دوافع الحرب

الجديد في كتاب «لماذا تتحارب الأمم؟ دوافع الحرب في الماضي والمستقبل» أنه يحلل بدء الحروب من حيث الدوافع والقوة النسبية للدول؛ لذلك أنشأ كاتبه الأمريكي ريتشارد نيد ليبو مجموعة بيانات تتألف من جميع الحروب، منذ عام 1648 وحتى عام 2008، وهي الحروب التي كان أحد أطرافها على الأقل من القوى المهيمنة أو العظمى أو الآفلة، والتي انطوت على وفيات قتالية لا تقل عن ألف. فنتج عن هذا ما مجموعه 94 حرباً من بين 150 حرباً دارت رحاها بين الدول خلال هذه الفترة التي بلغت 360 سنة.

اختار الكاتب عام 1648 بداية، لأن سلام ويستفاليا يمثل نقطة الانطلاق الأوسع اعترافاً لنظام الدولة الحديثة، وقبل ذلك غالباً ما يصعب التمييز بين النزاعات الداخلية والدولية.
ومن دراسته لهذه البيانات توصل الكاتب إلى ست فرضيات حول أنواع الدول التي يحتمل أن تشعل الحروب، وهي خمسة أنواع: القوى العظمى. والقوى المهيمنة وهي قوى عظمى تتسم بأنها أقوى بكثير من القوى العظمى الأخرى. والقوى الصاعدة، وهي دول عازمة على انتزاع الاعتراف بها بوصفها قوى عظمى. والقوى الآفلة التي كانت يوماً ما عظمى وربما مهيمنة، بيد أنها فقدت قوتها. والقوى الضعيفة.
تتعلق فرضيات الكاتب بدوافع الحرب الأربعة: الأمن والمصلحة والمكانة والانتقام.

الفرضية الأولى
«أشد الدول عدوانية هي القوى الصاعدة التي تسعى إلى الاعتراف بها كقوى عظمى، والقوى العظمى المسيطرة التي تسعى للهيمنة».
كان هناك 119 طرفاً بادئاً لأربع وتسعين حرباً، إذ انطوت بعض الحروب على أطراف بادئة متعددة... بدأت القوى المهيمنة 24 حرباً، وبدأت القوى الصاعدة 27 حرباً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه القوى الصاعدة والمهيمنة أقل بكثير من عدد القوى العظمى ضمن النظام في أي وقت.

الفرضية الثانية
«نادراً ما تقوم القوى الصاعدة والمهيمنة بشن الحروب بعضها ضد بعض. وعندما تفعل ذلك، تكون القوى الصاعدة متحالفة مع قوة عظمى واحدة على الأقل».
وفق البيانات لم تتحارب القوى الصاعدة والمهيمنة إلا في مناسبتين، الأولى عندما انضمت إنجلترا الصاعدة، إلى فرنسا، ضد إسبانيا، في عام 1648. والثانية هي هجوم الصين على القوات الأمريكية المتمركزة في كوريا في عام 1950.

الفرضية الثالثة
«تتمثل الأهداف المفضلة للقوى المهيمنة والصاعدة في القوى الآفلة والأطراف الضعيفة. وهي تهاجم أيضاً القوى العظمى التي ينظر إليها على أنها ضعيفة مؤقتاً، ولكن ضمن تحالف من القوى الكبرى الأخرى».
من بين 27 حرباً بدأتها القوى الصاعدة، كانت ست حروب منها ضد قوى آفلة، وسبع ضد قوى ضعيفة، وعشر ضد قوى عظمى، كانت كلها تقريباً ضمن تحالف.
في حين بدأت القوى المهيمنة 24 حرباً، لم يكن أي منها ضد قوى صاعدة، وإنما كانت تسع حروب منها ضد قوى عظمى، وخمس ضد قوى آفلة، وعشر ضد قوى ضعيفة.

الفرضية الرابعة
«إن الأغلبية الساحقة مما يطلق عليه اسم حروب الهيمنة - أي تلك التي تشمل معظم القوى العظمى، إن لم يكن كلها - تكون عرضية وناتجة عن تصعيد غير مقصود».
هناك تسع حروب شاملة جرّت إليها أغلبية القوى العظمى والمهيمنة الموجودة في حينها. وهي من حيث المدة والخسائر، أكثر الحروب تكلفة. وقد هزمت جميع القوى المهيمنة والعظمى التي بدأت حروباً شاملة، وهناك سببان رئيسان لهذه النتيجة: الأول هو الخطأ في تقدير عواقب التصعيد، إذ سعت الأطراف البادئة إلى الانتصار في حروب قصيرة ومعزولة ضد قوى أضعف منها، بيد أن اعتداءاتها حرضت على تدخل قوى أخرى، ما أدى في النهاية إلى هزيمتها؛ فالحرب العالمية الأولى (1914-1918) نتجت عن محاولة فاشلة من جانب النمسا، تمت بدعم ألماني، لشن حرب معزولة ضد صربيا، وقد حرضت تصعيدات عدة غير مرغوب فيها: دعمت روسيا صربيا، ودعمت فرنسا روسيا، ودعمت بريطانيا فرنسا، وبعد ذلك دخلت الإمبراطورية العثمانية وبلغاريا ورومانيا واليونان واليابان والولايات المتحدة ودول أخرى، ليصل العدد الإجمالي للدول المتحاربة إلى 32 دولة.
أما السبب الثاني للفشل فهو عسكري، إذ لم تكن الأطراف البادئة قوية بما يكفي لهزيمة الدول التي هاجمتها أو التحالفات التي حرضتها ضدها.

الفرضية الخامسة:
«للتصعيد غير المقصود وإساءة تقدير توازن القوى أسباب أعمق من عدم اكتمال المعلومات».
يعتقد القادة الذين يواجهون مزيجاً من التهديدات الاستراتيجية والمحلية أنهم لا يستطيعون التغلب عليها إلا عن طريق الحرب، أو توجيه تحد إلى أحد الخصوم، ما يقلل من القلق المرتبط باتخاذ قرار بالمضي قدماً، وهم يقومون بذلك عادة عن طريق إنكار المخاطر المرتبطة بسياساتهم، وهم يطلبون المعلومات الداعمة والتشجيع من المرؤوسين ووكالات الاستخبارات، ويفقدون حساسيتهم للمعلومات، وحتى للتحذيرات التي تشير إلى أن سياساتهم قد تؤدي إلى كارثة، وأكبر مثال قرارات ألمانيا والنمسا وروسيا في عام 1914.

الفرضية السادسة
«ليس من النادر أن تقوم القوى الضعيفة والآفلة بشن حروب ضد القوى العظمى».
بدأت القوى الآفلة 14 حرباً، وبدأت القوى الضعيفة أربعاً. كانت القوى العظمى هدفاً لأربع عشرة حرباً منها، وكانت 11 من الحروب التي شنت ضد القوى العظمى هي انتقامية سعت فيها القوى الآفلة أو الضعيفة، من دون جدوى، إلى استعادة أراض انتزعتها منها في حروب سابقة القوى العظمى، ولم يكن من النادر أن تفقد الأطراف البادئة أراضي إضافية نتيجة لهذه الحروب، كما فعلت الإمبراطورية العثمانية في عام 1812 عندما اضطرت إلى التنازل لروسيا عن إقليم بيسارابيا. 

الحرب في المستقبل
وقعت حروب القوى العظمى مرة كل خمسة عشر عاماً في المتوسط خلال القرن العشرين، لكنها وقعت مرة كل أربع سنوات في القرن السادس عشر. ومع ذلك، فقد كانت حروب القرن العشرين أشد تدميراً للأرواح والممتلكات؛ ففي الحرب العالمية الأولى فقد نحو 9.4 ملايين من المقاتلين حياتهم، وفي الحرب العالمية الثانية زاد عدد القتلى على خمسين مليوناً، بمن في ذلك الجنود والمدنيون. لقد كانت القوى العظمى في حالة حرب طوال 95 في المائة من الوقت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وانخفض تواتر سنوات الحرب إلى 71 في المائة خلال القرن الثامن عشر، وتعتبر السنوات الممتدة بين عامي 1815 و1914 أول فترة تستغرق قرناً من الزمن كانت فيها سنوات السلام أكثر من سنوات الحرب.

المصلحة
أضعف الدوافع، إذ لم يكن هناك سوى تسع حروب, ست منها وقعت في القرنين السابع عشر والثامن عشر عندما كان الزعماء يعتقدون أن ثروة العالم محدودة. وثمة حالتان وقعتا في القرن التاسع عشر هما حروب الأفيون بين بريطانيا والصين، والسيطرة الأنجلو- فرنسية على مصر في عام 1882.
أما في القرن العشرين فلم تكن هناك حروب بين القوى العظمى يمكن إثبات أن المصلحة هي دافعها الأساسي بشكل مقنع. وهناك سببان لهذا التراجع التاريخي الملحوظ: يتعلق الأول بتكلفة الغزو مقابل فوائده، والثاني هو رد الفعل المتوقع من الجهات الفاعلة الأخرى، إذ غالباً ما ستفرض حظراً تجارياً واستثمارياً على الدولة المعتدية يجعل الاستغلال الاقتصادي للأراضي المغزوة أكثر تعقيداً.

الأمن
كانت الجهات البادئة مدفوعة بالأمن في عشرين حرباً. يبـــــرز الأمن كدافع بأوضح صورة في القرن العشرين، إذ كان بارزاً في 13 منها. وباستثناء الحرب الإسبانية- الأمريكية، والهجوم الأمريكي على أفغانستان، اللذين كان الأمن فيهما دافعاً بأهمية المكانة نفسها، فقد ارتبطت الحالات المتبقية بالنزاعات العالمية الثلاثة التي نشبت خلال القرن العشرين، وهي الحربان العالميتان الأولى والثانية والحرب الباردة. 
وبعد دراسته للحرب الباردة يتوصل الكاتب إلى أن الزعماء ليسوا سجناء الظروف الاستراتيجية والسياسية، فهم يمتلكون القدرة على تحويل العلاقات العدائية الطويلة الأمد، لكنهم يجب أن يكونوا مدفوعين، كما كان جورباتشوف والسادات، بأجندات محلية تتطلب حل هذه الصراعات أو تقليل توتراتها على الأقل.

المكانة
كانت المكانة دافع الجهات البادئة في 62 حرباً، ما يجعلها أهم الدوافع، وينطبق هذا على كل القرون المتضمنة في مجموعة البيانات، ولكن بمظاهر مختلفة. ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر وقعت حروب المكانة ضمن نظام إقليمي أوربي يهيمن عليه الملوك والأمراء، الذين كان معظمهم ينظر إلى دولهم باعتبارها إرثاً عائلياً. 
وقد سعى الحكام في كثير من الأحـــــيان إلى تحقيق الفخار عن طريق الانتصــــارات العسكرية والغزو، وقد كان كثــــير منـــهم يقودون جيوشهم شخصياً في المعارك مثل لويس الرابع عشر.
لقد هيمن الشرف والكرامة على المراسلات الدبلوماسية خلال القرن الثامن عشر الذي حدثت فيه ثماني حروب ارتبطت بالخلافة، ما منح الزعماء العدوانيين فرصاً لتوسيع نطاق سيادتهم، إذ حاولت بروســـيا وفرنسا القيام بذلك عندما اعتلــــت ماريا تريزا عرش النمسا.
في القرن التاسع عشر، صار السعي وراء المكانة مصدر اهتمام وطني، فقد كانت نخب صناع السياسة الخارجية لاتزال أرستقراطية الأصول في أغلبها، وأشد التزاماً بمفهوم الشرف الوطني بعد أن فقدت رموز الشرف التقليدية حظوتها. 
وقـــــد تفاعل الرأي العام بقوة مع الدول الوطنية وشرفها، وصـــارت هذه الظاهرة أكثر وضوحاً في القـــرن العشرين، وكـــانت من بين الأسباب الرئيسة للحـــرب العالمـــية الأولـــى.
كما أن المكانة مكتنفة على نحو عميق في أصول الحرب العالمية الثانية، ففي ألمانيا كان هناك استياء عميق تجاه الحلفاء وشروط معاهدة فرساي. 
لم تكن الحرب الوسيلة الوحيدة لنيل المكانة، ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر تزايدت أهمية الاستعراض، على الرغم من أنه لم يقلل من جاذبية الحرب، فقد أنفق لويس الرابع عشر مبالغ طائلة على القصور والحدائق والفنون والعلوم، وقد حذا حذوه الملوك الآخرون، وخلال القرن التاسع عشر أصبحت الأعمال الهندسية والمعمارية العامة، والمستعمرات والأساطيل مهمة على نحو متزايد. وفي النصف الثاني من القرن العشرين ارتبطت المنزلة بالثروة والميداليات الذهبية الرياضية وجوائز نوبل واستكشاف الفضاء والأسلحة النووية.
يستنتج الكاتب أنه من المرجح أن يعمل نجاح دولة في نيل الشرف والمكانة بوسائل لا علاقة لها بالقوة العسكرية على تشجيع الدول الأخرى على أن تحذو حذوها، وأن تستثمر مزيداً من الموارد لتحقيق هذه الغايات. وإذا تحقق هذا التطور، فسيدفع التنافس على المكانة بعيداً عن الحرب وباتجاه المجالات الأخرى.

الانتقام
كان الانتقام الدافع الرئيس في 11 حرباً. تمثل هدف الغالبية الساحقة من هذه الحروب في استعادة أراض مفقودة من طرف مهاجم في حرب سابقة. وقد بدأتها قوى آفلة أو ضعيفة  ضد قوى صعدت أخيراً إلى مصاف القوى العظمى.
دارت سبع حروب انتقامية في القرن الثامن عشر، بدأت ست منها من قبل السويد وتركيا وبولندا ضد روسيا التي جاء صعودها على حساب تلك الدول. وفي القرن العشرين هناك ثلاث حروب فقط يمكن وصفها بأنها انتقامية إحداها حرب جزر الفوكلاند/ مالفيناس في عام 1982 بين الأرجنتين وبريطانيا. عموماً صار السعي إلى الانتقام أكثر عقلانية من حيث أن الدول المتضررة سعت إلى عزل خصومها دبلوماسياً.

هل لاتزال الحروب بين الدول ممكنة؟
إن مراجعة الكاتب للدوافع تجعله يتفاءل, فقد فقدت كل الدوافع جاذبيتها كسبب للحرب خاصة المصلحة والانتقام؛ ولذلك فهو يتنبأ بانخفاض عام في تواتر الحروب، من دون أن يعني ذلك أنه لن تكون هناك حروب, خاصة خلال العقدين القادمين ■