البحث العلمي والتطوير... الأنواع والمستلزمات والمعوقات

غدا البحث العلمي من أهم عناصر التقدم الصناعي والرغد الحياتي للمجتمعات، لاسيما مجتمعات الدول المتقدمة، التي أولت البحث العلمي وأوجه نشاطه المختلفة شتى أنواع الدعم والإمكانات بعد الحرب العالمية الثانية. إن دالة الإنتاج  (Production Function) لها علاقة مع ثلاثة عوامل: رأس المال (Capital) والأرض (Land) والعمالة (Labour).

هذه المعادلة لم يكتب لها النجاح والتطبيق الأمثل إلا بعد إضافة عامل رابع يتعلق بالتكنولوجيا والمعرفة التكنولوجية 
(Technology and Technological Know - How) والتي تتعلق وتتطور، من خلال البحث العلمي والتطوير (Research and Development - RD).
وحيث إن تركيبة الاقتصاد والنظم السياسية تتباين بين الدول المتقدمة والدول النامية، فإن مؤسسات البحث العلمي والتطوير تكاد تكون في معظم الدول المتقدمة مستقلة وبعيدة عن وطأة البيروقراطية الحكومية - عدا المؤسسات التي تبحث في مجالات الدفاع والأمن - إذ يعتمد معظمها على القطاع الخاص وشركات الإنتاج. أما في الدول النامية، فإن معظم، إن لم يكن جل، مراكز البحث العلمي تكاد تكون مركزية، إذ إنها تموّل وتدار وتشرف عليها الحكومات (بشكل كامل). ولا مراء أن لكل واحد من هذين النظامين سلبيات وإيجابيات، إذ يعتمد تطور المجتمع والاستفادة من نتائج البحث العلمي على ميزان السلبيات والإيجابيات.
ويعتمد نجاح وتعثّر مؤسسات البحث العلمي والتطور على عوامل عدة، منها:
< الدعم المادي.
< القوى العاملة.
< المفهوم والتقدير السياسي والنظرة الاجتماعية لدور الأبحاث في تطوير المجتمع.
< تشريع سياسات للبحث العلمي.
< توافر المعلومات العلمية والتكنولوجية.
< إيجاد قنوات لتطبيق نتائج البحث العلمي في مختلف المؤسسات وقطاع المجتمع.
لا جدال في أن للبحث العلمي وتطبيقاته التكنولوجية دوراً ضليعاً في تطور ورفاهية المجتمعات. وعليه، يمكن اعتبار إجراء البحوث العلمية مقياساً لتقدم الدول ونموّها الاجتماعي والاقتصادي والصناعي. فالدول التي تخطط لتطبيقات مخرجات البحث العلمي، لا عجب في أنها تتبوأ الصدارة في مجالات عدة، بل وقد تسيطر على مجريات الأمور العالمية.
يرتبط البحث العلمي وتطبيقاته بالتنمية الوطنية والإعمار ارتباطاً وثيقاً لا يمكن فصله، إذ إن الدول المتقدمة صناعياً بارعة في ترسيخ هذا التزاوج والاستفادة منه لأقصى مدى.
وعلى ضوء ما سبق نرى أن الدول المتقدمة لا تخطو خطوة في أي مجال إلا بعد دراسة مستفيضة وبيّنة، وهذا ما يجعلها مستقرة اجتماعياً واقتصادياً وعلمياً، أو بمعنى آخر، إن البحث العلمي يشكّل جزءاً لا يتجزأ من منظومة تنميتها الشاملة، وعلى نقيض ذلك نجد أن الدول النامية ترتجل عشوائياً ودونما منهج محدد الحلول للمشكلات التي تواجهها والتي تكون بعيدة جداً عن الأسلوب العلمي الموضوعي.
إن توجيه البحث العلمي إلى أغراض التنمية في الدول النامية تقابله مشكلات وتحديات تنبع من أن وعي ومفاهيم التنمية في هذه المجموعة مازالت تحبو، أو أن التخطيط لها يتم بطرق ووسائل عشوائية أو ارتجالية أو مقلّدة لنموذج من الدول الصناعية المتقدمة، قد لا يكون موائماً لهذه المجتمعات، وفي دول أخرى لا يكترث صانعو القرار السياسي بذلك.
لذا ينتكس نشاط البحث العلمي في هذه المجتمعات نتيجة لهذا التخبّط أو غياب التخطيط، لتغدو ممارسات ونتائج الجهود، لا تمس، أو تنبع من، أو تتواكب مع، احتياجات المجتمع وأسس التنمية. وقد لا ينظر إليها كأبحاث علمية رصينة أو ذات مردود اجتماعي واقتصادي. كما قد يتساءل البعض عن أهمية مؤسسات البحث العلمي لمجتمعاتها، وقد يعلل بعض الباحثين أن مثل هذا التجافي والتباعد بين البحث العلمي والتنمية في الدول النامية ستنجم عنه أبحاث ليست ذات صلة بالتنمية الوطنية، إذ يسعى من خلالها الباحثون إلى النشر في دوريات علمية عالمية بغرض الترقية أو حضور محافل علمية عالمية فقط.

تعريف البحث العلمي
هو الدراسة العميقة والحقيقية لمشكلة من المشكلات التي تواجه المجتمع وقطاعاته المختلفة في أى ميدان من ميادين العلوم الطبيعية والتكنولوجية والهندسية والطبية، وفي أي فرع من فروع المعرفة الإنسانية، وذلك باتباع أساليب علمية مقننة، معتمدة على التخطيط والمنهجية العلمية الصائبة.
وحري بالذكر ألا تقتصر جوانب نشاط البحث والتطوير والدراسات العلمية على قطاعات علمية بحتة، مثل: البترول والبيئة والتلوث والمياه... إلخ، إذ إن مشكلات اجتماعية أخرى مثل انتشار المخدرات، وجنوح الأحداث، والطلاق والعنوسة... إلخ، هي أمور تهم صانع القرار السياسي أيضاً.

أنواع البحث العلمي
إن البحث العلمي، وإن كان يصبو إلى تحقيق أهداف عدة تطرّقنا لها آنفاً، إلا أن لهذا النشاط أنواعاً عدة تختلف حسب مواقع إنجازها ونوعية وكمية الصرف عليها والهدف من ممارستها.
ونستعرض في ما يلي أنواع البحث العلمي المتعارف عليها عالمياً:

1 - أبحاث أساسية وأكاديمية 
(Basic & Academic Research)
تهدف هذه الأبحاث إلى زيادة المعرفة الإنسانية والكشف عن الحقائق والنظريات (العلم من أجل العلم) دون الاكتراث بتطبيق النتائج، وتشمل شتى التخصصات العلمية  والاجتماعية والاقتصادية. ومما سبق نستنبط أن البحث الأساسي ينبع من رغبة الباحث في استيعاب وتفهّم ظاهرة علمية معينة، أو استكشاف أسرارها، وفي زيادة المعرفة بها، وما يتبع ذلك من نشر علمي أو إلقاء لمحاضرات في مؤتمرات علمية، حيث يؤدي ذلك إلى مساندة الباحث عند التقدم لترقية علمية.

2 - أبحاث تطبيقية (Applied Research)
هي مجالات الأبحاث التي تتوق إلى اكتشاف حقول وآفاق علمية جديدة تقترن بهدف تطبيقي مباشر، أو هي جوانب النشاط البحثي التي تسعى إلى ابتكار الحلول لمشكلات تجابه قطاعات المجتمع، أو قد تكوّن معضلة في عجلة التنمية والسبق والتطور.
وتجرى هذه الأبحاث عادة في مراكز ومعاهد متخصصة للأبحاث التطبيقية. وفي كثير من الأحيان تكون طريقة إجراء الأبحاث التطبيقية معروفة بصورة أو بأخرى، فبعد أن يتم تحديد المشكلة من خلال دراستها وتحليلها من جميع النواحي، يتم اختيار أفضل الطرق والأساليب العلمية لإجراء البحث، ويخصص الزمن المناسب والقوى العاملة الكافية والمتخصصة، وترصد الميزانية المطلوبة ويتم تجهيز المعدات والأجهزة الضرورية لذلك.
 يتم إجراء هذا النمط من الأبحاث للتوصل إلى نتائج يمكن تطبيقها علمياً أو التوصل إلى نتائج تثبت بصورة قاطعة في موضوع معين سواء بالسلب أو الإيجاب، أو التوصل إلى زيادة المعرفة التكنولوجية وإلى دراسات جدوى فنية أو اقتصادية بحيث يكون لها في النهاية مردود اجتماعي واقتصادي على مسيرة التنمية كإنتاج مواد أو سلع جديدة.

3 - الأبحاث التطويرية 
(Developmental Research)
هي جميع وجوه النشاط البحثي التي تهدف إلى تحسين منتجات ومواد موجودة وزيادة كفاءتها، أو تطوير وتعزيز آليات الإنتاج أو الحصول على منتجات ومواد جديدة. ويُنفّذ هذا النمط من الأبحاث عادة في معامل ومختبرات تابعة لشركات إنتاجية وصناعية، فكثير من المؤسسات والشركات الصناعية الكبرى في الدول المتقدمة تملك المال والخبرات والباحثين والفنيين والقوى العاملة اللازمة لإنشاء مراكز بحثية تابعة لها، وتكون مهمة هذه المراكز إجراء الأبحاث التطبيقية ذات العلاقة بأهداف ورؤى هذه المؤسسة الصناعية. إن جُلَّ هذه الأبحاث مخصص لتطوير وتحسين المنتجات التي تنتجها مصانع هذه المؤسسة بغية تحقيق السبق في الأسواق، ومن ثم جباية أرباح أكثر، كما تقوم هذه المراكز بإجراء الأبحاث للحصول على منتجات جديدة تصنع بعد ذلك وتطرح للاستهلاك.

4 - الاستشارات والدراسات
 (Consultation & Studies)
يعتمد هذا النوع من الجهد على اختيار أفضل الحلول أو المقترحات العلمية من بين ما هو متاح على الساحة العلمية ليتناسب مع طبيعة المجتمع أو قطاعات الخدمات والإنتاج. وفي كثير من الأحيان يعتمد هذا النشاط على أدوات مكتبية ومراجع إذا كان ذا طبيعة اجتماعية أو أدبية أو تربوية، مقارنة مع ما سلف ذكره من أبحاث، حيث يكون للمختبر دور مهم في ذلك.

متطلبات ومستلزمات البحث العلمي
تكاد تكون متطلبات ومستلزمات البحث العلمي البشرية أو المادية أو المؤسساتية عامة لكل الدول، وإن تباينت أولويات البحث العلمي لديها، حيث تشكل تلك المستلزمات اللبنة الأساسية والركن المتين للنهوض بالبحث العلمي.
ونستعرض في ما يلي سرداً لأهم تلك المستلزمات:
1 - استقطاب القوى البشرية وتنميتها: تعتبر مصادر إعداد وتأهيل وتدريب الثروة البشرية، هي الفيصل بين التقدم والتأخر في عالمنا المعاصر. فلا يمكن أن يتحقق تقدم من دونها، ولذلك، فإن الاستثمار الأكبر يجب أن يوجه إلى كينونة رأس المال البشري لإعداد قوة العمل المدرّبة والمتخصصة والباحثة والمخترعة المبدعة.
إن مشكلة مصادر الثروة البشرية (الجامعات والمعاهد التطبيقية) في الدول النامية، التي يعتبر خريجوها باحثين علميين، أو قادة في الرأي والفكر والإنتاج والتوجيه في المجتمع، تتركز في إبطاء وتأخر بعض الدول النامية في مباشرة التعليم العالي والجامعي، وقد تكون المباشرة في طور الإعداد في البعض الآخر، بالإضافة إلى أن أول ما يلفت النظر في التعليم العالي والجامعي في هذه الدول، والأمر ينطبق على الجامعات العربية، أن سياسته تقوم على سياسة التعليم العام نفسه، من حيث أنظمة قبوله، وانتقال المتعلم من مرحلة إلى أخرى على أساس «المقدرة» وحدها، والمقدرة هنا هي المقدرة على الحفظ وليس الابتكار. وتزداد المشكلة حدة بسبب قلة الأعداد الملتحقة بهذا النوع من التعليم، ما يؤدي إلى تسجيل طلبة في غير مواقع رغباتهم، أو إمداد سوق العمالة بكم فائض من تخصصات جامعية. أضف إلى ذلك أن بعض الخرّيجين لا يفضلون العمل في مجال البحث العلمي، ولاسيما في التخصصات العلمية والهندسية، على الرغم من أهليّتهم لذلك. ويعزى ذلك إلى عدم توافر الحوافز المادية، مقارنة بزملائهم في الدول المتقدمة. ويتطلب ذلك من هذه الجامعات أن ترسم سياسة جديدة لقبول الطلاب، ولاسيما في التخصصات الهندسية والعلمية، تهدف إلى اختيار أفضل العناصر التي يمكن أن تسهم في تنمية وإثراء البحث العلمي. كما يجب أن تتيح طرق التدريس فيها وأنظمة تقويمها الفرص لاكتشاف العناصر القادرة على مواكبة متطلبات وتحديات مهاراتها البحثية وقدرتها على التفكير والابتكار.
وعلى صانعي القرار السياسي في المجتمعات العربية دراسة وتحديد أسباب عزوف النشء عن التخصصات العلمية وإيجاد الحلول لذلك.
2 - توفير المناخ العلمي الملائم للعطاء والإبداع.
3 - تنظيم وإدارة البحث العلمي.
4 - تمويل البحث العلمي، ويعتبر هذا العنصر من أهم، إن لم يكن الأهم، في أعمدة مؤسسات الأبحاث.
5 - توفير خدمات المعلومات العلمية والتقنية.
6 - تشجيع النشر العلمي.
7 - تطبيق نتائج الأبحاث العلمية في قطاعات الإنتاج والخدمات المختلفة، ويتم ذلك بتأصيل الروابط مع قطاعات الإنتاج والخدمات.

معوقات البحث العلمي
يواجه البحث العلمي والتطور التكنولوجي، كأي نشاط علمي يتطلب رصد الموارد وحشد الطاقات، عديداً من المشكلات والعقبات التي قد تحد من انطلاقه وتحقيق ما يتوخى منه على الوجه الأكمل. وقد تتباين هذه المعوقات بين الدول المتقدمة والنامية، أو حتى بين مجموعة من الدول.
ونسرد في ما يلي بعضاً من هذه المعوقات:
1 - عدم مواكبة برامج الأبحاث وتطويرها لمتطلبات التنمية الشاملة.
2 - انعدام أو ضعف التفاعل بين الجامعات والمعاهد التطبيقية ومؤسسات الأبحاث.
3 - غياب التعاون بين قطاع الإنتاج والخدمات ومؤسسات الأبحاث.
4 - غياب التنسيق أو التنظيم الداخلي بين مؤسسات الأبحاث خلال السعي لتجنب بعض الثغرات، مثل: عدم وجود حوافز لدى العلماء الباحثين المهتمين بالبحث العلمي، أو عدم وجود آليات لتخصيص الموارد المالية للإنفاق على البحث العلمي، أو تخصيص الموارد البشرية والمالية بصورة عشوائية غير متقنة.
وقد ينعكس ذلك سلباً على مؤسسات التمويل، ويتمثّل بالدعم السخي لبرامج غير ذات أولوية للتنمية الشاملة.
5 - الوضع السياسي الملائم الذي يتوقف على تهيئة مناخ سياسي مشجع للعلم والتكنولوجيا والبحث العلمي يرتكز على عناصر عدة، أهمها: حسن القيادة والمستوى التعليمي للأعضاء المنتخبين في البرلمان، وماهية الحكومة والمميزات الاجتماعية والثقافية والمحيط السياسي القائم على ظروف محددة، رضا المجتمعات وقبولها بأهمية الأبحاث العلمية في التنمية المستدامة.
6 - عدم إلمام أو مشاركة القائمين بالبحث العلمي بخطط التنمية الوطنية.
7 - اعتماد المعايير السياسية والاجتماعية لتعيين القائمين على مؤسسات الأبحاث من دون الاهتمام الفعلي بالجوانب الأكاديمية والخبرة والتخصص، ما يحد من تطور هذه المؤسسات، إذ إن تعيين المناصب الأخرى داخل المؤسسة قد يتم بالأسلوب ذاته.
8 - عدم وجود سياسة معلنة للبحث العلمي، وترك هوية البحث العلمي ووجوه نشاطه وفق رؤية وأهواء القائمين على هذه المؤسسات، أو الاستعانة بمؤسسات وأفراد أجانب ليس لهم دراية أو إلمام بطبيعة المجتمع واحتياجاته.
9 - عدم اختيار فريق البحث أو الباحث لموضوعات مرتبطة بالمجتمع ذاته، وذلك لكون البحث طويل المدة أو لاحتياجه إلى موارد مالية مناسبة أو الحاجة إلى أجهزة ومعدات قد لا تكون متوافرة. وفي بعض الأحيان قد يلجأ الباحث إلى تكرار بحث سابق له مع تغيير طفيف في الأرقام والأهداف والأساليب. وقد يؤول ذلك أحياناً إلى ضعف آلية ربط هذه المؤسسات بقطاعات المجتمع.
10 - في كثير من المجتمعات، أو بالأحرى في عديد من قطاعاتها، ولاسيما النامية، لا تستأثر مؤسسات البحث العلمي بدعم المجتمع، بل قد ينظر هؤلاء إلى هذه المؤسسات نظرة دونية، واضعين في الاعتبار التطور العلمي والتقدم التكنولوجي اللذين حظيت بهما المجتمعات، المتقدمة، ومحاولة مقارنة ذلك بإنتاج وعمل المؤسسات الوطنية، ولذا فإن أي محاولة لتطوير هذه المؤسسات وتشجيعها تستند بصورة رئيسة إلى نظرة المجتمع الإيجابية لمؤسسات الأبحاث وتقديره للعاملين فيها، وإلى الأهمية القصوى لجهودهم في التنمية المستدامة.
11 - تعاني عديد من المؤسسات العلمية من غياب الاستقرار التنظيمي والتغيرات المتلاحقة والمتعاقبة في مواقعها وتبعيتها. وقد يقود غياب الاستقرار التنظيمي هذا إلى عدم إتاحة الفرصة الكافية لتنفيذ برامج الأبحاث، وعدم الاستقرار الوظيفي لدى العاملين فيها، أو يُعزى لقصور إدراك القائمين على هذه المؤسسات لمفهوم وسياسة وفلسفة البحث العلمي، مما يجعلهم يلجأون إلى هيئات أجنبية لإعداد برامج بحثية وطنية، وهذه الهيئات قد لا تكون على دراية كافية بمتطلبات التنمية في المجتمعات الناميــة.

عزوف الدارسين عن التخصصات العلمية
تطرّقنا آنفاً إلى أهمية البحث العلمي للتنمية، بيد أن هناك مشكلة تواجه التعليم الجامعي - وهو الرافض الأساسي للموارد البشرية - هي عزوف الدارسين عن ارتياد مجالات الأبحاث العلمية والعلوم التكنولوجية وازدياد إقبالهم على المجالات الأدبية والإدارية والفنون، وإن كانت لهذه التخصصات مساهمة في التنمية، لا ريب. بالإضافة إلى ذلك، فإن الجامعات تشهد التسرّب من التخصصات العلمية والتكنولوجية، ما ينتج عنه مسلمات سلبية تقع على الفرد والمجتمع على حد سواء، إذ سيواجه نقصاً حاداً في الكوادر المتخصصة في هذه المجالات، قد ينعكس سلباً على برامج التنمية الوطنية والتنمية المستدامة.
وقد يؤول السبب لعزوف الشباب عن ارتياد المجالات العلمية إلى:
< ضعف البنية التحتية للتعليم الأساسي، وانعدام البرامج التشجيعية للطلبة، والإقبال على الانخراط في مجالات الأبحاث العلمية والابتكارات، وكذا الافتقار إلى مراكز ومؤسسات تعنى بالبحث العلمي، وتضاؤل المخصص الحكومي للبحث العلمي.
< انعدام التنافس على التخصصات العلمية وغياب التحفيز أو تشجيع الإبداعات العلمية كما هو مألوف في رصد جوائز تشجيعية للتنافس في مجالات أخرى.
< تشهد الجامعات تغيير رغبات الطلبة في سنواتهم الأولى من دخولهم لكلياتهم التي اختاروها.
وقد يثير ذلك تساؤلات ودوافع عن هذه الأمور، أي لماذا يقرر الشباب الالتحاق بكلية ثم يعدلون عنها بعد أن تمر سنة دراسية من أعمارهم؟ هل هناك أسباب دعتهم لاتخاذ قرار ثم أدركوا بعد التجربة أنهم تعجّلوا في اتخاذه؟ لماذا لم يعطوا أنفسهم الفرصة الكافية للتعرف على إمكاناتهم الذاتية وعلى الكلية التي تناسبهم؟ هل هناك من يجبرهم على اتخاذ قرار غير مناسب؟ إن قرار التحاق الطالب بتخصص معين يتفق مع ميوله وإمكاناته وقدراته، لابد أن يبدأ قبل الالتحاق، وذلك كي يشحذ وينمّي تلك القدرات لديه، ومن ثم معرفة الكلية التي تناسبه. وهذا الأسلوب معمول به في العالم المتقدم حيث يتم تخصيص دراسات وامتحان قدرات لهذا الأمر.
< الدور الكبير الذي يلعبه التأثير الأسري في اختيار الأبناء التخصصات التي لا تتفق مع قدراتهم ومهاراتهم وذلك إرضاء لرغبة الأسرة، وأيضاً قد ينساق الطالب وراء رغبة أقرانه الذين يلتحقون بالكليات العلمية، ونظراً لارتباطه بهم، فإنه قد يختار الكلية ذاتها، وقد لا يوفق فيها، كذلك قد يتأثر الطالب بالنظرة الاجتماعية للكليات كالهندسة والعلوم الطبية، ما يجعله ينساق وراء هذه النظرة، ويختار كلية لا تناسبه ويكون مصيره الفشل والتحويل إلى كلية أخرى غير فنية أو علمية لاحقاً.
< تدني مستوى خريجي الثانوية العامة، إذ إن طبيعة الدراسة الأكاديمية في الكليات الجامعية تختلف تماماً عن الدراسة في المدارس التعليمية، حيث إن الطالب ينتقل من أسلوب التلقين إلى أسلوب البحث، وهو مسار جديد عليه، ولذلك على الطالب أن يتحمل في بداية الأمر حتى يتأقلم. ولكن في حالة عدم مقدرته على التأقلم ووصوله لحالة كراهية التخصص والمجال نفسه، فعليه ألا يتسرّع في اتخاذ القرار، وأن يستشير المتخصصين وذوي الخبرة في هذا الشأن قبل التحويل إلى كلية أخرى.
< محدودية فرص العمل أو توافر الفرص الأفضل لخريجي التخصصات الأخرى. وهكذا تظل المشكلة قائمة والشباب يعزفون وينأون عن العلوم، بل وقد ينزحون إلى الخارج للبحث عن فرص عمل، وعمن يحترم عقولهم المتميزة، وابتكاراتهم الجديدة. وقد يرى البعض أن التخصصات غير العلمية لا تتطلب منه المكوث في الجامعة لساعات طويلة، وأن التخصصات الأخرى قد تكون سهلة لحياتهم.
وحري بالذكر أن يتيقن صانعو القرار السياسي ومتخذو القرارات في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلى أهمية دور المرأة في عملية التنمية الشاملة، وأنها ركن راسخ لتحقيق الأهداف التنموية المستدامة، وأنها ركيزة أساسية لهذه الأهداف، وعليهم أن يقرّوا بأن للمرأة في جميع التخصصات والمجالات بؤرة يتفجّر منها الإبداع والابتكار متى أعطيت الفرصة وفتح لها المجال لذلك.
والمتمحّص لمسيرة العلوم والتكنولوجيا والبحث العلمي في مجتمعاتنا، يرى أن المرأة ساهمت مساهمة فاعلة في تحقيق برامج التنمية المستدامة، وفي تحقيق تطلعات وآفاق التنمية الاقتصادية الوطنية.