استخدامات الطباعة الثلاثية الأبعاد في الطب والبحث العلمي

يستقبل‭ ‬المجتمع‭ ‬العلمي‭ - ‬منذ‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬المنصرم‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم‭ - ‬معارف‭ ‬علمية‭ ‬يواكبها‭ ‬تطور‭ ‬تقني‭ ‬غير‭ ‬مسبوق،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬أسس‭ ‬لبحوث‭ ‬ودراسات‭ ‬المستقبل،‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها‭ ‬لا‭ ‬مناص،‭ ‬امحاكاة‭ ‬الأعضاء‭ ‬البيولوجيةب،‭ ‬حيث‭ ‬تلعب‭ ‬علوم‭ ‬الحاسوب‭ ‬أهم‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬إنجاز‭ ‬تلك‭ ‬المحاكاة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقانة‭ ‬التصوير‭ ‬المجسم،‭  ‬ووضعها‭ ‬موضع‭ ‬التنفيذ‭ ‬الفعلي‭ ‬باستخراج‭ ‬الأشكال‭ ‬مهما‭ ‬بلغت‭ ‬تعقيداتها،‭ ‬مطابقة‭ ‬للصور‭ ‬المجسمة‭ ‬حاسوبياً،‭ ‬وهذا‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقانة‭ ‬مطورة‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬االطباعة‭ ‬الثلاثية‭ ‬الأبعادب
3-Dprinting‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬الثورة‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬تعقب‭ ‬ثورة‭ ‬الطباعة‭ ‬التقليدية‭ ‬الأولى‭.‬

الطباعة‭ ‬الثلاثية‭ ‬الأبعاد

 قفز فن الطباعة قفزات واسعة ليساير النهضة العلمية، والتقدم التقني في نهاية القرن العشرين. فمع اختراع أجهزة الحاسوب أصبح صف الحروف وتنسيقها يتم باستخدام تلك الأجهزة، ثم تعدى ذلك إلى استخدام أشعة الليزر في تنسيق الحروف، والتقاط الصور، وفصل الألوان، وتنسيق الصفحات.

والطباعة الثلاثية الأبعاد تعمل بالطريقة نفسها تقريباً التي تعمل بها طابعة الحاسوب المكتبي، لكنها بدلاً من استخدام الحبر، «تطبع» باستخدام البلاستيك والشمع والراتنج والخشب والخرسانة والذهب والتيتانيوم وألياف الكربون والشوكولا.. بل حتى الأنسجة الحية. إذ تنفث هذه الطباعة المواد المطبوعة في طبقات تلو طبقات على شكل سوائل أو معاجين أو مساحيق، فمنها ما يجف ويتصلّب بطريقة تلقائية، فيما تُستخدم الحرارة والضوء لتجفيف ودمج بقية المواد غير المتصلّبة.

إذن بالاعتماد على برامج التصميم بمساعدة الحاسوب، يمكن إنجاز رسم ثلاثي الأبعاد للمنتج المرغوب. وتستخدم الطابعة الثلاثية الأبعاد أسلوب التدرج في صناعة الأجسام قطعة تلو القطعة، فلا «تنفث» مواد الطبع سوى في المواضع المحددة بعناية، لذا فإن بإمكانها صنع الأجسام المعقدة من الناحية الهندسية والتي تستحيل صناعتها بوساطة صب مواد الطبع في القوالب.

وقد تزايد انتشار هذه الطابعات منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وصارت لها تطبيقات صناعية في مجالات البناء والطيران والفضاء والطباعات العسكرية والهندسية والطبية والتقانة الحيوية واستبدال النُّسج البشرية والأزياء ونظم المعلومات والتغذية وغيرها.

 في التعريف العلمي للطباعة الثلاثية الأبعاد 3-D printing: أنها تقانة تهدف إلى صنع جسم صلب ثلاثي الأبعاد من نموذج رقمي بعملية إضافة للمواد توضع فيها طبقات متعاقبة من المادة بأشكال مختلفة، وتختلف الطباعة الثلاثية الأبعاد عن تقنيات التشغيل الميكانيكي الشائعة التي تعتمد على إزالة للمادة subtractive process بالقطع والحفر والنحت والثقب.

تعود أصول الطباعة الثلاثية الأبعاد إلى أواخر ثمانينيات القرن العشرين، عندما اخترعت شركات ناشئة وهيئات أكاديمية لدى جامعة تكساس، في أوستن خصوصاً، آلات قادرة على بناء نماذج ثلاثية الأبعاد لتصاميم رقمية في غضون دقائق. وعلى مدى عقود، حققت تلك الآلات ومثيلاتها شهرة واسعة بقدرتها على مساعدة المخترعين والمهندسين على إنتاج نماذجهم الأولية بشكل سريع.

جدير بالذكر أن النماذج الأولية محل الطباعة الثلاثية الأبعاد، يرجع الفضل في دقة أنماطها وأشكالها المعيارية إلى التقنيات الحاسوبية، التي مكنت مهندسي الطباعة من رؤية الصور مجسمة، وذلك بادئ ذي بدء قبل طباعة النماذج المفترضة.

 

تقنيات‭ ‬تجسيد‭ ‬الصور‭ ‬الثلاثية‭ ‬الأبعاد‭ ‬وطباعتها

تعد «رؤية الصور مجسمة»، من أهم إنجازات الحواسيب، التي أضحت قادرة على إظهار الأجسام الحقيقية في ثلاثة أبعاد فعلية.. ولقد قام العلماء والباحثون بمعالجة الصور المجسمة والتفاعل معها واستخدامها تطبيقياً في مجالات عدة، منها المجال الطبي والأغراض الأكاديمية الأخرى.

 

أولاً‭: ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الطبي

إن الصور المجسمة ألهمت الجراحين ابتداع أساليب تمكن تمرير المسابر أو حزم الأشعة عبر شرائح تصنيف البيانات التشخيصية التي تنتجها آلات التصوير بالرنين المغناطيسي (MR1) وآلات التصوير المقطعي المحوسب (CT)، بغية اختبار الإجراءات المتخذة قبل المباشرة في عملية جراحية.

كما أن تقانة غرس الأعضاء الصناعية التعويضية، اعتمدت على الصور المجسمة، من أجل صناعة أجهزة مصممة على غرار النظم الحية، تؤدي وظائفها نفسها، من هذه الأجهزة غرسات إلكترونية تؤدي وظيفة القنوات نصف الدائرية للأذن، تسهم في استعادة التوازن لدى الأشخاص الذين يعانون اضطراب التوازن المعقد الناشئ عن إصابة التيه الدهليزي vestibular labyrinth في الأذن الداخلية.

 إضافة إلى ما سبق ساعدت الصور المجسمة، العلماء والباحثين في ابتكار جهاز بديل لوصله بالأطراف مثل الذراع واليد، محققاً اتصالاً مباشراً بالجهاز العصبي. وهذا التواصل الثنائي الاتجاه، يسمح للدماغ بالتحكم في حركات الطرف الصناعي أو البديل، وبالشعور بوجوده... أولى الخطوات اللازمة لإعداد الجهاز البديل، تتمثل في إعداد سلك يقوم بتحويل يترجم التدفقات العصبية إلى إشارات كهربائية. وعموماً ينهض الباحثون حالياً على تطوير واجهة بينية فيها ألياف عصبية تجري تنميتها في المختبرات وبوليمرات Polymers موصلة للكهرباء.

كذلك فإن الصور المجسمة فتقت ذهن العلماء على تبني استراتيجيات لإعادة إنماء الأطراف البشرية، في حالات إصابات البتر والجراحات الخطيرة. فلقد رصد الباحثون حيوان السمندل الذي يتميز بأطراف فريدة في عالم الفقاريات، إذ تابعوا آليات قدرة هذا الحيوان على إنماء أجزاء أطرافه التي يفقدها، وكيفية تعويضه الفاقد البيولوجي من جسده. فمن خلال التنظير والمحاكاة الحاسوبية بالصور المجسمة تعلم العلماء كيفية التحكم في بيئة الجرح البشري لإحداث التئام شبيه بالالتئام في السمندل، وهذا ربما يجعل من الممكن إحداث تجدد لأجزاء الجسم الكبيرة.

 أيضا طبعت أذن حيوية إلكترونية بمعرفة الباحثين في جامعة برينستون باستخدام «أحبار» مشكلة من السيليكون والخلايا الغضروفية، حيث يعمل السلك المعدني الملتف على إرسال النبضات الكهربائية واستقبالها، التي تمكنها محاكاة العصب السمعي مثل ما تفعله قوقعة الأذن المزروعة. 

 جدير بالذكر تصنيع الباحثين صفيحة من التيتانيوم وزرعها داخل وجه شخص مريض فقد عظم وجنته وفكه العلوي وعينه اليمنى من جراء السرطان. والصفيحة صنعها التقنيون باستخدام مسح رقمي للجانب السليم من وجه المريض وطابعة ثلاثية الأبعاد.

وقام الباحثون بجامعة هارفارد بطباعة أنسجة حية متداخلة مع الأوعية الدموية، وهذه خطوة تمهد لصنع أعضاء بشرية تطبع من خلايا المريض نفسه الذي يحتاج إلى زراعة هذا العضو أو ذاك. ويمثل هذا التوجه أقصى غايات الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد.

ثانياً‭: ‬في‭ ‬البحوث‭ ‬الأكاديمية

تخدم الصور المجسمة مجالات علمية عديدة، مقدمة إضافات لحقل الدراسات والبحوث التخصصية ذات الصلة بعلوم التاريخ الطبيعي والأحافير والإنثروبولوجيا (علم الإنسان).

يدرس العلماء بحسب إحدى فرضيات علم الإنثروبولوجي البقايا الأحفورية لإنسان نياندرتال، الذي عاش مع إنسان كرومانيون (الماهر) المعاصر «هومو سابين» منذ زهاء عشرة آلاف سنة، قبل أن ينقرض منذ 30 ألف سنة.

وفق تقنيات التصوير المجسم، حاول الباحثون دعم الفرضية السابقة، من خلال تجسيد البقايا الأحفورية المكتشفة لهذا الإنسان، وذلك بهدف الحصول على صورة واقعية للنموذج الإحيائي لهذا المخلوق، وبما يخدم مجالات البحث والدراسات المتخصصة.

ذكرت إحدى الدراسات، أنه «بتطعيم جمجمة الإنسان النياندرتالي بصورة إنسان حي، استطاع خبراء الحاسوب بجامعة إلينوي في شيكاغو تمثيل وتجسيد صورة جانبية لوجه ذلك الإنسان داخل معمل المرئيات البيولوجية الطبية بالكلية. وكان الهدف من البحث هو إجراء مقارنة وتنظير بين الإنسان القديم والإنسان المعاصر من حيث شكل الرأس والوجه والعينين والأنف والأذن، أي الخصائص التشريحية، وهذه مجالات تخدم بحوث الإنثروبولوجيا.

لقد أمكن إنجاز هذا العمل السحري باستخدام برامج حاسوبية معدَّة لتحديد اصطناعي لعمر الأطفال المفقودين، حيث يعاد بناء الوجوه على بقايا هياكل عظمية غير محددة الهوية. وبعد تحويل صور الجماجم القديمة ووجوه النماذج إلى النظام الرقمي Digital، قام الباحثون بتحديد المعالم الجمجمية، من خلال حساب عمق النسيج من البيانات التشريحية التي تم جمعها من الإنسان الحديث. بعد ذلك قام الحاسوب بإنجاز عملية «تشكيل» الوجه بحيث يتلاءم مع الجمجمة.

لقد حلّت الحواسيب محل المواد اللاصقة، بوصفها وسائل لاختيارات إعادة بناء شظايا الأحفورات النياندرتالية ونسخها. وباستخدام تكنولوجيا المسح الضوئي سي. تي ( ct – scan ) والبرامج الثلاثية الأبعاد (3-d software)، استطاع الباحثون في زيورخ وسويسرا استخراج نسخة مطابقة لجمجمة طفل كان ثلث بنيتها العظمية مفقوداً. في البداية، يقوم الحاسوب بملء الفجوات العظمية مقدماً بذلك صورة مطابقة للأصل. بعد ذلك، ومن خلال عملية يطلق عليها التصوير المجسم (stereo lithography)، يجرى استخدام أشعة الليزر الموجهة بالحاسوب، لإضفاء صلابة على الراتنج اللدن في شكل المقاطع العرضية للجمجمة. وتتشكل تدريجياً نسخة دقيقة للجمجمة. أما النسخة المطابقة للأصل فقد تم استخدامها في التصوير طبقاً للنظام الرقمي. وبهذه التكنولوجيا يمكن الحصول على نسخة لجمجمة واقعية.

صنع الباحثون نسخة طبق الأصل من جمجمة الإنسان الماهر «هومو سابين» عمرها 1.9 مليون سنة من مادة راتنج البوليمير، وتظهر بالتدرج على مدى 15 ساعة بطابعة ثلاثية الأبعاد. وقد تعاون كل من «معهد توركانا بازين» و«متاحف كينيا الوطنية» مع شركة للبرمجيات من أجل إنشاء موقع إلكتروني يدعى africanfossils.org ويهدف إلى عرض العديد من الأحافير الشهيرة المكتشفة في شرق إفريقيا ويمكن زيارة الموقع لتنزيل الأحافير وطباعتها بطابعة ثلاثية الأبعاد لأغراض أكاديمية.

طبع الباحثون نسخة دقيقة لمومياء الملك توت عنخ أمون بالحجم الطبيعي من مادة البوليمير الشفاف باستخدام الأشعة المقطعية للمومياء الحقيقية، ثم نُحتت في وقت لاحق وتم صوغها في شكل يشبه اللحم الجاف.

وبالانتقال إلى حقل بحوث علم الحفريات والتاريخ الطبيعي في ما يتصل ببقايا الديناصورات، وهي كائنات معظمها من العماليق التي جابت الأرض، وكانت هيئاتها شبيهة بكائنات مملكة الحيوان، تتناسل وتتكاثر ومنها اللاحم والعاشب والسابح والطائر ومتسلقات الأعالي والمنقبات في الأرض، ومنها ما يعيش في الأدغال الخضراء وأخرى في الصحارى القاحلة، وقد وُجدت تلك المخلوقات منذ ملايين السنين، ترجح فرضية ضرب كويكب الأرض منذ 60 مليون سنة، انقراض الديناصورات، وهذا سائد عند معظم علماء التخصص.

وبالمثل على وتيرة ما فعله علماء الإنثروبولوجي في شأن بقايا إنسان نياندرتال، تطالعنا البحوث الحديثة باستخدام الحاسوب لاستيعاب عملية إعادة بناء هياكل المخلوقات المنقرضة. وهذا ما بادر إليه باحثو علم الحفريات في شيكاغو بالمشاركة مع خبراء متحف ميلانو للعلوم الطبيعية، إذ قام خبراء الاختصاص بمحاكاة أشكال الحيوانات القديمة وبيئاتها،.حيث أجرى الباحثون مسحاً لبقايا إحدى الحفريات بغرض التعرُّف على نوع جديد مكتشف من فصيلة الديناصورات يدعى سبينوصور Spimoseurus، وكانت البقايا متمثلة في قطع عظمية مُسحت بالمركز الطبي في جامعة شيكاغو ومستشفى ماغيور في ميلانو، باستخدام تقنية «التصوير المقطعي المحوسب». وداخل المعمل أضيفت أجزاء أخرى من جسم الديناصور من خلال نسخ صور لعينات أحفورية من متاحف ميلانو وباريس وأماكن أخرى، بالإضافة إلى صور رقمية لعديد من اللقطات الفوتوغرافية التي تم أخذها من مواقع الحفريات، وكذلك الرسومات المتصلة بها.

ولتجاوز عقبة تفاوت أحجام العظام، بسبب الفروقات بين عينات الحيوانات البالغة وتلك الصغيرة، لجأ العلماء إلى تقنية «التدرج الرقمي». وقد ساعدت خبرات الباحثين في برنامج التجسيم الرقمي «ZBRUSH»، في تلك العملية من خلال النحت الرقمي والتصميم بالأبعاد الثلاثية لباقي العظام التي لم يُعثر عليها، وكذلك اعتماداً على عملية مسح ديناصورات لها التركيبة البنيوية نفسها. وبعد أن بذل العلماء جهداً جهيداً في تركيب فقرات النموذج التي كانت 83 فقرة، وبمراعاة الأبعاد المفترضة بين الفقرات توصَّل الباحثون إلى أن هذا المخلوق بلغ طولاً يقارب 15 متراً من الأنف إلى الذيل. وكان هذا يمثل إضافة علمية لحقل التخصص وهو أن هذا الكائن العملاق الذي كان لاحماً، كان أكبر الكائنات المكتشفة وأكبر من سابقيه في الكشوف الأحفورية.

وبعد عملية التصوير المقطعي للعظام باستخدام الحاسوب، كسا العلماء الهيكل بالجلد الرقمي من أجل إنشاء نموذج حيوي محوسب. وقد مكنهم ذلك من حساب مركز ثقل الحيوان، وبالتالي الوصول إلى فهم أفضل لخاصياته الحركية، التي رجحت أنه كان يسير على أربع، على خلاف الديناصورات
اللاحمة .