادل، الذي يدوم مهما بعدت المسافة بينهما بعد ذلك. ويكون سبن أحدهما دائماً معاكساً لسبن الآخر، بغض النظر عن المسافة التي تفصل بينهما، وأطلق آينشتاين على هذه الظاهرة الغريبة اسم «فعل شبحي عن بعد» Spooky Action At a Distance. 
وتعود أهمية هذه الظاهرة إلى أننا يمكن أن نحدد سبن الإلكترون في الحاسوب الكمي دون قياسه، وذلك من خلال قياس سبن الإلكترون الآخر البعيد المترابط معه.

حرارة المعالج... مشكلة أساسية
بدأ العلماء في التفكير في الحاسوب الكمي منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، لكن الأمور بقيت في إطار الأبحاث والدراسات النظرية. 
وحاولت بعض الجامعات ومراكز الأبحاث والشركات الكبرى صناعة حواسيب كمية لفحص واختبار النظريات والأبحاث التي تجريها.
وكانت الشركة الكندية D. Wave Systems Inc أولى الشركات التي صنعت حاسوباً كمياً تجارياً بعد تجارب وأبحاث كثيرة على أجهزة تجريبية. 
وظهر أول حاسوب كمي تجاري باسم Wave-1، وكان معالجه يحوي 128 بت كمية 128 Qubits عام 2011، ثم طُور هذا الجهاز لاحقاً ليحوي 1000 بت كمية. 
أما أعلى الحواسيب قدرة وأكثرها سرعة فهو حاسوب D-Wave 2000Q System، وقد ظهر بداية العام الحالي، واستُخدم في صناعته عناصر تخزين كمية فائقة التوصيل Superconducting Qubits. 
إن استخدام هذه العناصر معدومة المقاومة الكهربائية لا يؤدي إلى ارتفاع في درجة حرارة المعالج، وهي مشكلة أساسية كبيرة في الحواسيب الكلاسيكية، ويكون المعالج فائق التوصيل من حلقات Loops صغيرة جداً من عنصر نيوبيوم Niobium الذي يتحول إلى حالة فائقة التوصيل عند درجة حرارة 9.2 كلفن. 
وتشكل هذه الحلقات بتات كمية Qubits، حيث يمر التيار الكهربائي في الحلقة في الاتجاهين في اللحظة نفسها، أي الحالتين 1 و0 معاً حسب مبدأ التطابق. 
لقد وصلت هذه الحلقات مع بعضها بواسطة مشابك Couplers عددها 5600، وهي أيضاً فائقة التوصيل، بالإضافة إلى ذلك، فقد احتوى معالج الحاسوب على 128 ألف وصلة جوزيفسون Josephson junction J.J، وهي أيضاً تراكيب كمية صغيرة جداً. 
وتتكون هذه الوصلات من معدنين فائقي التوصيل تفصل بينهما طبقة رقيقة جداً من مادة عازلة. 
لقد سميت التراكيب بهذا الاسم تخليداً لذكرى الفيزيائي البريطاني جوزيفسون B.Josephson، الذي تنبأ بوجودها، وحسب خصائصها الكهربائية نظرياً عام 1963، وحصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1973.
يمر في الوصلة في الحالة فائقة التوصيل تيار كهربائي دون وجود أي فرق في الجهد الكهربائي، ويمكن أن تتحول الوصلة إلى الحالة العادية Normal State بسرعة فائقة، ويظهر فرق الجهد على طرفي الوصلة، وتعمل عمل مفتاح Switch سريع جدا بين الحالة فائقة التوصيل (1) والحالة العادية (0)، ويمكن بالتالي استخدامها كبت كمية.
ويعمل الحاسوب فعليا على أساس وجود 2048 بت كمية، وهو أسرع وأكثر الحواسيب قدرة في الوقت الحاضر، ويفوق أداء الحاسوب أداء حاسوب الصين الكلاسيكي مرات ومرات. 
إن معالج الحاسوب يعمل في بيئة خاصة جداً، فهي مفرغة من الهواء ومعزولة بصورة جيدة عن جميع المجالات المغناطيسية والإشعاعات الكهرومغناطيسية مهما كانت ضعيفة، ودرجة الحرارة التي يعمل عندها المعالج تساوي 0.015 كلفن، وهي قريبة جدا من الصفر المطلق.
لقد بيع هذا الحاسوب لإحدى الشركات الكبرى من دون الإفصاح عن الثمن، الذي قدره الخبراء بحوالي 10 ملايين دولار .