الصندوق الأسود للطائرة

كثير منا لديه صندوق أسراره أو ودائعه الخاصة التي يحتفظ بها، ومثلما لدى الناس صناديق أسرار للطائرات أيضا صناديق لكنها صناديق سود. وهذه الصناديق تحتوي على أهم البيانات التي قد تساهم في كشف غموض الحوادث الجوية التي قد تتعرض لها تلك الطائرات، ولعل حادثة اختفاء الطائرة الماليزية الأخيرة قد بينت مدى أهمية العثور على تلك الصناديق لفك طلاسم اختفائها. إن الحديث عن الصناديق السود على متن الطائرات لهو موضوع بالغ الأهمية ويثير فضول العامة من الناس لمعرفة ما هية تلك الأجهزة التي تصبح ثاني أهم شيء يتم البحث عنه من قبل فرق البحث والإنقاذ بعد الناجين من الحطام، لذا استوجب التعرف على طبيعتها ومكوناتها.

عندما كانت الحوادث تقع في الماضي، لم تكن هناك أجهزة لتوثيق ما حدث في اللحظات الأخيرة التي تسبق وقوع الحادث، وكان الاعتماد في الغالب على شهود العيان إذا توافروا، لكن إذا لم يتوافروا فإن الاحتمالات لا حصر لها، أو الغموض التام يلف ذلك الحادث. ففي السابق كانت السفن هي الدارجة في السفر البعيد في ما بين القارات، وبالتالي عندما تقع كارثة لأي سفينة فإن الناجين وحدهم سيروون ما حدث للمحققين في تلك الكارثة، أما إذا لم ينج أحد فالأمور ستكون معقدة بالنسبة لهم كما أشرنا قبل ذلك، وعندما ظهرت الطائرة إلى الوجود وباتت وسيلة النقل الرئيسة التي يعتمد عليها الإنسان، فإن الأسباب وراء وقوع ذلك الحادث لها سيكون من الصعب معرفتها، لأن الحوادث الجوية تحدث بعيدا عن الأنظار على ارتفاع آلاف الأقدام، ومن هنا يتطلب الأمر إيجاد حل تكنولوجي تمثل بالصندوق الأسود، باعتباره الشاهد الوحيد على تفاصيل اللحظات الأخيرة للحادثة.

تاريخها
كنتيجة للتطور الهائل فى الملاحة الجوية إبان الحرب العالمية الثانية والتطور الذي حدث للطائرات النفاثة بعد ذلك، ظهرت حاجة ملحة لإضافة جهاز للطائرات يقوم بتسجيل ما يحدث فيها للمساعدة على فهم الحوادث الغريبة وغير المبررة. وكانت البداية فى عام 1954 عندما قام د.ديفيد وارن الأسترالي الجنسية بإبداء فكرته الغريبة آنذاك بتصميم جهاز يقوم بتسجيل محادثات طاقم الطائرة وتسجيل قراءات عدادات الأجهزة، على أن يكون هذا الجهاز يملك من القوة ما يكفي لتحمل الحوادث والظروف المختلفة، أي يكون محميا من التلف كي يستطيع المحققون الاستعانة بهذه المعلومات في الوقوف على الأسباب الحقيقية للحوادث في حال وقوعها، إلا أن هذه الفكرة لم تقابل بالاستحسان من معامل أبحاث الملاحة الجوية بملبورن والتي كان يعمل بها د. وارن. وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يفقد الأمل، وقام بعمل أول نموذج يجسد فكرته العبقرية وأسماها «وحدة ذاكرة الطيران»، وتم ذلك بمساعدة مدير أعماله توم كيبل ومهندس الأجهزة ت. ميرفيلر. وكان أول نموذج بسيطا في مكوناته، إذ استخدم فيه سلكا صلبا بمنزلة وسط تخزيني لتسجيل صوت قائد الطائرة وبقية طاقم القيادة معه حتى أربع ساعات متواصلة كحد أقصى، وأيضا يستطيع تسجيل قراءات الأجهزة بمعدل ثماني قراءات في الثانية الواحدة وبشكل تلقائي، وبعد انتهاء مدة التسجيل يقوم الجهاز بالتسجيل على السلك نفسه مرة أخرى وبالمدة نفسها وهكذا، وتم عمل تجارب في الجو لهذا الجهاز واجتاز الاختبار بنجاح، إلا أن المفاجأة أنه لم يلق استجابة جيدة من هيئات الطيران الأسترالية.

مراحل التطور 
كتب لهذه التجربة النجاح في عام 1958 عندما زار روبرت هاردينجهام أمين مجلس التسجيل الجوي البريطاني معامل أبحاث الملاحة الجوية بملبورن، وقام بمقابلة د.ديفيد وشاهد الجهاز الجديد وتعرف على إمكاناته ليقرر بعدها اصطحاب د.ديفيد معه إلى بريطانيا ليقدم الجهاز بنفسه، وبالفعل كان رد البريطانيين هائلا ومشجعا سواء من قبل العلماء أو المصنعين، فقاموا بتقديم الدعمين الفني والمعنوي لمصمميه حتى تمكن
د. ديفيد ومعاونوه من تطوير إمكانات الجهاز لزيادة دقته وكفاءته فأصبح يسجل 24 قراءة في الثانية الواحدة. وبعد تطويره حصلت شركة سزدافال على حق إنتاج مسجل الطيران، الذي عرف لاحقا بالصندوق الأسود.

التسمية
في حقيقة الأمر، إن الصناديق السود تلك ما هي إلا عبارة عن صناديق برتقالية اللون وليست صناديق سود وسبب طلائها باللون البرتقالي الفاقع من أجل تسهيل العثور عليها بين حطام الطائرة، ومن هنا ارتبط اسم الجهاز باللون الأسود نظرا لارتباطه بالحوادث والكوارث التي تحدث للطائرات وأصبح اسمه التجاري أو المتداول هو الصندوق الأسود، على الرغم من أن لون الصندوق برتقالي. ومن الجدير بالذكر أن قيمة الصندوق تصل إلى 30 ألف دولار، إلا أن الخدمات التي يقدمها تفوق قيمته المادية بكثير. فلا شك في أنه على الرغم من صغره في الحجم فإنه عظيم في القيمة.

المكونات 
الصندوق الأسود مصنوع من الصلب القوي ليتحمل الصدمات والاهتزازات، وهو عازل بطريقة لا يتسرب إليه الماء أو الرطوبة، ويقاوم الصدأ والتآكل عند سقوطه في الماء، ويقاوم النار حتى درجات الحرارة العالية جدا. تتكون منظومة الصندوق الأسود بالطائرة من صندوقين معدنيين مصفحين كما أشرنا مسبقا وهما: مسجل الصوت في قمرة القيادة Cockpit Voice Recorder - CVR  والثاني هو مسجل بيانات «معطيات» الطيران Flight Data Recorder – FDR ويتلخص عمل الجهازين كالتالي:
مسجل الصوت في قمرة القيادة هو الأكثر بساطة، فهو عبارة عن مسجلة صوتية مهمتها تسجيل الأحاديث التي يتبادلها أفراد الطاقم أو التي تدور بينهم وبين أشخاص آخرين، حيث تعتبر محادثات طاقم قيادة الطائرة مفيدة جدا في الوقوف على أسباب حوادث الطائرات، ولذا كان من الضروري تسجيل هذه المحادثات. ويقوم مسجل صوت قمرة القيادة بتسجيل محادثات الطيار ومساعده وأيضا يقوم بتسجيل اتصالات المراقبة الجوية وإعلانات الركاب وتشويشات الطائرة وكل ما يدور بها، ويستغرق التسجيل مدة ثلاثين دقيقة مستمرة، مما يسمح لفريق التحقيق بأن يستمع لآخر نصف ساعة من الأحداث التي حدثت في الطائرة قبيل وقوع الحادث. وتخزن المعلومات في شكل رقمي ويمكن فك شيفرتها بسهولة، وأيضا تم تطوير مسجل الصوت ذي الوحدة الصلبة وأصبح ذا ذاكرة أكبر، وفي عام 1995 تم تطوير مسجل صوت قمرة القيادة وأصبح يسجل ساعتين كاملتين.
مسجل بيانات الطيران هو الأكثر تعقيدا، حيث تقع مسؤولية تسجيل مؤشرات التحليق بشكل عام عليه، وهي أولى المسجلات التي دخلت الخدمة الفعلية في الطيران كمكون أساسي لمنظومة الصندوق الأسود وذلك في عام 1958، وتستخدم شرائط مصنعة من الصلب غير القابل للصدأ أو أسلاك كوسيط للتخزين في مسجلات الطيران. وتوضع هذه الأسلاك في صندوق مصنوع من معدن التيتانيوم البالغ القوة ويبطن الصندوق بمادة عازلة للحرارة. ولكن كان من اللازم أن يتم تطوير مكونات الجهاز كنتيجة لتطور الطائرات، فالطائرات أصبحت أكبر حجماً وأعقد في العمل مما خلق الحاجة لتطوير استجابة الجهاز للمتغيرات المحيطة به وبالفعل تطورت مواصفات الجهاز وأداؤه، ففي عام 1967 استطاع العلماء الأمريكيين تطوير مسجل البيانات وأصبح يسجل قراءات ما بين 17 و32 متغيرا في الثانية الواحدة. والآن تستخدم ذاكرات من أشباه الموصلات أو دوائر متكاملة في تخزين البيانات بدلا من استعمال وسائط كهربائية.

موقعه في الطائرة وآلية عمله 
يوضع الجهازان المكونان لمنظومة الصندوق الأسود في مؤخرة الطائرة لأسباب فنية، حيث إنه في حالة وقوع الحوادث فإن مقدمة الطائرة تتعرض غالبا للاصطدام الأكبر، أما الذيل (المؤخرة) فيتعرض لصدمة أقل لذلك فهو المكان الأفضل، تمثل المعطيات التي تحتويها الصناديق السود الأمل الوحيد المتوافر لتحديد أسباب حوادث الطيران، لكن هذا ليس كل عملها، إذ إن معطياتها أيضا في الحالات العادية من دون وقوع حوادث يمكن أن تكون مفيدة عند الصيانة الدورية للطائرة، حيث تفتح لذلك فيستفيد الفنيون من المعطيات المسجلة فيها، والتي تكون معلوماتها عادة قيمة جدا لهم وتعطيهم نظرة دقيقة عن ردود أفعال الطائرة وسلوكها في الظروف العملية، ولهذا السبب تفتح أحيانا تلك الصناديق لاستخدام المعلومات المخزنة بها ودراسة تسجيلاتها عند التحقيق في أمر فني ما حتى خارج أوقات الصيانة، والصندوق الأسود يرسل عبر جهاز إرسال خاص به ذبذبات خاصة مميزة عند سقوطه بعد أي حادث، وهذه الذبذبات تلتقط من على مسافة 3 كلم وعلى عمق كبير تحت سطح الماء، ويمكن استقبال هذه الذبذبات بواسطة أجهزة استقبال تزود بها طائرات وسفن البحث والإنقاذ، ومن طبيعتها أنها تزداد سرعة وحدة عند اقتراب فرق البحث والإنقاذ من مكان وجود الصندوق. وبهذه الطريقة يستدل إلى مكان حطام الطائرة.

حادثة «إير فرانس» أبرزت أهميتها
لم يحدث أن تم حشد جيش من الخبراء في رحلة بحث مضنية كتلك التي هي الآن في محاولة العثور على الصندوقين الأسودين للطائرة المنكوبة آيرباص 330 التابعة لشركة «إير فرانس»، والتي هوت في مياه المحيط الأطلسي، وهي في رحلة جوية من مدينة ريو ديغينيرو إلى باريس في 2009. وبعد العثور على أحد الصندوقين أمكن مع ذلك معرفة الظروف الغامضة المحيطة بتك الحادثة المريعة، والتي راح ضحيتها أكثر من مائتي شخص إلى جانب الطاقم. وهذا بدوره يدفعنا إلى معرفة أهمية تلك الصناديق السود التي دفعت الهيئات العالمية إلى البحث عنها، مهما كلف الثمن. ومن الجدير بالذكر أن قيمة الصندوق تصل إلى 30 ألف دولار، إلا أن الخدمات التي يقدمها الصندوق تفوق قيمته المادية بكثير. فلا شك في أنه على الرغم من صغر الصندوق في الحجم فإنه عظيم في القيمة. وفي حالة حادثة الطائرة الماليزية التي لاتزال مفقودة إلى الآن، فإن العثور على الصندق له أهمية كبرى في كشف طلاسم اختفاء تلك الطائرة أكثر من انتشال الجثث وحتى العثور على أجزاء أخرى من الطائرة نفسها.

المستقبل
كثيرة هي الاقتراحات التي تم طرحها، أخيراً، بعد حادثة اختفاء طائرة الخطوط الجوية الماليزية. فبعد أن كان الخبراء في مجال صناعة الطيران يتوقعون قبل ذلك أن تتم إضافة جهاز ثالث لمنظومة الصندوق الأسود الحالية والتي تتكون من جهازين كما ذكرنا أعلاه، بحيث يتولى هذا الجهاز الثالث التقاط شريط مصور (فيديو) لقمرة القيادة ولوحة الأجهزة الملاحية بها، وذلك من خلال تركيب آلة تصوير رقمية في قمرة القيادة، بهدف إتاحة المجال للحكم على مدى تطابق ترددات الأجهزة مع الأوامر المعطاة، ومع صحة استجابة الكمبيوترات والأجهزة الملاحية لها بالطائرات الحديثة حالياً عموماً، وأن تكون أحد الإجراءات الأمنية لمراقبة قمرة القيادة كإجراء إضافي إلى جانب المهام الأخرى التي أوكلت بها، يقترح البعض منهم أن يتم دمج معطيات التسجيل لتلك الصناديق بوحدات نقل وبث حي متواصل لنقل المعلومات فور حدوث عطب كامل بالطائرة كي تتم معرفة الأسباب التي أدت إلى ذلك، مما يعطي المحققين صورة شاملة وواضحة عن الظروف التي أدت إلى حدوث مثل ذلك الحادث للطائرة، وهو ما بات متاحاً، وخصوصاً مع التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال المتقدمة، وقد يكون هذا أحد الحلول التي قد ترى النور سريعاً، نظراً لحساسيتها في تعزيز عنصر السلامة في النقل الجوي.

مسجل البيانات الرقمية بالطائرة
يستطيع هذا الجهاز تسجيل 25 ساعة من المعلومات على قرص صلب من نوع «سوليد ستيت» المقاوم للاهتزازات والحرارة. كذلك فإن العوازل المحيطة به بعناية تحميه من الصدمات والنيران وماء البحار، بحيث تمكن استعادته منها دون أضرار.

مسجل الصوت في قمرة القيادة
يسع مدة ساعتين من التسجيل الصوتي على قرص من نوع «سوليد ستيت»، تقنية عزله تماثل تقنية عزل مسجلات المعلومات الرقمية بالطائرة، وتجب استعادته أيضا.

وحدة تجميع معلومات الطائرة
الدور المهم لهذه الوحدة هو جمع المعلومات من الأجهزة ومؤشرات التحليق ونقلها إلى مسجل البيانات الرقمية بالطائرة، بحيث يتم تخزينها على القرص الصلب.