الصيام من المنظور العلمي

للصيام‭ ‬مكانة‭ ‬متميزة‭ ‬بين‭ ‬العبادات‭ ‬الأخرى،‭ ‬كالصلاة‭ ‬والزكاة‭ ‬والحج‭ ‬وغيرها،‭ ‬فهو‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬كونه‭ ‬فريضة‭ ‬من‭ ‬الفرائض‭ ‬التي‭ ‬فرضها‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬على‭ ‬المكلفين‭ ‬من‭ ‬عباده،‭ ‬تجربة‭ ‬روحية‭ ‬إيمانية‭ ‬عملية،‭ ‬يعيشها‭ ‬الصائم‭ ‬بكل‭ ‬جارحة‭ ‬من‭ ‬جوارحه،‭ ‬وهو‭ ‬وسيلة‭ ‬للتقرب‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬على‭ ‬الوجه‭ ‬الذي‭ ‬أمر‭ ‬به،‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬ثمرة‭ ‬غالية‭ ‬هي‭ ‬التقوى،‭ ‬التي‭ ‬تتسق‭ ‬وتنسجم‭ ‬بها‭ ‬ومعها‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭.‬

الصوم‭ ‬ظاهرة‭ ‬فسيولوجية‭ ‬فطرية‭ ‬

 وإذا عرفنا أن الصوم عملية تمر بها معظم الكائنات الحية بشكل اختياري مهما توافر الغذاء في الطبيعة من حولها، وليس الإنسان فقط، لأدركنا أنه يمكن اعتبار الصوم سنة كونية وظاهرة فسيولوجية فطرية، وليست مجرد عملية إرادية وتعبدية بالنسبة للإنسان وحده، وعلى ذلك فهو ضروري لجميع الكائنات، شأنه في ذلك شأن التنفس، والغذاء والنوم والحركة... وهو يجدد شباب الكائن الحي، بل ويطيل عمره، فهناك بعض الكائنات المفطورة على الصوم، وقد تصل مدة صومها إلى سبعة أشهر، أو ما يزيد على ذلك، استجابة لعوامل بيئتها الطبيعية التي أوجدها الخالق تبارك وتعالى فيها، والصوم بهذا ضروري لحياتها إلى الدرجة التي يمكن معها أن تلقى حتفها إذا ما عاقها عائق عن أدائه واستمراره. 

 

الصيام‭ ‬يجدد‭ ‬الشباب‭ ‬ويطيل‭ ‬العمر

تتم في جسم الكائن الحي عمليتان كيموحيويتان متلازمتان، وذلك تحت الظروف الطبيعية من توافر الغذاء والتنفس، وإنتاج الطاقة وغير ذلك، وهما: عملية البناء Anabolism، وعملية الهدم Catabolism، أما الأولى فتحدُث بكثرة في المراحل المبكرة من عمر الكائن (مراحل التخلق والنمو)، إلا أنها تتم أيضاً طوال حياة الكائن الحي لتعويض الخلايا التالفة والمستهلكة، وكذا استبدال وتجديد الجزيئات الحيوية المتهالكة، بل وتخزين بعض المكونات التي تُعَدُّ بمنزلة مخزون احتياطي للجسم، أو تكوين بعض المركبات النفاوية Wastes،  تمهيداً لتخليص الجسم منها دون آثار جانبية سيئة. 

   أما العملية الثانية، وهي عملية الهدم، فعن طريقها يتمكن الجسم من التخلص من الخلايا الهَرِمة والمريضة والشاذة في أنسجة الجسم المختلفة، وكذلك عن طريقها يتم نقض الجزيئات المتهالكة، وهدم الجزيئات الغذائية المختلفة، حتى يتمكن الجسم من الحصول على الطاقة اللازمة لاستمرار وظائفه، ومِن ثمَّ حياته، وعلى ذلك فالعمليتان مهمتان وضروريتان للكائن الحي، وتحدثان في كل لحظة من حياة جميع المخلوقات، ولكن معدل حدوثهما ليس ثابتاً، وإنما يخضع لظروف الكائن الحي، فمثلاً في أثناء فترات الجوع أو الصيام في شهر رمضان أو غيره يزيد معدل عملية الهدم لتزويد الجسم بالطاقة، وهذا من شأنه تمكين الجسم من التخلص من عناصره الفاسدة أو المتهالكة بسرعة وكفاءة بشكل يفوق مثيله في أثناء فترات الشبع، وبعد تناول الطعام عقب الصيام أو الجوع، فإن عناصر البناء تتوافر فيقبل الجسم على عملية البناء بمعدل مرتفع وكفاءة عالية.

   والخلاصة أن الصوم يمنح الجسم فرصة ذهبية للتخلص من الأنسجة والخلايا والجزيئات الهرمة أو القليلة الكفاءة، ويعمل أيضا على منح الجسم فرصة لتجديد جزيئاته الحيوية وخلاياه وأنسجته التالفة.

 هذا فضلاً عن أن بعض التجارب العلمية الخاصة بتجويع الحيوانات المختلفة قد أسفرت عن حياة أطول لهذه الحيوانات مُقارَنةً بمثيلاتها من الحيوانات التي لم تتعرض للحرمان من الطعام. وجدير بالذكر أن الأمم السابقة تركت من خلال التدوين والتسجيل ما يدل على قيام شعوبها بهذه الشعيرة المهمة، فقد ذكر بعض المؤرخين المحدثين أن قدماء المصريين كانوا يتقون الأمراض بالمحافظة على صحة أجسامهم بالصوم والمقيئات واستخدام الملينات، وذلك لاعتقادهم أن ما يدخل في الجسم من الطعام مما يزيد عن حاجته تنشأ عنه الأمراض، ولهذا، فقد دعا - حديثاً - كثير من أطباء الغرب المتخصصين في الشؤون الغذائية إلى الصوم كعامل مهم من عوامل تجديد الشباب، ذلك أن العادة الشائعة من تناول ثلاث وجبات من الطعام غير طبيعية، في ظروف المدنية الحديثة، لأنها تؤدي إلى تحميل الجسم بمقدار زائد من المواد التي تضر به أبلغ الضرر، وتراكم هذه المواد من أهم أسباب المرض، على الأخص مع الإفراط في الطعام والأغذية غير الصحية، والصوم فترة ما يؤدي إلى إزالة هذه الزيادات الضارة بالجسم، وكلما اشتد الجوع بالصائم زاد احتراقها. وعندما تتخلص أجهزة الإخراج وخاصة الكلى من عبء إفراز الطعام الجديد فإنها تكتسب القدرة على التخلص من جميع السموم المتجمعة في الجسم. 

 

أهمية‭ ‬الغذاء

يؤكد العلم الحديث ما للطعام من أهمية بالغة في تكوين جسم الإنسان منذ ولادته، لما له من وظائف بنائية وفسيولوجية وحيوية، لا يمكن الاستغناء عنها بحال، ثم إن هذه الأهمية تزداد بتقدم العمر إلى أن يصل المطاف بالإنسان إلى مرحلة الشيخوخة، حيث يحتاج إلى أنماط ومقادير معينة من الغذاء، ما حدا بالباحثين والمتخصصين في علوم التغذية إلى الاهتمام بالغذاء من الناحية النوعية والكمية، ومن حيث ملاءمته لجميع الأعمار والأعمال والظروف الفسيولوجية كالحمل والرضاع، وجميع الأمراض والأحوال الصحية والبيئية. 

ومن الثابت أن أجسام الإنسان وسائر الكائنات الحية تتألف من خلايا عديدة، كل خلية منها تمثل كائناً حيّاً يحتاج في بقائه ونموه وصحته وقيامه بوظائفه إلى الغذاء، ومن ثمّ فقد أمرنا ربنا -  تبارك وتعالى - بأن نتناول الغذاء فقال: {وَكُلُوا‭ ‬مِمَّا‭ ‬رَزَقَكُمُ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬حَلَالًا‭ ‬طَيِّبًا}. (المائدة: 88).

والمرء يستهويه الطعام اللذيذ، وألوان الشراب المختلفة فيعُب منها، لا يبالي بما لبدنه وصحته عليه من حق، فليس كل طعام شهيّ صحيّاً، ومِن ثمّ فالاعتماد على أنواع معينة كالوجبات السريعة (الـ«تيك أواي») وما يشبهها، والتي تتركز بها عناصر من النشويات والدهون وأنواع معينة من البروتينات، ليس صحياً، فضلاً عن أن هذا النمط من الغذاء يصاحبه عادة إغفال للخضراوات، التي هي بالفعل صيدلية غنية بالفيتامينات والأملاح المعدنية، وكذلك الفواكه التي تتركز بها أيضاً هذه العناصر المهمة، ولذلك قال ربنا في كتابه العزيز: {كُلُوا‭ ‬وَارْعَوْا‭ ‬أَنْعَامَكُمْ‭  ‬إِنَّ‭ ‬فِي‭ ‬ذَلِكَ‭ ‬لَآيَاتٍ‭ ‬لِأُولِي‭ ‬النُّهَى}(طه: 54).  

 فإذا استمر المرءُ على هذه الحال أحد عشر شهراً كل عام، فليس ثمَّ بد من أن يصاب ببعض الأمراض والانحرافات، في صحته وسلامته الجسمية، ما يؤثر بالضرورة على صحته النفسية، وصفائه الروحي، ومن ثم فقد كان «رمضان» وقفة حكيمة من لدن عليم خبير، لرأب الصدع الذي أحدثه الإنسان بنفسه طوال العام. 

 أما من الناحية الكمية، فإن الإسراف في الطعام له أضرار وخيمة، بل ينجم عنه أمراض خطيرة كالسمنة وارتفاع ضغط الدم وأمراض الشرايين والقلب والبول السكري والنقرس والتهابات الجهاز الهضمي، لاسيما المعدة، إلى غير ذلك من هذه السلسلة الطويلة من الأمراض التي ترتبط بالإفراط في تناول الطعام بمقادير تفوق حاجة الإنسان، ومن ثم فقد كانت توصيات حكماء الأطباء منذ القديم باعتدال في تناول مقادير الطعام، وبالصيام فترات طويلة من الوقت، بل إن المسلم ليلمس ذلك بنفسه عندما يصوم رمضان فيأتي في آخر هذا الشهر الكريم وقد استراحت أعضاؤه وخفّ بدنه وصفت روحه، فكأنه بالصيام يداوي نفسه دون أن يتناول دواء.

 

لابد‭ ‬من‭ ‬مراجعة‭ ‬للنفس

   والواقع الذي لا يمكن إنكاره بحال أن الاستهلاك الغذائي يزيد في شهر رمضان في ديار أمة الإسلام، ويكون هناك تكالب على الطعام والشراب والإسراف بوجه عام، على النقيض مما ينبغي أن تكون عليه الحال، وعلى عكس ما هو متوقع في شهر يجب أن يجاهد الإنسان فيه نوازعه، ويكبح جماح شهواته، لتزكو نفسه وتصفو روحه.

 فإذا كان الإنسان منا يستهدف من طعامه، بعد مرحلة البلوغ، إمداده بالمواد اللازمة لتعويض ما يتلف من خلايا جسمه، وتزويده بالطاقة الضرورية لمختلف وجوه نشاطه، من بناء وترميم وحركة وإفراز، إلى غير ذلك من وظائف حيوية، لا تختلف في رمضان عنها في غيره من شهور العام، فإنه من التزيّد، بل ومن الإسراف أيضاً، أن نجعل من رمضان فرصة لالتهام كل ما لذ وطاب، وشرب كل حلو ومُذاب، ما يجعلنا نتساءل بكل موضوعية: أهو شهر صيام أم شهر شراب وطعام؟

  تدلنا البحوث العلمية الخاصة بعلم وظائف الأعضاء على أن الإنسان الطبيعي، بعد تناول الطعام يمكنه اختزان ما يقرب من 450 جراماً من المواد الكربوهيدراتية على هيئة نشا حيواني (glycogen)، يتم استيعابها بشكل أساسي في كل من الكبد والعضلات، وإلى حد ما في بعض الأعضاء الأخرى، وهذه الكمية يمكن عند احتراقها تزويد الجسم بما يزيد على 1800سعر حراري تكفي الإنسان لمدة تزيد على 15 ساعة، هذا بخلاف ما يتضمنه جسم الإنسان من دهون يمكن أن تنهض لتزويد الجسم بالطاقة عند اللزوم، وذلك بعد نفاد المواد النشوية، وعادة، ومع الغذاء المعتدل المتوازن، لا يلجأ الجسم لذلك، نظراً لكفاية المواد الكربوهيدراتية، تحت هذه الظروف، للوفاء بالحاجات الطاقية energy requirements خلال تلك الفترة التي لا تزيد عادة على أربع عشرة ساعة، في ما بين وجبتي الإفطار والسحور.   

  إن الإسراف الذي يتواكب مع رمضان ورمضان منه بريء، ليس من مقاصده مطلقاً، أما ما ينجم عن هذا الإسراف فيتمثل في مشكلات اعتلالات وأعراض وأمراض مختلفة ذكرنا بعضها، ومشكلات اجتماعية (أشارت بعض البحوث إلى حدوث مشكلات أسرية، ومُشاجرات عائلية، بل وحالات طلاق)، ومشكلات اقتصادية (من ديون وقروض وبيع للمقتنيات بأقل من قيمتها، وارتباك مالي)، ومشكلات جمالية (نتيجة الإسراف في الطعام تحدث السمنة التي تُشوِّه الجسم وتسبب الترهل، وفقدان الاتساق الحركي، والتوازن الجسدي).

 

الصوم‭ ‬والصبر

    والصوم يؤصّل في المسلم الصبر، والإرادة، وقوة التحمل، ومن ثم يجعله أكثر قدرة على ضبط انفعالاته وردود أفعاله، وإكسابه مناعة ضد المعصية بشتى أنواعها، فيقوى بذلك على مقاومة شياطين الإنس وشياطين الجن ونوازع النفس، ولعل تلك بعض ثمار {لَعَلَّكُمْ‭ ‬تَتَّقُونَ} (البقرة: 183). ولذلك فقد تواترت أحاديث النبي   لتؤكد هذا وتحفّزه، وتحض عليه، حتى يخلص صيام المسلم من كل شائبة. يقول النبى  في هذا الصدد: «مَن لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (رواه الشيخان)، ويقول : «الصوم جنة، فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو شاتمه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم» (رواه الشيخان)، وإذا كان صوم المرء على هذه الصورة الزكية النقية، فمن كرم الله وفضله أن يعدَه بالغفران والرضوان.  أما الحديث القدسي بأن الصوم لله تبارك وتعالى، ومن ثم فإنه متروك لكرمه - سبحانه - ليجزي به، فهو حقاً نيشان على صدر المسلم الحق. 

 ومن الناحية الفسيولوجية، فإن الصبر والهدوء يكبحان جماح الغدد الصماء، لاسيما غدتي الكظر، فتعتدلان في وظيفتيهما ولا تطلقان هرموناتهما، خاصة هرمون الأدرينالين Adrinalin الذي يؤدي - عند الغضب - إلى ثورة عارمة في الجسم (جسم الإنسان وجسم الحيوان)، ويقلب الأمور رأساً على عقب، ومن بين هذه التأثيرات ارتفاع ضغط الدم، وزيادة معدل ضربات القلب، واتساع حدقتي العينين، وارتفاع نسبة سكر الدم، وزيادة تركيز الأحماض الدهنية بالدم، وكل هذه التغيرات تطلق العنان لتفاعلات هائلة في الجسم من شأنها زيادة الانفعال، وتفاقم حالة الغضب والهياج، ما يؤدي في النهاية إلى افتقاد التّرَوِّي، الأمر الذى يؤدي إلى عدم اتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب، بل على النقيض من ذلك تؤدي هذه الحالة إلى ردود أفعال غير محسوبة العواقب، قد تفضي في أغلب الأحيان إلى الندم الذي لا يجدي ولا يفيد. وقد يصاب المرء تحت هذه الظروف بارتعاش اليدين والشفتين، وتلعثم في الكلام، إضافة إلى ما سبق ذكره من أعراض، ولذلك يشير علم النفس الإكلينيكي الحديث على الأشخاص الذين يعانون من هذه الأعراض بأن يواجهوا المواقف الصعبة والمخاوف المزعجة ببطون خاوية.

 أما الصيام، وما يطبع الإنسان عليه من صبر وهدوء ودعة، فيؤدي إلى تنظيم عمل الغدد الصماء، وإطلاق هرموناتها، ومن بينها هرمون الأدرينالين بقدَر، ولذلك فقد أُمِرْنا بالصبر تارة، وجاء ثمرةً من ثمرات صوم رمضان تارة أخرى، فهو دواء لأدواء كثيرة، بل إنه الدواء الذي يكفل الوقاية من الوقوع فريسة لأدواء وأمراض اجتماعية ونفسية وخلقية، وهو أيضاً «فيتامين» الطاعات المختلفة، يعين عليها، ويكفل للمسلم النصر في مواجهة الشيطان.