المفعول الصحي السحري لثلاث دقائق من التمارين الرياضية!
من يصدق أن ثلاث دقائق من الرياضة البدنية المتميزة أسبوعياً قد تكون كافية للحفاظ على اللياقة البدنية والصحة الجيدة لبني البشر؟ هذا ما توصَّلت إليه دراسات حديثة أجراها علماء وباحثون في عدد من الجامعات العالمية من خلال سعيهم إلى إيجاد بدائل مناسبة لأصحاب المشاغل الكثيرة أو ذوي الخمول. وإذا كنتم من الذين يعزفون عن ممارسة الرياضة أو المداومة عليها في القاعات والحدائق العامة لأسباب عدة، أهمها قلة الوقت، فربما تسهم نتائج هذه الدراسات في تغيير نظرتكم إلى تلك التمارين وجدواها بصفة جذرية.
تظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن الخمول وعدم النشاط يشكلان السبب الرابع المؤدي إلى حالات الوفاة في العالم، حيث إنهما يضاعفان من أخطار حدوث السرطانات، والسكري وأمراض القلب. ويلجأ كثير منا إلى أداء التمارين الرياضية بهدف تحسين اللياقة البدنية وتجنب مثل هذه المشكلات الصحية، لكن التخلص من البدانة مازال السبب الرئيس الذي يحفز الناس على مزاولة النشاطات الرياضية.
ويخطئ معظم الناس حين يعتقدون أن أداء التمارين الرياضية وحده كفيل بأن يعيد للأجسام لياقتها وللأبدان رشاقتها، ويتناسون في هذا السياق أمر تنظيم حميتهم الغذائية... فلا يكون لوجوه النشاط هذه أثر ملحوظ في نهاية المطاف، على المدى القصير على الأقل. إن معادلة «احرق سعرات حرارية أكثر تفقد وزنا أكثر» ربما تكون صحيحة إلى حد ما، لكن الدراسات تظهر أن معظم ممارسي التمارين الرياضية يبطلون مفعولها من غير قصد منهم عبر استهلاك كميات أكبر من الطعام، ويتفاجؤون بعدم حدوث تغيّر ملموس في أجسادهم، لاسيما كروشهم المنتفخة.
مكافحة الدهون والوجبات السريعة
وترتكز البرامج العلمية لفقدان الوزن بصفة رئيسة على استهداف الدهون الموجودة في الجسم بهدف التقليل منها، في حين تسعى في الآن ذاته إلى الحفاظ على سوائل الجسم والكتلة العضلية.
ولقد راجت في عصرنا الحديث الكثير من الأطعمة المسماة بالوجبات السريعة، إضافة إلى الكثير من الأطباق المعدة في البيوت، حيث تشترك جميعها في احتوائها على نسب معتبرة من الدهون. تسلك الدهون مساراً معيناً في جسم الإنسان؛ فبعد أن نتناولها تذهب إلى الأمعاء، حيث يتم هضمها، ثم تنتقل إلى مجرى الدم فتُحدث هناك جملة من التغيرات على عملية الأيض (عملية إنتاج الطاقة داخل الخلية عن طريق هدم المواد الغذائية) قد تؤدي إلى تفاقم خطر تراكم الدهون على جدران الأوعية الدموية، ما يؤدي إلى أضرار كبيرة على مستواها.
وإلى جانب التلف الذي قد يصيب الأوعية الدموية جراء تراكم الدهون فوق الحد الطبيعي، تبرز مشكلة أخرى تتعلق بأمكنة تخزين هذه الدهون. ويعمل الجسم على تخزين فائض الدهون في أمكنة مختلفة من جسدنا، حيث تتفاوت هذه الأمكنة في درجة خطورتها. فعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسات أن الدهون المخزّنة تحت سطح الجلد، والمعروفة بالدهون تحت الجلدية، تكون عادة أقل سوءاً بكثير من تلك المخزنة بشكل أعمق داخل أجسامنا (أو ما يسمى بدهون الأحشاء) مثل البطن، والكبد، والبنكرياس وحتى الدماغ. وهذه الدهون المتجمعة داخل الأحشاء عادة ما تكون السبب الرئيس وراء حدوث مساوئ تتراوح بين الشكل غير المرغوب للجسم وجلطات الدماغ، والسكري وأمراض القلب المختلفة.
الرياضة وعملية الأيض
ولحسن الحظ فإن النشاط الرياضي لا يسهم فقط في تحسين لياقتنا، بل يتدخل أيضا في تحسين تعامل أجسامنا مع هذه الدهون، وبالتالي يجنبنا المشكلات الصحية المرافقة لها. وفي هذا السياق أظهرت أبحاث أجراها د.جاسون جيل Jason Gill، الأستاذ في جامعة غلاسغو Glasgow البريطانية، أن المشي السريع مدة 60 دقيقة قبل تناول الفطور يمكنه خفض نسبة الدهون في الدم إلى الثلث إذا ما قورنت بعينة دم الأشخاص الذين تناولوا الوجبة نفسها، ولكن من دون ممارسة أي نشاط رياضي. يقول جاسون جيل: «إن أي نشاط رياضي نقوم به يعتبر مفيداً لنا، لكن النتائج تشير إلى أن ممارسة الرياضة قبل الأكل تكون ذات منفعة أكبر مقارنة بالرياضة التي تعقب الأكل. لكن يجب علينا إجراء دراسات أخرى لمعرفة ما إذا كان بالإمكان تعميم هذه النتائج على نطاق أوسع».
يذهب د.جيمس ليفين James Levine العامل في التجمع الاستشفائي الجامعي الشهير «عيادة مايو» Mayo Clinic في ولاية أريزونا الأميركية، إلى أبعد من ذلك، إذ يؤكد أن جميع الحركات العادية التي نؤديها خلال اليوم، بما في ذلك حركاتنا أثناء النوم، من شأنها مضاعفة عملية الأيض لدينا بشكل جوهري. ونتيجة لذلك سنكون قد حرقنا سعرات حرارية أكثر دون إنزال قطرة عرق واحدة. ويوضح جيمس ليفين أن الجلوس الطويل الذي يصل إلى 12 ساعة في اليوم لدى الكثير منا دون أن نشعر بذلك، هو من أكثر الأخطار تهديداً لصحتنا ولظهور البدانة عندنا. من أجل ذلك يؤكد ليفين أن الحفاظ على الحركة بشكل مستمر يجب أن يندرج ضمن وجوه نشاطنا اليومي. وهكذا ينبغي علينا استغلال أي فرصة تتاح لنا لتجنب الجلوس والركون، كاستعمال السلالم بدلاً من المصاعد، والقيام بالجهد العضلي كلما استدعى الأمر ذلك بدلاً من أن نطلب أداءه من الغير.
أخطار العمل الروتيني
من جهة أخرى، فالجلوس لمدة 60 دقيقة متواصلة يؤدي إلى إحداث كسل في الجسم، تكون نتيجته تراكمات لبعض المواد الضارة، مثل ارتفاع نسبة السكر والدهون في الدم، وعليه يجب أن نتحرَّك كل ساعة للحفاظ على سير هذه المواد الطاقوية في أجسامنا. ومن المفيد أن ندرك أن ممارسة الرياضة لمدة ساعة أو أكثر بقليل في القاعات الرياضية مع روتين الجلوس الطويل (12 ساعة) لن يكون له أثر مرجو في صحة أجسامنا. والمشي خلال مدة طويلة والحركات الطبيعية المستمرة من شأنها أن تحفز الجسم على زيادة عملية الأيض، وكذلك تصنيع إنزيم خاص يسمى الليبوبروتين ليباز Lipoprotein lipase، حيث يعمل بشكل مباشر على حرق الدهون، وبالتالي خفض نسبتها في مجرى الدم. يبدو هذا النوع من النشاط الرياضي مفيداً ومتاحاً لشريحة كبيرة من المجتمع، لكن المشكلة تتمثل في كون العديد منا يجد مثلاً صعوبة في المداومة على المشي الطويل، إذ يقدر الخبراء المدة المطلوبة من التمارين الرياضية المختلفة بالنسبة للشخص العادي بما بين 20 و30 دقيقة يومياً، وبمعدل خمسة أيام في الأسبوع. وللأسف، لا يلتزم بهذه المعايير سوى خمسة في المائة من الناس، في حين يتحجج البقية إما بضيق الوقت وإما بعدم وجود رغبة كافية نتيجة الكسل. وهكذا يكون هؤلاء غير قادرين على متابعة التمارين الرياضية بالوتيرة نفسها والمداومة عليها.
فهل من بدائل، يا ترى، إن كنا نرغب في تحسين لياقتنا مع أننا من أولئك الذين لا يستطيعون توفير الوقت لمثل وجوه النشاط الرياضي، بسبب مشاغل الحياة وغيرها؟ إن كنت من هؤلاء، فماذا عن تخصيص بضع دقائق في الأسبوع فقط؟ ربما تودّ التعرف على هذه الصيغة الجديدة من التمارين الرياضية، والمعروفة بالتمارين العالية الكثافة (High Intensity Training).
إن ساعات النشاط الرياضي التي يوصي بها الخبراء، والتي تقدم غالباً على أنها معايير عالمية، قد تكون مجانبة للصواب بالنسبة للكثير من الأشخاص، ذلك أنها تعتمد في الأساس على المعدلات العامة لاستجابة الأفراد للتمارين الرياضية. بناء على هذا، انطلقت دراسات عدة حول العالم لتحديد سبب الاستفادة القصوى لشريحة معينة من الناس وتحسن لياقتهم من خلال التمارين الرياضية، في حين لا تلاحظ هذه التغيرات على شريحة أخرى تمارس النشاط نفسه.
دراسة بريطانية
على مدار أربع سنوات، قام الأستاذ جيمي تيمونس Jamie Timmons، من جامعة برمينغهام Birmingham البريطانية وزملاؤه من دول أخرى، بدراسة مدى تأثير أربع ساعات من النشاط الرياضي نفسه ولمدة 20 أسبوعاً على أكثر من ألف متطوع. عندما نظر جيمي وزملاؤه إلى النتائج، لاحظوا أن لياقة هؤلاء الأفراد قد تحسَّنت إذا ما أخذت البيانات كمعدل عام. لكن بعد التدقيق، وجدوا أن الأشخاص الذين خضعوا لهذه التجربة استجابوا بطرق مختلفة حيال الكم نفسه من التمارين.
لقد أظهرت نتائجهم أن هناك أفرادا يمكنهم الاستفادة من ذلك أيما فائدة جراء تلك التمارين الرياضية (نحو 15 في المائة من المتطوعين) في حين لا يظهر آخرون أي تغيير (نحو 20 في المائة من المتطوعين)، فيما يتوزع الآخرون بدرجات متفاوتة بين المجالين السابقين. دفعت هذه النتائج الباحثين لإيجاد الأسباب الخفية التي تكمن وراء هذا الاختلاف في الاستجابة. وقد تمكنوا من تحديد 11 مورثة (Gene) مسؤولة عن هذا التنوع، حيث يعتقد جيمي تيمونس وفريقه أن باستطاعتهم معرفة ما إذا كان المرء مهيأ لاستجابة قصوى للتمارين أو العكس، وذلك بمجرد إجراء فحص للحمض النووي.
إن معرفتنا بأن شخصاً ما غير مستجيب للتمارين لا تعني أنه لن يستفيد من هذا النشاط مطلقاً، لكنه سيظل بعيداً عن تسجيل النتائج الإيجابية التي يحققها الآخرون. هذا ما جعل الباحثين اليوم في رحلة للبحث عن تمارين مكيفة حسب الأشخاص. يقدم د.جيمي تيمونس ومجموعة أخرى من العلماء طريقة جديدة من التمارين، الهادفة إلى تغير مفهومنا تغييراً جذرياً إزاء الرياضة المسماة «التمارين العالية الكثافة».
تعتمد هذه الطريقة الحديثة على تقديم جهد كبير جداً في فترة زمنية قصيرة لا تتعدى بضع دقائق. وهكذا قام د.جيمي تيمونس بوضع نظام يقضي بمزاولة نشاط رياضي حاد، مثل استخدام دراجة ثابتة، والدوس عليها بأقصى سرعة ممكنة لمدة 20 ثانية، ثم أخذ فترة قصيرة من الراحة، ومعاودة الكرَّة مرتين متتاليتين، أي بما مجموعه 60 ثانية في اليوم، على أن نقوم بهذا التمرين ثلاث مرات خلال الأسبوع، وهو ما يعطينا مدة إجمالية مقدارها ثلاث دقائق أسبوعياً، لا غير!
الإنسولين وفعالية القلب
أظهرت نتائج الدراسة التي أجراها فريق جيمي تيمونس أن اتباع هذا النظام لمدة شهر واحد، أي بما يعادل 12 دقيقة، من شأنه أن يحسن عاملين مهمين في جسم الإنسان:
- العامل الأول يتعلق بمقاومة الإنسولين، إذ إن الإنسولين يعتبر المسؤول الأول عن إزالة السكر من الدم، بالإضافة إلى تحكمه في أيض الدهون، وبالتالي فإن أي خلل يصيب الإنسولين سيؤدي إلى إصابة هذا الشخص بالسكري.
- العامل الثاني هو مدى فعالية القلب والرئتين في نقل الأكسجين داخل الجسم، أو ما يُعرف باللياقة الهوائية. لذلك يتم قياس أقصى كمية من الأكسجين يمكن للجسم استهلاكها خلال التمارين (يرمز لهذه الكمية بـ VO2 Max) لتقويم هذه اللياقة.
لقد أظهرت نتائج الدراسة أمراً مدهشاً إلى حد كبير؛ إذ أدت مزاولة هذا النظام خلال شهر واحد إلى تحسين مقاومة الإنسولين بنسبة 25 في المائة، في حين أكد فريق آخر ضمن بحث نشر سنة 2011 أن متابعة هذا النظام مدة لا تزيد على أسبوعين حسَّنت من مقاومة الإنسولين بنسبة 53 في المائة. من جهة أخرى، كانت نتائج الكمية القصوى من استهلاك الأكسجين (VO2Max) - التي تعتبر أيضاً مؤشراً مهماً للتنبؤ بالصحة المستقبلية - تشير إلى تحسُّن بنسبة 10 في المائة كمعدل عام، ولكنها بدرجات تتفاوت من شخص إلى آخر، وهذا تبعاً لنوعية الاستجابة وطبيعة المورثات لكل فرد.
يعتقد الباحثون أن هذا النظام العالي الكثافة يسبب هدم الغليكوجين glycogen (وهو السكر المخزن في العضلات) بطريقة أفضل من تلك المعتمدة على التمارين المتوسطة الكثافة كالركض العادي. غير أنه يجب في هذا المقام التنبيه إلى أن هذا النوع من التمارين قد يكون قاسياً على بعض الأشخاص، لاسيما أولئك الذين يعانون مشكلات ذات صلة بالقلب وبجهاز التنفس. لذلك ينبغي استشارة الطبيب قبل اتخاذ قرار تجريب هذا النظام ذي النتائج الباهرة.
لا تزال هذه التجارب في مهدها، ويطمح د.جيمي تيمونس ورفاقه إلى اكتشاف تمارين رياضية نوعية، في السنوات المقبلة، تتكيّف مع ظروف كل فرد في المجتمع، وتلائم أوضاعه ومتطلباته ورغباته ■