حشرات منقذة أم جواسيس؟

يعكف العلماء حالياً، في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، على تزويد بعض أنواع الحشرات بأجهزة استشعار عالية الجودة لتعمل في أوقات الكوارث على استكشاف المناطق التي لا تستطيع الأجهزة العادية الوصول إليها؛ وقبل أن نفاجأ بما ليس في الحسبان... تستطيع العمل كذلك كأجهزة تجسس.

حين ينهار أحد المباني الكبرى أو المهمة، تبدو قوات الإنقاذ الرسمية وكأنها في سباق مع الزمن من أجل الحصول وبسرعة على معلومات دقيقة عن أماكن احتجاز الأشخاص تحت الأنقاض، ومدى احتمالية تعرض المباني المحيطة كذلك للانهيار. ولا تكون تلك مهمة سهلة عادة على الإطلاق, وخاصة مع احتمال تعرض القوات لانهيارات تالية في المباني، إذا كانت بعض أجزائها لاتزال قائمة، مما قد ينتج عنه خطر حدوث إصابات جديدة. وهذا الوضع المتوتر شديد الخطورة هو الحال دائما في حالات الكوارث المماثلة مثل الزلازل، أو التسريبات الإشعاعية، أو التفجيرات الإرهابية. وتقع على عاتق قوات الاستكشاف الأولى أصعب المهام، ولهذا فإن تحمل تلك الحشرات لهذه المهام يقدم بديلاً جيدًا جدًا لتلك القوات. وباختلاف نوعية الحساسات التي يتم تزويد الحشرات بها، تختلف وتتنوع المهام التي تطلب منها، بدءًا من اكتشاف أماكن الأشخاص الأحياء أثناء الكوارث، وحتى اكتشاف أماكن التسريبات الإشعاعية أو الكيماوية على اختلاف أنواعها.
يعمل حاليًا كل من فريقي علماء من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بمعزل عن بعضهما البعض، لكن ما يجمعهما في النهاية هو الداعم الرئيس لهما، وهو قسم أبحاث الدفاع المتقدمة في الجيش الأمريكي والمعروف باسم Defense Advanced Research Projects Agency، أو ما يسمى اختصاراً «Darpa»، لأن مثل تلك الأبحاث في حالة نجاحها لن تقتصر بالطبع على الاستخدامات المدنية كبديل لقوات الدفاع أو الحماية المدنية في حالة الكوارث، وإنما ستتعداها للاستخدام كجواسيس لا تمكن ملاحظتهم، ومن الممكن زراعتهم في المستقبل خلف خطوط العدو في حالة الحروب لجمع وبث أكبر قدر ممكن من المعلومات عن العدو طوال الوقت دون أن يشك فيهم أحد. 

مجموعة إلكترونية وزنها جرامان
حتى الآن تتكون المجموعة الإلكترونية المطلوب من الحشرة أن تحملها، من رقاقة كمبيوتر فائقة الصغر وجهاز إرسال مزود ببطارية، إضافة إلى مجس استشعار أو ميكروفون على حسب المهمة المنوطة بها. ومن أهم مميزات تلك المجموعة من الأجهزة عالية الجودة، والمصنعة خصيصًا لتلك المهام، أن وزنها في النهاية لا يتعدى الجرامين على الأكثر.  وقد أثبتت التجارب الميدانية الأولية ينجاح التجربة بشدة، فعلى الأقل لم يتداخل إرسال مختلف الأجهزة مع بعضه البعض وتم إرسال بعض المعلومات بنجاح. وتم اختيار الصراصير تحديدًا لهذه الاختبارات الأولية، لأن من أهم مميزاتها، كما هي الحال بالنسبة لمعظم الحشرات، أنها تستطيع جر وحمل أضعاف أضعاف وزنها من الأثقال، إضافة إلى صغر حجمها وقدرتها الهائلة على التكيف والتعايش في مختلف الأجواء، حتى أنه يمكنها النجاة من حرب نووية! 
ومن المتوقع طبقًا للمعدل الحالي للأبحاث أن يتم التطبيق العملي الفعلي الأولي للتجربة في غضون عامين. وحتى هذا الحين ينبغي التغلب على بضع عقبات أولاها تخفيض ثمن الدائرة الكهربية المخصوصة التي تحملها الحشرة، ليصبح ثمنها في حدود الدولار الواحد، مع الاحتفاظ بنفس الجودة والكفاءة العالية عند تصنيعها على نطاق واسع للاستخدامات المدنية. أما في حالة الحرب فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة بالطبع، فمن المطلوب وقتها إطلاق أكبر عدد ممكن من الحشرات في وقت واحد لتجميع أكبر قدر من المعلومات في وقت قصير، لكن من غير المتوقع إمكان استعادتها. كما تجب محاولة تخفيف وزن تلك الدائرة لأقل وزن ممكن حتى تتمكن حتى الحشرات الصغيرة من حملها بسهولة تامة.

طاقة إضافية
والعقبة الكبرى في هذا الخصوص هي البطارية، فالبطارية هي أثقل جزء في هذه الدائرة، لكن قوتها مهمة جدًا لتتمكن من إرسال المعلومات لأطول فترة ممكنة. وقد نجح العلماء حتى الآن في تشغيل الأجهزة لمدة نصف ساعة عن طريق البطارية الحالية، لكن العلماء العاملين في المشروع أعلنوا استهدافهم الوصول لزمن تشغيل متواصل يبلغ خمس ساعات. ومن الحلول الواعدة المقترحة لحل تلك المشكلة هو تحويل الطاقة الناتجة عن تحريك الحشرات نفسها لأجنحتها إلى تيار كهربي كاف لتشغيل كل من الكاميرا والحساس والميكروفون، إضافة إلى جهاز الإرسال، لكنه لايزال حلاً نظريًّا، ولم يخرج بعد إلى نطاق التطبيق الفعلي. وهناك حل مقترح آخر يقتضي زرع خلية خاصة في الصراصير لتحويل السكر في دمها إلى تيار كهربي كذلك. وعلى قدر ما تبدو تلك الحلول كأنها خارجة للتو من فيلم للخيال العلمي، فإن هناك مجموعة من العلماء من جامعات أمريكية مختلفة تعكف فعلاً على تطويرها ووضعها في إطار التطبيق الفعلي في أسرع وقت ممكن. 
أما في إسرائيل، فقد سار الباحثون في اتجاه آخر. فمن يضمن ألا تتحرك تلك الحشرات في كل اتجاه سوى الاتجاه الذي يبغيه مطلقها؟ لذا فقد قرروا تطوير أبحاثهم في اتجاه آخر بزراعة أقطاب كهربية في مخ الحشرة وهي لاتزال في مرحلة اليرقة بعد، والتحكم في حركة تلك الحشرات عن بعد لتصبح أشبه بروبوتات صغيرة حية متحركة. فعن طريق تلك الأقطاب، تم بالفعل رسم ما يشبه الخريطة للأوامر القادمة من مخ الحشرة عن طريق الألياف العصبية المختلفة إلى عضلاتها لتبدأ عملية الطيران، وبذلك أمكن إنشاء برنامج خاص لإعطاء العضلات أوامر مماثلة بديلة. وقد نجح العلماء بالفعل في إعطاء الحشرات أوامر توجيه بسيطة مثل الانعطاف يمينًا أو يسارًا. 
لكن الأبحاث لم تبلغ المدى المطلوب بعد، فعلى الرغم من نجاح أحد العلماء الأمريكيين، وهو جويل فولدمان Joel Voldman من معهد ماساتشوستس التكنولوجي، في زرع مولد نبضات وبطارية ومستقبل وقطب كهربي يبلغ وزنها جميعا نصف الجرام في نوع معين من الفراشات، وعن طريق اتصال القطب الكهربي بالعصب الرئيس للفراشة، تمكن فولدمان من حث الفراشة على الطيران في الاتجاه الذي يحدده هو، لكن يبقى الجزء الأصعب من المهمة قيد البحث، وهو يتمثل في إلغاء الغرائز الطبيعية للحشرات التي قد تدفعها في اتجاه الضوء، كما هي الحال بالنسبة للخنافس والفراشات مثلاً، فتنتهي حياتها مثل الكثير من مثيلاتها عند أقرب عمود للنور في الشارع،  لكنه يظل الهدف النهائي المستهدف، حتى وإن لم يقترب منه العلماء بعد.