جماليات العلم وفن البحث العلمي
يُعدّ العلم والبحث العلمي من أهم فاعليات النشاط الإنساني وأرقاها، سعياً وراء إدراك الأشياء على حقيقتها كما هي في الواقع، لذا فإن العقل البشري، باعتباره مناط التكليف وأهم الأدوات في ممارسة هذا النشاط، يحتاج إلى تدريب وإعداد وتوجيه، ليس فقط في ما يتعلق بالقواعد والخطوات العملية لمنظومة المنهج العلمي الرشيد، ولكن أيضاً في ما يتصل بالأسس الفكرية والفنّية التي تكفل الانتفاع منه إلى أقصى حد، بعد أن يستشعر نشوة التأمل في النواحي الجمالية والجوانب الإنسانية المتعلقة بقيم الحق والخير والجمال، التي لها قوة التوجيه والدفع إلى الأمام، والتي تجعل من المعرفة البشرية غاية سامية لخدمة المجتمع الإنساني بأسره.
إذا قصرنا الحديث في هذا الصَّدد عن قيمة الجمال وأثره في تشكيل العقل، وتغذية الوجدان، وتقويم السلوك، نجد أن التجربة الجمالية للإنسان عبر العصور قد أسفرت عن تكوين الكثير من المفاهيم والأفكار الجمالية التي حددت الإطار العام لما يسمى بعلم الجمال وما يتضمنه من مذاهب فلسفية وفنية متعددة. وليس هناك من شك في أن إحساس الإنسان بالجمال إنما تكفي فيه الفطرة النقية فقط، فما هو إلا استجابة طبيعية للعلاقات المتوافقة والمتوازنة بين الأجزاء والظواهر التي يقع عليها بصره في جنبات هذا الكون الفسيح الذي خلقه الله – سبحانه وتعالى – على أعلى درجة من الترتيب والنظام والكمال والجمال.
وقد أكد القرآن الكريم – فى مواضع كثيرة – أهمية العناصر الجمالية في الكون العجيب التكوين والتلوين، لكي يتدبره العلماء، ذلك أن الدعوة إلى تأمل الجمال الكوني هي في حقيقتها دعوة إلى التفوق في مجال العلوم الكونية المعنية بدراسة ظواهر الكون والحياة للإفادة منها في تطوير حياة البشر وفهم أسرار الوجود، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (سورة الملك: 2) وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (سورة فاطر: 27، 28)
ومن المنطقي أن يقابل هذا الجمال الكوني المقصود قصداً في خلق الكائنات بُعدٌ جمالي في العلاقة بين الكون والإنسان، فالمتأمل في السماء وما يدور فيها من كواكب وشموس وأقمار وما ينشر فيها من أفلاك يجب ألا يغفل عن زينتها التي نبه إليها الحق في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} (سورة الحجر: 16) وعند النظر إلى الأنعام من زاوية فوائدها المادّية وقيمتها كثروة حيوانية، يجب أن نحافظ على الصورة الجمالية التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (سورة النحل: 5، 6). وعند استقصاء حكمة الخالق في خلق الكون وإنبات النبات، يجب أن نستشعر معنى البهجة، التي تشيع في أرجاء النفس عندما ترى منظر الخضرة، مصداقاً لقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} (سورة النمل: 60). والذي يقطف ثمرة ليأكلها ينبغي أن يرى أولاً في جمال منظرها وروعة تكوينها يد الخالق وبديع صنعه؛ {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} (سورة الأنعام: 99)، ولقد ذهب بعض العلماء إلى القول إن التقدير القرآني لقيمة الجمال في الكون على هذا النحو، يجعل من الاعتداء على البيئة وتوازنها، والنظر البليد إلى الأرض والسماء دون إحساس بالجمال، نوعاً من المعصية ينبغي لفاعله أن يتوب عنه.
ولما كان الجمال مقصوداً قصداً في خلق الكون، وكان البعد ضرورياً في تعامل الإنسان مع عناصر الكون المختلفة، بما فيها الأرض التي يعيش عليها، والبيئة التي يحيا في كنفها، فإن ما يحدث في عصرنا من أشكال التلوث البيئي المختلفة يجب النظر إليه على أنه اعتداء أثيم على توازن البيئة المحكم، وتشويه متعمد لشكلها الجمالي. ومن ثم يكون العمل على حماية البيئة من مختلف أشكال التلوث، والإبقاء على الجمال في صفحات الكون، مطلباً إسلامياً عزيزاً تُستثار لأجله الهمم، وتستحث العزائم. وقد شهدت ميادين البحث العلمي خلال العقود الثلاثة الأخيرة ميلاد وتطور ما يسمى بـ«العلوم والتكنولوجيا الخضراء» التي تبحث عن وسائل نظيفة وصديقة للبيئة، للحيلولة دون تردّي الوضع البيئي، وكانت البداية العملية في أوائل تسعينيات القرن الماضي باعتماد برنامج وسياسات ما يسمى بـ«الكيمياء الخضراء» في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهي كيمياء مثالية وجميلة، تهدف إلى تحقيق تطبيقات أنيقة للمركبات والعمليات الكيميائية، تتوافق منها الفعالية مع الأمان.
مواقف الفلاسفة
وإذا استعرضنا مواقف بعض الفلاسفة والعلماء من قيمة الجمال ومدى تأثرهم بها، فإننا نجد أنها كانت ولم تزل على وجه العموم مبدأ أساسياً من مبادئ المعرفة وتحصيلها عبر العصور، ودليلاً يهدي العلماء في أبحاثهم، بدرجات متفاوتة في عمق التأثير والتأثر، وإن شئنا إيراد أمثلة لتوضيح ذلك من تاريخ العلوم وسير العلماء، فلنبدأ بالحسن بن الهيثم (965- 1042م) مؤسس المنهج العلمي التجريبي الاستقرائي في عصر الحضارة العربية الإسلامية، حيث كان له أول تحليل علمي للجمال في المبصرات (أي المرئيات)، تناوله كعالم بصريات ورياضيات، وأيضاً كفيلسوف علم يدرك مسائل الشكل والحجم والتناسب: وكلامه مفصَّل في كتابه الذائع الصيت «المناظر»، وفي رسالته المنسية المغمورة «ثمرة الحكمة»، ويتلخص رأيه في أن المرئيات فيها معانٍ جزئية، كل منها على انفراد «يفعل الحُسْن»، أي يجعل الشيء حسناً، وهو يفعله أيضاً مقترناً بغيره، أو في تناسب مع غيره، فهو هنا يقر بوجود عمق جمالي في الجسم المرئي ذاته، ثم إن إدراك الحسن عنده أمر نفسي، لأنه يقول إن المعاني الجزئية تفعل الحسن، أي تؤثر في النفس، وهو على حدّ تعبيره «استحسان الصورة المستحسنة» ويسهب بعد ذلك في تفصيل الكثير من المعاني الجزئية للعناصر الجمالية في الأجسام المرئية من ضوء، ولون، ووضع، وبُعد معين، وتجسُّم، وشكل، وحجم مناسب، وحركة، وشفيف، وتماثل (سيمترية)، وخصوصاً التناسب والائتلاف. وكانت روح ابن الهيثم، شأنه شأن كل عالم حقيقي، تشرئب إلى إدراك الكون وتخيله على حقيقته، بمنهج علمي رصين، يوصل، في ما يقول: «إلى الحق الذي يثلج به الصدر... وإلى الغاية التي عندها يقع اليقين... بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية، ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور».
لكن هناك من لا يرى في المادة إلا خواصها الكمية، كالوزن والحجم والشكل والعدد، وحيث إن الجمال ليس من جملة هذه الخواص، فإنه أقرب إلى خاصة من خواص المراقب أو المشاهد، لا صفة من صفات الأشياء الطبيعية في الكون. وقد كتب الفيلسوف والفيزيائي والرياضي الفرنسي «رينيه ديكارت» Rene Descartes (1596-1650م)، مؤسس الفلسفة الحديثة، يقول: «لا يدل الجميل، ولا البهيج، على أكثر من موقفنا في الحكم على الشيء المتكلَّم عنه». ويوافق الفيلسوف الهولندي من أصل يهودي «باروخ إسبينوزا» Baruch Spinoza (1632-1677م) على ما قاله ديكارت فيقول: «الجمال ليس صفة في الشيء المدروس بقدر ما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان نفسه الذي يدرس ذاك الشيء». وقد أحدث هذان المفكران (ديكارت وإسبينوزا)، وآخرون غيرهما، تياراً قوياً دام زماناً طويلاً، إلى أن أبان العالم البريطاني تشارلز دارون Charles Darwin (1809-1882م) عن موقف النظرة العلمية آنذاك من الجمال، فكــــتب يقول: «من الجليّ أن الإحساس بالجمال يتوقف على طبيعة العقل، بصرف النظر عن أي صفة حقيقية في الشيء محل الإعجاب». وكان طبيب الأمراض العصبية النمساوي سيجمـــوند فرويد Sigmund Freud (1856-1939م) مؤسس طريقة التحليل النفسي Psychoanalysis، يشعر أنه مضطر إلى حصر الجمال في دائرة الغريزة، قائلاً: «من دواعي الأسف أن التحليل النفسي ليس عنده ما يقوله عن الجمال وكل ما يبدو مؤكداً أنه مستمَد من مجـــال الشعور الجنسي».
الجمال والجدل العلمي
ويعقب صاحبا كتاب «العلم في منظوره الجديد» (روبرت م. أغروس وجورج ن. ستانسيو، الترجمة العربية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1989م) على مثل هذه الآراء ذات الصبغة المادية في الجمال، قائلين إنه إذا لم يكن الجمال صفة من صفات الطبيعة، فهناك أمران اثنان يترتبان على ذلك: أولهما أن الجمال، على احتمال كونه متعة شخصية، لا يمكن أن يكون موضع جدل علمي، إذ إنه لا يعنينا بتاتاً في اكتشاف حقائق الطبيعة، وثانيهما أن الفنون الجميلة، بقدر ما تنشد الجمال، لا يمكن أن يكون بينها وبين العلوم أي شيء مشترك، إذ إن العلوم الطبيعية تبدو باردة المشاعر، ولكنها واقعية، بينما تصوّر الفنون على أنها دافئة المشاعر، ولكنها هوائية المضمون، بحيث يتوقع من علم الحشرات مثلاً أن يسكت عن جمال الفراشة، سكوت الشعر عن خمائرها الهضمية.
وعلى نقيض ذلك، يجمع أبرز العلماء في القرن العشرين على أن الجمال من وسائل اكتشاف الحقيقة العلمية، إن لم يكن هو المقياس الأساسي لها. وقد أحرزوا بالفعل كشوفاً ثورية، حسب منطق فيلسوف العلم المعاصر توماس كون Th. Kuhn (1922-1996م) بفضل إحساسهم وإدراكهم قيمة الجمال فــــي البحــــث العلمي، فــــها هو الفيزيائي الألماني الشهير فيرنر هـــيزنبـــرج W. Heisenberg (1901-1976م)، الذي مُنح جائزة نوبل في الفيزياء عام1932م لأبحاثه في الفيزياء النووية ونظرية الكم، يعلن «أن الجمال في العلوم البحتة أو الدقيقة، وفي الفنون على حد سواء، هو أهم مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح، وأن نظريته في ميكانيكا الكم مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي». وها هو ألبرت أينشتين Albert Einstein (1979–1955م) أشهر علماء القرن العشرين، والحائز جائزة نوبل عام 1921م، يشير بنفسه إلى جمال نظريته في النسبية العامة بقوله: «لا يكاد أحد يفهم هذه النظرية تمام الفهم... يفلت من سحرها»، ويشيد بها الفيزيائي النمساوي آرفين شرودنجر Erwin Schrodinger (1887 - 1961م)، الحائز جائزة نوبل عام 1933م وصاحب المعادلة الموجبة الأساسية في ميكانيكا الكم الحديثة، قائلاً: «إن نظرية أينشتين المذهلة في الجاذبية لا يتأتى اكتشافها إلا لعبقري رُزق إحساساً عميقاً ببساطة في درجة جمالها، يوجد من بينها ما يرقى إلى أعلى درجات الجمال، حيث يرى كثير من الفيزيائيين أن نظرية النسبية العامة لأينشتين هي أجمل النظريات الفيزيائية الموجودة على الإطلاق. ولهذا فإننا نثق بصاحب هذه النظرية العلمية الأجمل عندما يلخص عناصر الجمال العلمي بعبارة واحدة، يقول فيها: «النظرية العلمية تكون أدعى إلى إثارة الإعجاب كلما كانت مقدماتها أبسط، والأشياء التي تربط بينها أشد اختلافاً، وصلاحيتها للتطبيق أوسع نطاقاً». وهذا يعني أن الجمال الذي ينشده العلماء في بحثهم العلمي عن الحقائق الكونية ليس نتاج عاطفة فردية، وإنما هو أبعد ما يكون عن الأسلوب غير العلمي، وعناصره التي تبث الحياة في العلم لها نظائر موازية في الفنون الجميلة الأخرى.
تنمية ملكات الخيال
من ناحية أخرى، يؤدي تأمل الجمال العلمي وتذوقه إلى تنمية وتعظيم ملكات التخيل والتفكر والحدس لدى الذات الباحثة في العلوم الكونية، فهذه جميعها من المبادئ الأساسية والأساليب الذهنية التي تشترك فيها أغلب أنواع البحث العلمي، وتقوم بدور المهندس الذي يضع تصميم النظرية العلمية، مستعيناً بما تنقله الملاحظات والتجارب الدقيقة، وبما لديه من ذخيرة معرفية وخبرات عملية متنوعة. ومن المفيد كثيراً في البحث عن أفكار مبتكرة إطلاق العنان لهذه الملكات المعرفية على سجيتهاحتى تتمخض عن أفكار ونتائج نافعة، ذلك أن الوقائع والأفكار ميّتة في ذاتها، والتأمل الجمالي، بما يصحبه من تفكير واع وخيال بنّاء وحدس صادق، هو الذي يهبها الحياة، ويتيح لنا «رؤيتها» على أيدي الباحثين.
ويكفي أن نشير هنا إلى ما كتبه جون تندال J. Tyndall (1820-1893م) الفيزيائي الأيرلندي عن أهمية التأمل والخيال في تكوين الصور الذهنية للمشكلات العلمية، قائلاً:
«لقد كان اهتمام اسحق نيوتن من تفاحه ساقطة إلى قمر ساقط، عملاً من أعمال الخيال المتأهب... واستطاع خيال دالتون البنَّاء أن يشيّد النظرية الذرية، أما فاراداي فقد مارس هذه الموهبة على الدوام، فكانت سابقة، ومصاحبة، ومرشدة لجميع تجاربه، وترجع قدرته وخصوبته كمكتشف إلى حد كبير، إلى القوة الدافعة للخيال».
ودونما استطراد في سرد أقوال المزيد من «العلماء الحقيقيين» يتضح لنا أنه يستطيع أن يستبين الحقيقة العلمية، أولاً بفضل جمالها وبساطتها وتناسقها وتألقها، لأن الجمال جزء من بنية الكون، وثانياً بفضل ما يصاحب التأمل الجمالي الدافع إلى تنمية ملكات الحدس والتفكر والخيال. ولا نملك إزاء ذلك كله إلا أن نسجد شكراً لله الخالق الواحد {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (سورة السجدة: 7) .