على ضوء اكتشاف موجاتها هل أضحت النسبية العامة هي النظرية النهائية في الجاذبية؟

مازالت النسبية العامة ــ النظرية التي ثوَّرت الفيزياء وأحدثت تغييراً جذرياً في نظرتنا للمكان والزمان والكون ــ تحقق النجاح تلو الآخر منذ اكتشافها على يد الفيزيائي الشهير  ألبرت أينشتاين قبل قرن من الزمن. فقد اجتازت النظرية بنجاح جميع الاختبارات التجريبية التي خضعت لها حتى الآن، التي كان آخرها نجاح العلماء أخيراً في رصد موجات الجاذبية التي تنبأت بها النظرية النسبية في القرن الماضي. إن اكتشاف موجات الجاذبية يعد انتصاراً جديداً يضاف إلى سلسلة الانتصارات المدوية التي حققتها النظرية حتى الآن. 

قد يبدو التساؤل عن مدى صلاحية النظرية في التعبير عن الموقف النهائي للفيزياء حول الجاذبية غير منطقي للبعض، كما أن البحث عن نظرية بديلة قد يبدو ترفاً فكرياً لا حاجة له، طالما أن النظرية تسير بنجاح حتى الآن. غير أن الإجابة عن هذه التساؤلات ليست بهذه البساطة. لقد كانت نظرية نيوتن في الجاذبية ناجحة أيضاً، ولم يشعر العلماء (ربما باستثناء أينشتاين) بالحاجة لاستبدالها، حتى عندما كانت تنشأ بعض التناقضات بين نظرية نيوتن وبعض المشاهدات التجريبية، كان العلماء يعتقدون بإمكان حل هذه التناقضات دون التخلي عن نظرية نيوتن أو استبدالها، فعندما تنجح نظرية ما في تفسير 99 في المائة من الظواهر الطبيعية وتفشل في تفسير 1 في المائة فقط، فإن التخلي عن النظرية أو حتى توسيعها يغدو أمراً محفوفاً بالمخاطر. على سبيل المثال، عندما أثبتت المشاهدات التجريبية وجود انحراف طفيف في مسار كوكب عطارد حول الشمس عن المسار الذي تتنبأ به قوانين نيوتن، فيما يعرف بظاهرة الحضيض perihelion، لم يفكر العلماء في أن الخلل في قانون الجاذبية، بل افترضوا وجود كوكب غير مرئي تؤثر جاذبيته في مسار عطارد. 
قد يبدو هذا الافتراض غير واقعي للوهلة الأولى، فلماذا نفترض وجود شيء لم يره أحد، ولم يرصده أي مراقب أو مرصد فلكي، لمجرد أن نحافظ على قوانيننا الفيزيائية كما هي؟! 
غير أن هذه الطريقة في التفكير ساهمت فعلياً في بعض الاكتشافات العلمية، فكوكب نبتون اكتشفه عالم الرياضيات الفرنسي أوربان لوفيرييه، قبل أن يتم رصده بالمناظير الفلكية المتطورة، حيث استنتج هذا العالم من حركة كوكب أورانوس، وبتطبيق قانون نيوتن في الجاذبية أنه لابد من وجود جسم فضائي في تلك المنطقة تؤثر جاذبيته في حركة أورانوس، وقد تم التحقق لاحقاً من صحة هذا الافتراض بعد أن تم رصد الكوكب نبتون بالمناظير الفلكية المتطورة. إلا أنه في حالة كوكب عطارد فقد فشلت كل محاولات علماء الفلك لرصد الكوكب المزعوم الذي تسببت جاذبيته في انحراف عطارد عن مساره. ولم يكن هذا الفشل ناتجاً عن خلل في أدوات الرصد، بل كان ناتجاً ببساطة عن عدم صحة الافتراض بوجود هذا الكوكب.
 لقد انتهت هذه المعضلة باكتشاف النسبية العامة التي تنبأت بدقة معقولة بالانحراف في مسار عطارد عند دورانه حول الشمس دون الحاجة إلى افتراض وجود كوكب غير موجود أصلاً. وعلى الرغم من التباين في البنية المفهومية بين نظرية نيوتن في الجاذبية ونظرية أينشتاين في النسبية، فإن النظريتين غير متناقضتين رياضياً، فقانون نيوتن في الجاذبية ليس إلا حالة خاصة من قوانين أينشتاين في النسبية العامة، أي إننا يمكن أن ننظر إلى النسبية العامة على أنها وسّعت قانون نيوتن في الجاذبية ولم تناقضه. 
في مجالات الجاذبية الضعيفة نسبياً تتقارب النسبية العامة مع نظرية نيوتن إلى الحد الذي يجعلها صالحة تماماً للاستخدام في معظم الأحوال. وهذا ما يفسر بقاء قانون نيوتن في الجاذبية إلى اليوم، فبرغم أن الفيزياء المعاصرة تجاوزته، فإننا مازلنا نستخدمه، خاصة أن إجراء الحسابات وفقاً لهذا القانون يغني عن الحاجة لاستخدام قوانين النسبية المعقدة رياضياً. 
لكن إذا كانت دراستنا تتضمن مجالات جاذبية ضخمة كمجال الجاذبية بالقرب من ثقب أسود أو نجم نيوتروني مثلا، فإن إجراء الحسابات وفقاً لنظرية نيوتن يعطي نتائج خاطئة تماماً، وتغدو معه النظرية الكلاسيكية لنيوتن غير صالحة للاستعمال، مما يحتم علينا استخدام نظرية أينشتاين في النسبية العامة.
إذن، نظرية نيوتن في الجاذبية لم تكن مكتملة أو نهائية على الرغم من نجاحها في تفسير كثير من الظواهر الطبيعية، وعلى الرغم من قدرتها على التنبؤ بدقة ببعض الظواهر قبل وقوعها كظاهرة الخسوف والكسوف مثلاً. 
ماذا بشأن النسبية العامة؟ لقد اجتازت النظرية بنجاح جميع الاختبارات التجريبية، كما أنها نجحت في التنبؤ بعديد من الظواهر، ولكن ما الذي يضمن لنا أن النظرية ستنجح إلى ما لا نهاية؟ فليس لدينا يقين كافٍ بأن الاكتشافات العلمية المستقبلية لن تكشف قصوراً أو تناقضاً في النظرية، وماذا بشأن عدم التوافق بين النسبية العامة وميكانيكا الكم؟ يرى العلماء أن اكتشاف نظرية في الجاذبية متوافقة مع ميكانيكا الكم أمر لا مفر منه إذا أردنا لقوانين الفيزياء أن تبقى منسجمة، وإذا أردنا أن نوسع فهمنا للآلية التي يعمل من خلالها الكون. 

الجاذبية الكمية
وتسمى هذه النظرية بـ «الجاذبية الكمية» quantum gravity، وقد باءت كل الجهود التي بذلها علماء الفيزياء لاكتشاف هذه النظرية بالفشل، على الرغم من التفاؤل الذي يبديه بعض العلماء حيال نظرية الأوتار الفائقة التي يرشحها البعض إذا اكتملت أن تكون النظرية الكمية للجاذبية التي يبحث عنها العلماء منذ عقود. 
إن نجاح العلماء في اكتشاف هذه النظرية- إن حدث - سينهي مشكلة التوافق بين أهم ركنين من أركان الفيزياء المعاصرة - ميكانيكا الكم والنسبية العامة - وفي هذه الحالة ستكون النسبية العامة حالة خاصة فقط من نظرية الجاذبية الكمية، كما كانت جاذبية نيوتن حالة خاصة من النسبية العامة. 
تقودنا هذه المحاجة إلى الادعاء بأن النسبية العامة ليست نظرية مكتملة، فعلى الرغم من النجاحات الكبيرة التي حققتها النظرية، فإنه من المبالغة الادعاء بأنها نظرية نهائية بالمعنى الإطلاقي للكلمة. 
تطرح هذه المناقشة إشكالات فلسفية ملحة، فمثلاً: هل يمكن أن توصف نظرية علمية ما بأنها نهائية مهما بلغت درجة اليقين في صحة نتائجها؟ وهل النظريات العلمية تمثل حقائق موضوعية أم لا؟ وما هو المعيار الذي يجعل بعض النظريات العلمية أكثر اكتمالاً ودقة من نظريات أخرى؟ ربما دفعت بعض هذه التساؤلات الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859 - 1952)، والبريطاني كارل بوبر (1904 - 1992) إلى تأسيس اتجاه في الفلسفة يسمى الأداتية Instrumentalism، ووفقاً لهذا الاتجاه، فإن النظريات العلمية ليست إلا أدوات يصنعها البشر لاستيعاب الآلية التي يعمل بها الكون، لكنها لا تمثل حقائق موضوعية مطلقة، طالما أنها تعجز عن تقديم الوصف الذي يتجاوز خبراتنا ومداركنا، لذلك فليست مهمة العلم أن يخبرنا لماذا تحدث الأشياء، بل كيف تحدث. أي إن مهمة العلم تنحصر في وصف الطبيعة كما تبدو لنا، وقد عبّر الفيزيائي الشهير نيلز بور عن هذه الفكرة بالقول: «من الخطأ الاعتقاد بأن مهمة الفيزياء هي الإجابة عن التساؤل حول ما هي الطبيعة، بل إن الهم الأساسي للفيزياء هو أن تخبرنا ما الذي يمكن أن نقوله عن الطبيعة». 
ووفقاً لهذه الرؤية، فإن فالنظريات العلمية ليست إلا نماذج مفيدة تساعدنا على فهم العالم والسيطرة عليه، لكنها ليست حقائق نهائية متعالية، وبالتالي فإنه من غير المجدي أن نصف نظرية ما بأنها مكتملة أو نهائية. ولكن يمكننا في أفضل الحالات أن نصفها بأنها أكثر اكتمالاً من نظرية أخرى. 
أما المعيار الذي يحدد على أساسه التمييز بين النظريات، فيقوم على محددين أساسيين، هما: الأول هو قدرة النظرية على تفسير أكبر قدر ممكن من الظواهر الطبيعية. والثاني هو القدرة التنبؤية للنظرية، أي قدرتها على التنبؤ بالظواهر قبل وقوعها أو توقع نتائج التجارب قبل إجرائها. إذاً، فالقدرة التفسيرية والقدرة التنبؤية هما ما جعل نظرية نيوتن في الجاذبية ونظرية أينشتاين في النسبية العامة مقبولتين في الأوساط العلمية، فكلتا النظريتين نجحت في تفسير عدد كبير من الظواهر الطبيعية، وكلتاهما نجحت في التنبؤ بظواهر طبيعية قبل حدوثها أو توقع نتائج التجارب قبل إجرائها. 
وبالطبع فنحن نعطي نظرية أينشتاين أفضلية على نظرية نيوتن، لأنها ذات قدرة تفسيرية وتنبؤية أكبر. وبالتالي، فإن النظريات العلمية ليست إلا نماذج مؤقتة غير مكتملة نستطيع استبدالها متى ما وجدنا نموذجاً أفضل، والنموذج الأفضل هو النموذج ذو القدرة التفسيرية والتنبؤية الأكبر. إن الطبيعة لا تعرف قانون نيوتن في الجاذبية، ولا تعرف معادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية أو حتى نسبية أينشتاين، لكن هذه القوانين والنظريات تمثل الصورة التي نصنعها نحن البشر عن الطبيعة. ونحن لا نستطيع أن نفرض رؤيتنا أو نماذجنا على الطبيعة، وليس بإمكاننا أن نجبر الكون على الانصياع الكامل لقوانين نيوتن أو أينشتاين. لذلك ليس لدينا خيار إلا أن نعدّل في نماذجنا متى استجدت لدينا المعارف والخبرات التي تمكننا من بناء نموذج أكثر دقة ومصداقية. 
ومن هذا المنطلق، ينبغي أن نتعامل مع نماذجنا ونظرياتنا العلمية على أنها حقائق مؤقتة قابلة للتعديل والتغيير والتحسين, وفقاً لتطور تصوراتنا عن الكون. نعود الآن إلى التساؤل الذي طرحناه في بداية هذه المناقشة: هل النسبية العامة هي النظرية النهائية للجاذبية؟ أفضل ما يمكن قوله في هذا السياق هو ما عبّر عنه أحد علماء الفيزياء بالقول إن «النسبية العامة هي أفضل ما نعرفه عن الجاذبية» أو هي النموذج الأكثر دقة في وصف ظاهرة الجاذبية، ولكن حتى يكتشف العلماء نموذجاً آخر أكثر فاعلية ودقة في وصف الجاذبية، ستبقى نسبية أينشتاين هي النموذج الذي يعبّر عن موقـــف الفيــزياء المعاصرة حيالها .