إكزومارس... رحلة البحث عن حياة مريخية

لم يسبق لأي بعثة مريخية سابقة أن حسمت مسألة وجود حياة على كوكب المريخ، فهل ينجح برنامج «إكزومارس» الأحدث في الإجابة عن هذا السؤال؟
ولطالما أثار كوكب المريخ مخيلة العلماء والباحثين منذ أوقات بعيدة، وتطلعوا إلى معرفته وكشف غموضه. لكن ابتكار المنظار الفلكي وتطويره على يد جاليليو في عام 1609م نقل خيالاتهم وتساؤلاتهم النظرية هذه إلى حقل الأرصاد والمشاهدات العلمية المقرّبة. ومنذ مجيء عصر الفضاء، وإرسال المسابر الفضائية إلى مختلف مكوّنات النظام الشمسي، فقد حظي المريخ  بحصة كبيرة للغاية من البعثات الفضائية، وهي بعثات اقتصر هدف معظمها على الدراسة الجيولوجية والمناخية للمريخ، دون التركيز على مسألة وجود حياة - من أي شكل - عليه، وخاصة بعد أن أعادت بعثة مارينر 4 في عام 1965م صوراً صادمة ومحبطة للعلماء تظهر سطح الكوكب الأحمر كمكان أجرد قاحل معاد لكل أنواع الحياة.

   ولعل أبرز بعثة طمحت إلى الإجابة عن مسألة وجود حياة مريخية، مازالت هي بعثة فايكنغ Viking المزدوجة التي أرسلتها وكالة NASA الأمريكية في عام 1976. اشتملت بعثة فايكنغ على عدة تجارب بيولوجية هدفت إلى إجراء تحاليل موضعية لتربة المريخ، وذلك بوضع عينات منها في مختبر خاص على متنها يمكنه كشف وجود أي نشاط بيولوجي يشير إلى وجود عمليات استقلاب أو تحلل مركبات عضوية فيها. كانت خلاصة التجارب هي إعطاء واحدة فقط منها نتيجة إيجابية تمثلت بانطلاق غاز بعد إضافة مادة مغذية للعينة. ومع إخفاق بقية التجارب الأخرى على كلا مركبتي فايكنغ في كشف وجود أي جزيئات عضوية، فقد رجّح العلماء أن يكون انطلاق الغاز في التجربة السابقة نتيجة عمليات لا عضوية.
أما بعثة مارس باثفايندر في عام 1997م، فقد هدفت بالدرجة الأولى إلى اختبار تقانات هبوط جديدة، إضافة إلى تجربة الجوالة الآلية الشهيرة سوجورنر Sojourner التي كانت أول مركبة جوالة سارت بعجلاتها على سطح الكوكب الأحمر، وأثبتت الأهمية الكبيرة لحركة المركبة من مكان لآخر عليه، وحققت نجاحاً كبيراً بعملها المتواصل لمدة 3 أشهر بدلاً من شهر واحد. لكن البحث عن حياة مريخية لم يكن ضمن أهداف بعثة مارس باثفايندر.
كما اشتملت بعثتا سبيريت وأوبورتشينيتي في عام 2004، على سلسلة كبيرة من تجارب بحثت عن الماء ودرست بيئته، إضافة إلى تجريب تقانات جديدة تمهد للجيل اللاحق من مركبات الهبوط؛ لكنها خلت أيضاً من معدات البحث عن حياة مريخية. وكذلك كان شأن آخر بعثات الهبوط التي أرسلتها NASA، وهي بعثة مختبر علوم المريخ  MSL) Mars Sciemce Laboratoty), إذ لم يشمل برنامج عملها الرئيس البحث عن حياة بصورة مباشرة. ولسوء الحظ، فإن بعثة أخرى سابقة وخاصة بكشف وجود حياة في تربة المريخ، هي بعثة Mars 96 الروسية، كانت قد باءت بالفشل بعيد إطلاقها، وسقوطها فوق أمريكا الجنوبية.
أما المركبات المدارية، فقد اضطلع معظمها بمهمات رسم خرائط سطح الكوكب، ودراسة غلافه الغازي وحقله المغناطيسي، ومتابعة عمل مركبات الهبوط ونقل بياناتها إلى مراكز التحكم والمتابعة على الأرض وبالعكس. كما أنه لم يكن سهلاً تصميم تجارب عليها لتقصي وجود حياة في تربة الكوكب وهي في حركتها السريعة عالياً في المدار.

حياة مريخية؟
باختصار، بعد مشاهد صور مارينر 4 والبعثات اللاحقة، تولد انطباع لدى العلماء أن المريخ كوكب ميت، لكن ما حصل على الأرض من اكتشافات غير قليلة لأنواع حية في أوساط غير مألوفة لها دعاهم إلى مراجعة مفهوم قابلية بيئة ما، أو كوكب ما، للحياة، ولو بصورة مغايرة لما هو متوقع. لقد اكتشف علماء الحياة على الأرض أنواعاً حية في بيئات بالغة القسوة بالنسبة إلى معظم أنواع الحياة المعروفة، كتلك التي وجدت عند فوهات الينابيع الكبريتية الحارة في أعماق المحيط بعيداً عن الضوء والأكسجين؛ وأيضاً الجراثيم التي اكتشفت حية على أعماق كبيرة في التربة في بيئة تقرب حرارتها من درجة غليان الماء؛ وهناك أيضاً المتعضيات التي اكتشفت في بيئات قطبية متجمدة. كما أظهرت تجارب علمية على كائنات أرضية حيّة نقلت إلى محطة الفضاء الدولية قدرة غير متوقعة لها على الحياة في بيئة غريبة وخطرة. ولعل اكتشاف أشكال مستحاثة لها شكل عصيات بكتيرية في الحجر النيزكي المريخي الشهير ALH 84001 الذي التقط في منطقة آلان هيلز في القطب الجنوبي في عام 1984م، وما أثار شبهها من شكوك باحتمال كونها مستحاثات بكتيرية، جعل العلماء ووكالات الفضاء يعيدون النظر في مسألة البحث عن حياة على كوكب المريخ وغيره. فالمريخ، ورغم ما يبدو عليه من مظاهر معادية للحياة، فإنه يحظى أيضاً بخصلة من الخصائص المناسبة لها، مثل وجوده على أطراف المنطقة الصالحة للحياة حول الشمس، ووجود الماء فيه، وغلافه الغازي، وطول يومه، وميله المحوري، وغير ذلك. 
كان لابد للعلماء، والحال هذه، من تصميم وإرسال بعثة جديدة، تستهدف البحث عن حياة عضوية ما، يحتمل وجودها في تربة المريخ، وخاصة بعد أن أثبتت البعثات السابقة وجود الماء، بشكليه الجليدي والسائل، في تربة المريخ. 
بدأ مشروع إكزومارس ExoMars بتعاون بين وكالتي الفضاء الأمريكية NASA والأوربية ESA، وهدف إلى بناء وإرسال بعثة مشتركة إلى الكوكب الأحمر، تتكون من مركبة مدارية، هي TGO) Trace Gas Orbiter)، ومركبة الهبوط سكياباريللي. لكن «NASA» اضطرت إلى وقف مشاركتها في المشروع بعد تخفيض موازنتها ونفقاتها، ولذلك اتجهت وكالة الفضاء الأوربيّة تطلب مشاركة ومساعدة وكالة الفضاء الروسيّة لمواصلة المشروع الذي تألف من مرحلتين: مرحلة إكزومارس - 2016م، التي أطلقت يوم 14 مارس الماضي؛ والثانية، إكزومارس - 2018م، التي خطط لإرسالها في مايو من عام 2018م. 

مركبة أوربية على صاروخ روسي
يبرز حضور وكالة الفضاء الروسيّة في المشروع من خلال تقديمها الصاروخ الحامل بروتون-إم لكلا المرحلتين. يستطيع هذا الصاروخ القوي نقل حمولة كتلتها 22 طناً إلى مدار قريب من الأرض، وأقل من ذلك إلى مسافات أبعد، وهو من النماذج الحديثة في سلسلة بروتون الموثوق بكفاءتها. كما أسهمت الوكالة الروسية بتقديم مجموعة من المعدات العلمية على متن المركبة المدارية TGO؛ وستعمل الوكالة على بناء مركبة الهبوط (القاعدة) في بعثة المرحلة الثانية. أما وكالة الفضاء الأوربية فقد قدمت مركبة الهبوط سكياباريللي Schiaparelli، والمركبة المدارية TGO، ومعظم المعدات العلمية عليهما، إضافة إلى الدعم الفني والمتابعة في مراكز التحكم والتوجيه الأرضية. كما أنها ستبني مركبة إكزومارس الجوالة الخاصة بالمرحلة الثانية ومعظم معداتها العلمية التي ستجول بها على سطح المريخ بعد هبوطها عليه في أوائل عام 2019م.

أهداف البعثة
ستقوم مركبة TGO المدارية في مرحلة إكزومارس - 2016م بتقصي ودراسة مجموعة من الغازات ضئيلة الأثر في غلاف المريخ الغازي، وخاصة منها غاز الميثان الذي يرغب العلماء بمعرفة مصدره: فالميثان يمكن له أن ينتج من عملية بيولوجية (حيوية) أو غير بيولوجية. لقد أثبتت البعثات السابقة وجوداً واضحاً لغاز الميثان المريخي، لكنها لم تتمكن من تحديد مصدره: أهو عضوي أم جيولوجي؟ كما عرف العلماء أن هذا الميثان يدوم في غلاف المريخ الغازي عدة قرون فقط، ولذا كان لابد من وجود آلية ما، عضوية أو جيولوجية، لتجديده. ستبحث TGO عن غاز الميثان وأماكن إطلاقه المحتملة على سطح الكوكب. وإذا تمكنت من كشف تلك الأماكن، فهي ستقدم بذلك للعلماء مجموعة من المواقع المرشحة لهبوط جوالة إكزومارس التالية في عام 2019 م، والتي ستبحث في هذه المواقع عن أدوات صنعه الحيّة.
أما مركبة الهبوط التجريبية سكياباريللي فستقوم بتجريب طرق جديدة للهبوط، وستجري اختبارات بيئية وغازية في مكان هبوطها. ورغم قصر فترة عملها التي ستدوم عدة أيام فقط، فإن نتائج عملها ستمهد الطريق لجوالة إكزومارس التي سترسل ضمن المرحلة الثانية من المشروع في عام 2018م. 

إكزومارس - 2018م
لعل الحجم الأكبر والأهم من عمل البعثة، وخاصة ذلك الجزء المتعلق بأبحاث الحياة المريخية والبت فيها، هو ما ستضطلع به المرحلة الثانية من البعثة، التي أطلق عليها اسم إكزومارس - 2018م، والتي حدد شهر مايو من عام 2018م موعداً لإطلاقها، وشهر يناير 2019م، موعداً لوصولها. ستشتمل هذه المرحلة بصورة رئيسة على العربة الجوالة إكزومارس التي ستعمل كمختبر علمي متنقل سوف يجول مدة 6 أشهر على الأقل فوق سطح المريخ. سيحمل هذا المختبر أدوات ومعدات تسمح له بتحليل عينات التربة وخصائصها في موقع الهبوط وفي مواقع أخرى، وستدرس أوجه الشبه والاختلاف بينها. سيقوم المختبر بفحص عينات الماء وجليد الماء التي يجدها في التربة بعمق يصل إلى مترين، وهي المرة الأولى التي ستتمكن فيها بعثة مريخية من الحفر بعمق مثل هذا، وذلك بوساطة ذراع حفر آلية لها هذا الطول. وستحمل الجوالة على متنها مختبر باستور التحليلي الذي سيحلل عينات من التربة لتحديد وجود بصمة حياة، قديمة أو حالية، في تربة المريخ. وستساعد حصيلة تجاربها في الإعداد لبعثة مستقبلية أخرى تهدف إلى نقل عينات مريخية إلى الأرض. أضف إلى ذلك أن دراسة المركبة للخصائص الفيزيائية لبيئة السطح في أماكن تجوالها ستساعد في ترشيح مواقع مناسبة لهبوط بشري في رحلات مأهولة في المستقبل القريب. كما أنها ستفحص بيئة التربة تحت السطحية لإدراك آلية تطورها وقابليتها للحياة. أما الدعم الفني والمتابعة والتواصل مع المراكز الأرضية فستستمر بتقديمها مركبة TGO المدارية التي أطلقت ضمن المرحلة الأولى في العام الحالي. 

أحلام مريخية برسم التحقق
ماذا سيعني اكتشاف حياة على المريخ؟ حياة غير أرضية، وأياً كان نوعها: بكتيرية، أم طحلبية، أم فيروسية، ماذا سيعني لنا أن تكون الحياة على الأرض ليست وحيدة في الكون؟ 
إذا نجحت بعثة إكزومارس في إثبات وجود حياة مريخية في السنوات القليلة القادمة، فسيشكل ذلك كشفاً علمياً فريداً من نوعه، بل لعله سيكون أهم اكتشاف علمي ينجزه الإنسان في تاريخه. سيكون علينا أن نعرف تلك الحياة أكثر عن قرب: طبيعتها، وآلية عملها، وتاريخها التطوري، وأوجه الشبه والاختلاف الممكنة مع مثيلاتها الأرضية، وغير ذلك. سيكون على الحياة الأرضية أن تتعرف على شريك كوني لها في الوجود الحي، وأن تعي معنى وجوده - إن وجد - أو العكس، إن استمر غيابه، فأن يعرف البشر أخيراً أن كوكبهم الأرضي ليس وحيداً في إيواء بذرة الحياة في الكون، إنما يلقي مزيداً من الضوء والعلم على حياتنا نحن، ومفهوم الحياة ذاتها في الكون كله، وقدرتها على فرض ذاتها والبقاء حيث ومتى استطاعت.