عن المعرفة ... الظاهر منها والباطن
«المعرفة» و«المعرفي» اسم وصفة تلتقي بهما كثيرا في ما تنشره وسائل الإعلام المختلفة، فالاسم يأتي مصطحبا معه اسما آخر في عبارة «إدارة المعرفة»، التي تشير إلى نظام علمي جديد يهتم بكل ما يتعلق بإنتاج ونشر واستخدام المعرفة. ونرى الصفة مستخدمة في وصف مجتمعات واقتصادات الدول المتقدمة. ويدفعنا كل هذا لتساؤل مشروع عن المقصود بكلمة المعرفة. وأبسط هذه الردود أن المعرفة هي «الاعتقادات الصادقة والمُبَرَرة التي تزيد من قدرة حائزها على العمل بفعالية» (Huber, 1991; Nonaka, 1994). ووصف الاعتقاد بـ «الصادق» يعني إمكان التحقق من صحته بالرجوع إلى الواقع ومقارنة أحواله الحاضرة مع ما ورد في الاعتقاد.
اما صفة «مُبَرَر»، فتعني تجنب كل من «البينات الحكائية (الحكايات)»، التي يصعب التأكد منها، و«البينات الشهادية (الشهادات)»، التي تفتقد الإجماع. وبالطبع، فإن المعرفة - طبقا لهذ التعريف- هي معرفة يمكن صوغها على هيئة عبارات لغوية أو معادلات رمزية. لكن الإنسان، في كثير من الأحيان، لا يمكنه صوغ ما يعرفه. وعلى حد قول ميكائل بولانيي Michael Polanyi، الطبيب وعالم الكيمياء وفيلسوف العلوم، «نحن نعرف أكثر مما يمكن قوله» (Polanyi, 1966). وكانت مقولته هذه أساس تصنيفه المعرفة إلى «معرفة ظاهرة» Explicit Knowledge و«معرفة مكنونة» (أو مستترة) Tacit Knowledge. والمعرفة الظاهرة هي المعرفة التي يمكن «تدوينها» ومن ثم يسهل تداولها بين الأفراد والمجموعات والمنظمات. وتأخذ المعرفة الظاهرة أشكالاً عديدة من قبيل براءات الاختراع، وثائق التصميم، تعليمات التشغيل، الأوراق العلمية، أو المراجع العلمية والتقنية. أما المعرفة المكنونة (أو المستترة) فهي المعرفة التي يصعب التعبير عنها ومن ثم يصعب تدوينها. وكما تتعدد أشكال المعرفة الظاهرة، تتعدد أشكال المعرفة المكنونة، فهي قد تتمثل الخبرة التي يحوزها المرء نتيجة لممارسته الطويلة والواعية لمهنة ما، أو في المهارات التي يكتسبها الإنسان نتيجة لممارسته نشاطاً معيناً، وهي قد تتمثل في الحكمة الناتـجة مــن خوضه تــــجارب حـيــاتـــية ثرية ومتنوعة. وليس إتــــقان عــــامل خـــــراطة أو بــــــــــــــراعــة عازف بــــيـانو أو حنكــة طـبـــيب عـيون أو مـــهارة راقصة بــالـــيه أو الــــــنظر الثــــــاقـــب إلـى مــــخطط استراتــــيجــي إلا أمثلة على المعرفة المكنونة. ومثل هذا النوع من المعرفة يصعب تداوله أو نسخــه أو محاكــاته أو تـــــــقــلـــــيده.
هكذا تحدث نوناكا
أدى تــــــزايد الـــوعي بالدور المتعاظم الذي تلعبه المعرفة إلى ظهور العديد من الأوراق العلمـــــية التي تبحث في آليات إنتاج المعرفة في المنظمات?، وفي الدور الذي تلعبه هذه المعرفة في تحقيق مزايا تنافسية لها، سواء باستخدامها في إنتاج سلعة جديدة أو في تحسين جودة منتج مطروح في الأسواق أو في زيادة كفاءة وفعالية خدمة ما. وكان من أهم هذه الأوراق الورقة العلمية «نظرية ديناميكية لإنتاج المعرفة المنظمية» (نسبة إلى المنظمات)، التي نشرها عالم الإدارة الياباني نوناكا عام 1994 في الدورية العلمية الشهيرة «علم المنظمات» Organization Science Nonaka, 1994. وكان الموضوع الرئيس لهذه الورقة هو نموذج لإنتاج المعرفة يبدأ بالفرد لينتهي بالأمة مرورا بالمجموعات والمنظمات. وينظر هذا النموذج إلى عملية إنتاج المعرفة على أنها سلسلة من التحولات بين نوعي المعرفة البشرية، الظاهرة والمكنونة، أي من معرفة مكنونة إلى معرفة ظاهرة وبالعكس. وطبقا لهذا النموذج، تمثل المعرفة المكنونة لكيان ما، فردا أو مؤسسة أو أمة، الرصيد المعرفي الذي يميزه عن غيره من الكيانات. لذا تعمل الكيانات الساعية وراء التميز في عالمنـــا المعـاصر، الواعـية بأهمـية الدور الـــذي تلعـبه المعرفة، إلى حــــمـــــــاية رصيدها من المعرفة المكنونة وإلى تـــــعظيمه باستمرار، ســـــواء بتـــبني برامج طمــوحة للتنمية البــــــــــــشرية أو بإغــــــراء الكفاءات والخبرات للتوطن فيها.
لكن تعظيم رصيد المعرفة المكنونة لكيان ما فقط لا يؤدي بالضرورة إلى تميزه أو تقدمه. فهذا الرصيد في صورته الأولية لا يعدو كونه جزراً منفصلة ومتباعدة من الخبرات والمهارات التي لا تؤتي ثمارها إلا بنشرها وتعميمها حتى يتمكن كل جزء من أجزاء هذا الكيان، أفراداً وجماعات ومنظمات، من الاستــــفـــــادة من المعرفة التي تـحـــوزها بقـــية الأجــــزاء. وإشــاعة المعـرفــة المــــستـــترة لأفراد مجـــتـــمع هي ما يطلق عليه نوناكا اسم عملية «المعاشرة (أو المخالطة)» Socialization. وإذا كانت عملية التشريك تهدف إلى نشر المعرفة المكنونة (أو المستترة) عبر المكان، فإن حفظها عبر الزمان لفائدة الأجيال اللاحقة يتطلب إظهارها، أي تحويلها إلى معرفة ظاهرة يمكن تدوينها في نصوص ورقية أو إلكترونية.
وعملية «الإظهار» Externalization هذه هي المرحلة الثانية من مراحل نموذج نوناكا لإنتاج المعرفة. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة «نظم» Combination المعارف المنتجة حديثا مع تلك الموجودة لتشكل منظومة معرفية تعكس تعدد الرؤى وتكاملها في آن واحد. ونأتي إلى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة «استبطان» Internalization المعرفة، حيث تتحول المعرفة الظاهرة عبر استخدامها وتطبيقها وإثرائها بخبرة الواقع المتجددة إلى معرفة مكنونة لتبدأ الدورة من جديد. كان هذا عرضاً موجزاً ومبسطاً لنظرية نوناكا لإنتاج المعرفة التي استخدمها لتفسير المعجزة اليابانية التي حققتها منظمات أمة دمرت بناها التحتية حرب عالمية، وأبادت مراكزها الصناعية قنابل نووية. وهو النموذج الذي أحدث ثورة في الفكر الإداري الغربي على وجه العموم، وفي الفكر الإداري الأمريكي على وجه الخصوص. وإذا كان نموذج نوناكا في صورته الأولية يركز على إنتاج المعرفة في المنظمات، فإنه نموذج عام يمكن تطبيقه على كيانات أكبر، بدءاً من الشركات متعددة الجنسيات وانتهاء بالأمم.
فقدر الأمم في الألف الثالثة لم تعد تحدده ثرواتها الطبيعية ولا حتى قدراتها التصنيعية، بل باتت تحدده قدراتها على إنتاج المعرفة من ناحية، وعلى استخدامها من ناحية أخرى. والمعرفة طبقا لنوناكا هي كائن حي دائم التجدد والنمو. فالمعرفة الظاهرة المدونة في النصوص لا قيمة لها ما لم تتم إعادة إنتاجها بتنزيلها على واقع المجتمع الذي يستخدمها، فتثري من أموره المتجددة وتتكيف مع معطياته المستجدة. وهي أيضا تثري من المعرفة المكنونة لمن يستخدمها من أفراد المجتمع. لذا يحتل العنصر البشري مكانة محورية في نموذج نوناكا، فهو من أهم مصادر المعرفة بما يحوزه من خبرات ومهارات، ومن خلاله تتحول تلك المعـــرفة إلى قـــيمة وميزة .