محطات كهربائية تتحرك في الماء

هناك‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬الطبيعية‭ ‬التي‭ ‬يقف‭ ‬أمامها‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬عاجزاً‭ ‬قاصراً‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬كنهها‭ ‬ومعرفة‭ ‬أمرها‭. ‬وفي‭ ‬تاريخ‭ ‬العلم‭ ‬ظاهرة‭ ‬توقّف‭ ‬الإنسان‭ ‬أمامها‭ ‬كثيراً،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬لها‭ ‬تفسيراً‭ ‬‮«‬مقبولاً‮»‬‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬هي‭ ‬الكهرباء،‭ ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬الإنسان‭ ‬ردحاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬السنين‭ ‬على‭ ‬دراية‭ ‬بفوائد‭ ‬الكهرباء‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬ماهيتها،‭ ‬وماهية‭ ‬القوى‭ ‬الخفية‭ ‬التي‭ ‬تحركها‭.‬

ومن‭ ‬الطريف‭ ‬أن‭ ‬الكهرباء‭ ‬قد‭ ‬استخدمها‭ ‬الأطباء‭ ‬قبل‭ ‬المهندسين‭ ‬والفيزيائيين،‭ ‬إذ‭ ‬شاع‭ ‬استخدامها‭ ‬في‭ ‬علاج‭ ‬المرضى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬توماس‭ ‬أديسون‭ ‬Thomas‭ ‬Edison‭ (‬1847‭ ‬ذ‭ ‬1931م‭) ‬من‭ ‬اختراع‭ ‬المصباح‭ ‬الكهربائي،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬نيلز‭ ‬بور‭ ‬Neils‭ ‬Bohr‭ (‬1885‭ ‬ذ‭ ‬1962م‭) ‬وأرنست‭ ‬رزرفورد‭ ‬Ernest‭ ‬Rutherford
‭(‬1871‭ ‬ذ‭ ‬1937م‭) ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬كشف‭ ‬النقاب‭ ‬عن‭ ‬أسرار‭ ‬الذرة‭ ‬التي‭ ‬قادت‭ ‬العلماء‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬ماهية‭ ‬الكهرباء‭ ‬وإدراك‭ ‬كنهها،‭ ‬وأنها‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬حركة‭ ‬الإلكترونات‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مادة‭ ‬معدنية‭ ‬موصلة‭ ‬conductive‭ ‬metal‭ (‬كالنحاس‭ ‬أو‭ ‬الألمنيوم‭)‬،‭ ‬مكونة‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بالتيار‭ ‬الكهربائي‭. ‬

 

قصة‭ ‬قديمة‭ ‬الجذور‭ ‬

علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالكهرباء‭ ‬ذ‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬ماهيتها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ذ‭ ‬تعود‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ ‬يوغل‭ ‬في‭ ‬القدم،‭ ‬وتحكي‭ ‬لنا‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬مشاهير‭ ‬الأطباء‭ ‬ذ‭ ‬إبان‭ ‬عصر‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬ذ‭ ‬كانوا‭ ‬يعالجون‭ ‬مرضاهم‭ ‬بالكهرباء‭ ‬التي‭ ‬تولدها‭ ‬محطات‭ ‬كهربائية‭ ‬تحت‭ ‬سطح‭ ‬الماء،‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أجسام‭ ‬مخلوقات‭ ‬بحرية،‭ ‬هي‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية‭.‬

ومن‭ ‬أشهر‭ ‬الأسماك‭ ‬المولدة‭ ‬للكهرباء‭ - ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬قدامى‭ ‬الرومان‭ ‬ذ‭ ‬سمكة‭ ‬الورنك‭ ‬skate،‭ ‬وهي‭ ‬سمكة‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬مياه‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭. ‬وقد‭ ‬لاحظ‭ ‬الرومان‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬تستطيع‭ ‬بها‭ ‬هذه‭ ‬السمكة‭ ‬أن‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬غذائها،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تطارد‭ ‬فريستها،‭ ‬ولا‭ ‬تنصب‭ ‬لها‭ ‬كميناً،‭ ‬ولكنها‭ ‬تعوم‭ ‬في‭ ‬مياه‭ ‬البحر‭ ‬بهدوء‭ ‬تام،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬ساق‭ ‬القدر‭ ‬إلى‭ ‬جوارها‭ ‬سمكة‭ ‬ذات‭ ‬حظ‭ ‬تعيس،‭ ‬حدث‭ ‬شيء‭ ‬مفاجئ،‭ ‬ترتعش‭ ‬له‭ ‬الفريسة،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬ثوان‭ ‬معدودات‭ ‬حتى‭ ‬تصبح‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬القتلى،‭ ‬وعندئذ‭ ‬تنقضّ‭ ‬سمكة‭ ‬الورنك‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الضحية‭ ‬المسكينة‭ ‬لتلتهمها‭ ‬هنيئاً‭ ‬مريئاً،‭ ‬ثم‭ ‬تمضي‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬والسكينة‭ ‬تغشاها،‭ ‬وكأن‭ ‬شيئاً‭ ‬لم‭ ‬يكن‭. ‬وقد‭ ‬اعتقد‭ ‬الرومان‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السمكة‭ ‬العجيبة‭ ‬تفرز‭ ‬مادة‭ ‬سامة‭ ‬بمجرد‭ ‬رؤيتها‭ ‬للفريسة،‭ ‬ولذلك‭ ‬راحوا‭ ‬يهتمون‭ ‬بتربية‭ ‬سمكة‭ ‬الورنك‭ ‬في‭ ‬أحواض‭ ‬خاصة،‭ ‬ويستخدمون‭ ‬‮«‬سمّها‮»‬‭ ‬في‭ ‬علاج‭ ‬مرضى‭ ‬الروماتيزم،‭ ‬إذ‭ ‬إنهم‭ ‬وجدوا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬السم‮»‬‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬حينما‭ ‬يلامس‭ ‬جسم‭ ‬هذه‭ ‬السمكة،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يسبب‭ ‬الموت‭ ‬له،‭ ‬وإنما‭ ‬يصيبه‭ ‬بصدمة‭ ‬ترتعش‭ ‬لها‭ ‬يداه،‭ ‬وتكون‭ ‬أشبه‭ ‬بالصدمة‭ ‬التي‭ ‬يستشعرها‭ ‬المرء‭ ‬حين‭ ‬يلامس‭ ‬سلكاً‭ ‬كهربائياً‭ ‬عارياً‭. ‬

وفي‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬فإن‭ ‬السم‭ ‬الذي‭ ‬تحدث‭ ‬عنه‭ ‬الرومان‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غير‭ ‬الكهرباء‭ ‬التي‭ ‬تولدها‭ ‬محطات‭ ‬الطاقة‭ ‬الكهربائية‭ ‬المتحركة‭ ‬في‭ ‬مياه‭ ‬البحر،‭ ‬أقصد‭ ‬أسماك‭ ‬الورنك‭.‬

 

مأساة‭ ‬دي‭ ‬سيكا

حينما‭ ‬وصل‭ ‬المغامرون‭ ‬الإسبان‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬انتشرت‭ ‬أسطورة‭ ‬بينهم،‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬قارة‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية،‭ ‬اسمها‭: ‬‮«‬الإلدورادو‭ ‬El‭ ‬Dorado‮»‬،‭ ‬جدرانها‭ ‬وأرصفة‭ ‬شوارعها‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬الإبريز‭ ‬الخالص،‭ ‬وقد‭ ‬تدافعت‭ ‬جماعات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬المغامرين‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القارة‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المدينة،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الجماعات‭ ‬فريق‭ ‬كان‭ ‬يرأسه‭ ‬رجل‭ ‬شهير‭ ‬وقتذاك‭ ‬يدعى‭ ‬‮«‬دي‭ ‬سيكا‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬تمكَّن‭ ‬هذا‭ ‬الفريق‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬أعالي‭ ‬نهر‭ ‬الأمازون،‭ ‬واضطر‭ ‬أفراده‭ ‬إلى‭ ‬قضاء‭ ‬أشهر‭ ‬عدة‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬قارب‭ ‬حتى‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬مصبّ‭ ‬النهر،‭ ‬وهناك‭ ‬شاهدوا‭ ‬كيف‭ ‬تحوّل‭ ‬أحد‭ ‬روافد‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬العظيم‭ ‬إلى‭ ‬جدول‭ ‬صغير،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬الفريق‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬القارب‭ ‬ويستكمل‭ ‬مسيرته‭ ‬سيراً‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬في‭ ‬الأدغال،‭ ‬أملاً‭ ‬في‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬ذهب‭ ‬الإلدورادو،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬فريق‭ ‬‮«‬دي‭ ‬سيكا‮»‬‭ ‬أن‭ ‬يتحدى‭ ‬عشرات‭ ‬الأخطار‭ ‬التي‭ ‬تواجهه،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬التماسيح‭ ‬والأفاعي‭ ‬السامة،‭ ‬وانتهاء‭ ‬بالهنود‭ ‬الحمر‭.‬

وحين‭ ‬وصل‭ ‬فريق‭ ‬‮«‬دي‭ ‬سيكا‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬المستنقعات‭ ‬الضحلة،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬أفراده‭ ‬أن‭ ‬يعبروه‭ ‬بالقارب،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمامهم‭ ‬من‭ ‬حلّ‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يعبروه‭ ‬سيراً‭ ‬على‭ ‬الأقدام،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬قاع‭ ‬المستنقع‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عميقاً،‭ ‬وبالفعل‭ ‬واصل‭ ‬أفراد‭ ‬الفريق‭ ‬طريقهم‭ ‬في‭ ‬هدوء،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الهدوء‭ ‬لم‭ ‬يدم‭ ‬طويلاً،‭ ‬فبمجرد‭ ‬وصول‭ ‬الفريق‭ ‬إلى‭ ‬وسط‭ ‬المستنقع،‭ ‬حيث‭ ‬انتشرت‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬البرك‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬يتصل‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض،‭ ‬ظهرت‭ ‬علامات‭ ‬الهلع‭ ‬والفزع‭ ‬على‭ ‬وجوه‭ ‬الحمالين‭ (‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر‭). ‬ورفض‭ ‬الحمالون‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬عبور‭ ‬هذه‭ ‬البرك،‭ ‬وعبثاً‭ ‬ضاعت‭ ‬محاولات‭ ‬فريق‭ (‬دي‭ ‬سيكا‭) ‬في‭ ‬إقناعهم‭ ‬بمواصلة‭ ‬السير‭ ‬والتقدم،‭ ‬وفجأة‭ ‬تقدم‭ ‬أحد‭ ‬الأوربيين‭ ‬فغرس‭ ‬رجليه‭ ‬في‭ ‬البركة،‭ ‬ومضى‭ ‬بخطوات‭ ‬جريئة،‭ ‬ليضرب‭ ‬للهنود‭ ‬الحمر‭ ‬مثالاً‭ ‬في‭ ‬البطولة‭ ‬والجرأة،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬مضت‭ ‬لحظات‭ ‬حتى‭ ‬صرخ‭ ‬هذا‭ ‬المغامر‭ ‬صرخة‭ ‬عالية،‭ ‬وكأنما‭ ‬هبطت‭ ‬عليه‭ ‬صاعقة‭ ‬من‭ ‬السماء،‭ ‬أو‭ ‬لدغته‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفاعي‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬وأسرع‭ ‬إليه‭ ‬اثنان‭ ‬من‭ ‬رفاقه‭ ‬يمدان‭ ‬له‭ ‬يد‭ ‬المساعدة،‭ ‬فغشيهما‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬العذاب‭ ‬ما‭ ‬غشي‭ ‬صاحبهما‭. ‬وبدا‭ ‬الاثنان‭ ‬وكأنهما‭ ‬قد‭ ‬تعرّضا‭ ‬لضربة‭ ‬قاضية‭ ‬طمرتهما‭ ‬حتى‭ ‬ركبتي‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬في‭ ‬الوحل،‭ ‬ووقف‭ ‬باقي‭ ‬أفراد‭ ‬الفريق‭ ‬مكتوفي‭ ‬الأيدي،‭ ‬عاجزين‭ ‬عن‭ ‬إنقاذ‭ ‬زملائهم،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية،‭ ‬تجرّأ‭ ‬بعضهم‭ ‬فدخل‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬بحذر‭ ‬لانتشال‭ ‬المساكين‭ ‬الثلاثة،‭ ‬وعاد‭ ‬فريق‭ ‬‮«‬دي‭ ‬سيكا‮»‬‭ ‬بخُفّي‭ ‬حنين‭. ‬

وفي‭ ‬واقع‭ ‬الأمر،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬هذا‭ ‬الفريق‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البرك‭ ‬كان‭ ‬مردّه‭ ‬إلى‭ ‬محطات‭ ‬كهربائية‭ ‬قوية‭ ‬متحركة‭ ‬تشبه‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تحدثنا‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬والتي‭ ‬تنتج‭ ‬من‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬سمكة‭ ‬الورنك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬المسؤولة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬وإنما‭ ‬‮«‬الأنقليس‮»‬‭ ‬eel،‭ ‬والسمكة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬ضخمة‭ ‬جداً،‭ ‬وقد‭ ‬يصل‭ ‬طولها‭ ‬إلى‭ ‬زهاء‭ ‬مترين،‭ ‬أما‭ ‬وزنها‭ ‬فيصل‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬عشرين‭ ‬كيلوجراماً‭.‬

وقد‭ ‬أطلق‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر‭ ‬على‭ ‬سمكة‭ ‬الأنقليس‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬أريما‮»‬‭ ‬أي‭: ‬‮«‬أم‭ ‬الشلل‮»‬‭ ‬بلغتهم،‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬يمسه‭ ‬هذا‭ ‬الثعبان‭ ‬السمكي‭ ‬بجسمه‭ ‬تُفرَّغ‭ ‬فيه‭ ‬شحنة‭ ‬من‭ ‬الكهرباء،‭ ‬تجعل‭ ‬الجزء‭ ‬العلوي‭ ‬الذي‭ ‬أصابه‭ ‬المس‭ ‬يصاب‭ ‬بالشلل‭ ‬جزئياً‭ (‬أي‭ ‬لفترة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭)‬،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬يشفى‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬أيام‭ ‬عدة‭.‬

وتصل‭ ‬شدة‭ ‬التيار‭ ‬الكهربائي‭ ‬الذي‭ ‬تولده‭ ‬سمكة‭ ‬الأنقليس‭ ‬إلى‭ ‬600‭ ‬فولت،‭ ‬وهي‭ ‬قوة‭ ‬تكفي‭ ‬لجعل‭ ‬أعظم‭ ‬تمساح‭ ‬يفقد‭ ‬مؤقتاً‭ ‬كل‭ ‬قواه،‭ ‬وينتفض‭ ‬جسده‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬الصدمة‭ ‬الكهربائية،‭ ‬أما‭ ‬أسماك‭ ‬الورنك‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬المياه‭ ‬المالحة،‭ ‬فإن‭ ‬التيار‭ ‬الكهربائي‭ ‬الذي‭ ‬تولده‭ ‬يكون‭ ‬صغيراً‭ ‬مقارنة‭ ‬بأسماك‭ ‬الأنقليس‭.‬

وتوجد‭ ‬محطات‭ ‬توليد‭ ‬التيار‭ ‬الكهربائي‭ ‬في‭ ‬عضلات‭ ‬خاصة‭ ‬بالأسماك‭ ‬التي‭ ‬ذكرناها‭ ‬وفي‭ ‬أنواع‭ ‬غيرها،‭ ‬كما‭ ‬توجد‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬أطرافها‭ ‬العصبية‭ ‬وفي‭ ‬خلايا‭ ‬خاصة‭ ‬تُعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬اللويحات‭ ‬العصبية‮»‬‭.‬

وتتفاوت‭ ‬القدرات‭ ‬الكهربائية‭ ‬لكل‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬مئات‭ ‬الأنواع‭ ‬من‭ ‬أسماك‭ ‬الرعّاد‭ (‬الرعاش‭) ‬التي‭ ‬تنتشر‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬سمكتان‭ ‬متماثلتان‭ ‬تماماً،‭ ‬لكل‭ ‬منهما‭ ‬نفس‭ ‬القدرة‭ ‬الكهربائية‭ ‬لأختها،‭ ‬فمعدل‭ ‬إنتاج‭ ‬الكهرباء‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬منهما‭ ‬مختلف،‭ ‬وتتفاوت‭ ‬شحنة‭ ‬الكهرباء‭ ‬لديها‭ ‬بحسب‭ ‬الجنس‭ ‬والنوع‭ ‬والعمر‭ ‬والحالة‭ ‬المزاجية‭ ‬للسمكة‭ ‬أيضاً‭. ‬

وتحتوي‭ ‬كل‭ ‬سمكة‭ ‬من‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية‭ ‬على‭ ‬‮«‬صندوق‭ ‬أدوات‮»‬‭ ‬مناسب،‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬مورثات‭ (‬جينات‭) ‬خاصة،‭ ‬تمارس‭ ‬دورها‭ ‬المرسوم‭ ‬لتكوين‭ ‬العضو‭ ‬المولد‭ ‬للكهرباء‭ ‬من‭ ‬العضلات‭ ‬الهيكلية‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تعدد‭ ‬أنواع‭ ‬الرعّاد،‭ ‬فإنها‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الجينات‭ ‬التي‭ ‬تضطلع‭ ‬بمهمة‭ ‬تكوين‭ ‬الأعضاء‭ ‬الكهربائية،‭ ‬مهما‭ ‬اختلفت‭ ‬أنواع‭ ‬الرعاد‭ ‬في‭ ‬أشكالها،‭ ‬وعند‭ ‬الشعور‭ ‬بالخطر،‭ ‬أو‭ ‬إذا‭ ‬اقتضت‭ ‬الحاجة،‭ ‬تقوم‭ ‬السمكة‭ ‬الكهربائية‭ ‬بتفريغ‭ ‬شحنتها‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬فريستها‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬اندفاعات‭ ‬أو‭ ‬طلقات‭ ‬كهربائية،‭ ‬ويولّد‭ ‬الأنقليس‭ ‬الرعاد‭ ‬عادة‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬إلى‭ ‬خمس‭ ‬اندفاعات‭ ‬كهربائية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يفرغ‭ ‬فيها‭ ‬شحنته،‭ ‬وهو‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بسرعة‭ ‬خارقة،‭ ‬إذ‭ ‬تستغرق‭ ‬كل‭ ‬اندفاعة‭ ‬نحو‭ ‬جزء‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬خمسمائة‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الثانية‭. ‬والجهاز‭ ‬الكهربائي‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬ثعابين‭ ‬الأنقليس‭ ‬السمكية‭ ‬ضخم،‭ ‬ويبلغ‭ ‬وزنه‭ ‬نحو‭ ‬ثلث‭ ‬وزن‭ ‬السمكة،‭ ‬أما‭ ‬طوله‭ ‬فيبلغ‭ ‬زهاء‭ ‬أربعة‭ ‬أخماس‭ ‬طول‭ ‬السمكة‭. ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية‭ ‬يصل‭ ‬طول‭ ‬الجهاز‭ ‬الكهربائي‭ ‬إلى‭ ‬قرابة‭ ‬طول‭ ‬جسم‭ ‬السمكة‭ ‬نفسها،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬القراميط‭ ‬البحرية‭ ‬catfish،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يستخدم‭ ‬الإنسان‭ ‬الكهرباء‭ ‬في‭ ‬صيد‭ ‬الأسماك،‭ ‬وهي‭ ‬طريقة‭ ‬لها‭ ‬أضرارها‭ ‬البيئية،‭ ‬كانت‭ ‬ولاتزال‭ ‬بعض‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية‭ ‬تستخدم‭ ‬قوتها‭ ‬الكهربائية‭ ‬في‭ ‬صيد‭ ‬غيرها،‭ ‬وتقنيتها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بسيطة‭ ‬ورائعة،‭ ‬فلكل‭ ‬مصدر‭ ‬كهربائي‭ ‬مجاله‭ ‬الذي‭ ‬يحيط‭ ‬به،‭ ‬وإذا‭ ‬حدث‭ ‬أن‭ ‬مرت‭ ‬سمكة‭ ‬ضالة‭ ‬أو‭ ‬بلهاء‭ ‬عبر‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬فعندئذ‭ ‬تستشعرها‭ ‬أجهزة‭ ‬الإنذار‭ ‬المبكر‭ ‬الموجودة‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬جسد‭ ‬المحطة‭ ‬الكهربائية‭ ‬المغمورة‭ ‬في‭ ‬الماء،‭ ‬فتطلق‭ ‬المحطة‭ ‬قذيفتها‭ ‬الكهربائية‭ ‬تجاه‭ ‬الهدف،‭ ‬فتفقد‭ ‬السمكة‭ ‬الضالة‭ ‬رشدها،‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬للفرار‭ ‬سبيلاً،‭ ‬ومن‭ ‬صدمتها‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬الحركة،‭ ‬فتأكلها‭ ‬السمكة‭ ‬الكهربائية‭ ‬هنيئة‭ ‬بها‭ ‬مريئة،‭ ‬ولسان‭ ‬حالها‭ ‬يقول‭: ‬أنا‭ ‬ابن‭ ‬جلا‭ ‬ومبتدع‭ ‬الكهارب‭ ‬للفنا،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬إذا‭ ‬مرت‭ ‬بسمكتنا‭ ‬الكهربائية‭ ‬سمكة‭ ‬أخرى‭ ‬مفترسة‭ ‬لا‭ ‬طاقة‭ ‬لها‭ ‬بها،‭ ‬فإن‭ ‬نظام‭ ‬إنذارها‭ ‬الكهربائي‭ ‬المبكر‭ ‬ينذرها‭ ‬بالخطر‭ ‬المقبل،‭ ‬وعندئذ‭ ‬تولي‭ ‬الأدبار،‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬ملجأ‭ ‬آمن‭ ‬تختبئ‭ ‬فيه،‭ ‬حتى‭ ‬تنطلق‭ ‬صفارة‭ ‬الأمان‭.‬

وثمة‭ ‬فائدة‭ ‬أخرى‭ ‬للكهرباء‭ ‬التي‭ ‬تولّدها‭ ‬بعض‭ ‬أنواع‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية،‭ ‬فهي‭ ‬وسيلة‭ ‬اتصال‭ ‬مع‭ ‬أبناء‭ ‬جلدتها،‭ ‬وبها‭ ‬تميز‭ ‬حبيبها‭ ‬من‭ ‬عدوها،‭ ‬وتعرف‭ - ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬ذ‭ ‬كيف‭ ‬تشق‭ ‬طريقها‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬غياهب‭ ‬البحر‭ ‬الدامس،‭ ‬وثمة‭ ‬ثلاث‭ ‬مجموعات‭ ‬من‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬العظميات‭ ‬teleost‭ (‬وهي‭ ‬من‭ ‬طائفة‭ ‬شعاعيات‭ ‬الزعانف‭) ‬وتعيش‭ ‬في‭ ‬المياه‭ ‬العذبة،‭ ‬تنتج‭ ‬إشارات‭ ‬كهربائية،‭ ‬وهي‭ ‬تستخدمها‭ ‬لغرض‭ ‬مزدوج،‭ ‬فمن‭ ‬خلالها‭ ‬تقوم‭ ‬بتحديد‭ ‬مواقع‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بها،‭ ‬وبواسطتها‭ ‬تتواصل‭ ‬مع‭ ‬أبناء‭ ‬جلدتها‭ ‬إذا‭ ‬عسعس‭ ‬الليل،‭ ‬وتنتج‭ ‬هذه‭ ‬الإشارات‭ ‬مجالات‭ ‬إلكترواستاتيكية‭ ‬قصيرة‭ ‬المدى،‭ ‬والحكمة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هي‭ ‬ألا‭ ‬تلتقطها‭ ‬المفترسات‭ ‬من‭ ‬أعداء‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية،‭ ‬لاسيما‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتمتع‭ ‬بخاصية‭ ‬استقبال‭ ‬الإشارات‭ ‬الكهربائية‭. ‬ومن‭ ‬الطريف‭ ‬أن‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية‭ ‬التي‭ ‬تتصف‭ ‬بكون‭ ‬إنتاجها‭ ‬من‭ ‬الكهرباء‭ ‬ضعيفاً‭ ‬لم‭ ‬تعدم‭ ‬وسيلة‭ ‬لتحمي‭ ‬نفسها‭ ‬وتؤمَّن‭ ‬اتصالاتها،‭ ‬فهي‭ ‬‮«‬تشفِّر‮»‬‭ ‬إرسالها‭ ‬من‭ ‬الإشارات‭ ‬الكهربائية‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تلتقطه‭ ‬الأسماك‭ ‬المعادية‭ ‬التي‭ ‬تتسم‭ ‬بقدرتها‭ ‬على‭ ‬استقبال‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الإشارات‭. ‬وتقوم‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية‭ ‬بتنظيم‭ ‬إرسالها‭ ‬لإشاراتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إفرازاتها‭ ‬لهرمونات‭ ‬الستيرويد‭ ‬steroid‭ ‬والببتيد‭ ‬peptide‭. ‬ويتميز‭ ‬ثعبان‭ ‬الأنقليس‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الأسماك‭ ‬الكهربائية‭ ‬بقدرته‭ ‬العجيبة‭ ‬على‭ ‬توليد‭ ‬إشارات‭ ‬كهربائية‭ ‬ضعيفة‭ ‬وأخرى‭ ‬قوية‭ ‬صاعقة،‭ ‬وهو‭ ‬يستخدم‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬المواقع‭ ‬وفي‭ ‬الاتصال‭ ‬والتواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬مع‭ ‬أقرانه‭. ‬ويستخدم‭ ‬الأخرى‭ ‬ذات‭ ‬الجهد‭ ‬العالي‭ ‬ليفرغها‭ ‬في‭ ‬أجساد‭ ‬فرائسه‭ ‬وفي‭ ‬أبدان‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬به‭ ‬شراً،‭ ‬فلكل‭ ‬مقام‭ ‬إشارة،‭ ‬ولكل‭ ‬حادث‭ ‬سلاح،‭ ‬وسبحان‭ ‬الذي‭ ‬أعطى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬خلقه‭ ‬ثم‭ ‬هدى‭ ‬