الرياضيات... معضلة التدريس والحلول الواعدة

يشتكي أساتذة الرياضيات في كل أنحاء العالم من الصعوبات المتزايدة التي يواجهها الطلبة في استيعاب دروس الرياضيات ومختلف نشاطاتها. والواقع المرير الذي يعيشه كل من الأستاذ والطالب له أسباب موضوعية وأخرى لم تتضح بعد.

 

تفطن علماء الرياضيات إلى هذه الظاهرة منذ أكثر من ربع قرن في الدول المتقدمة في أوربا وأمريكا وبعض البلدان الآسيوية، غير أن الحلول المقترحة لم تؤت أكلها رغم الجهود المبذولة على أكثر من صعيد في شتى بلدان العالم.

الماضي والحاضر
كان الرياضي الألماني الشهير ديفيد هيلبرت  Hilbert (1862-1943) قد ألقى محاضرة عـام 1900 في المؤتمر الدولي الثاني للرياضيات، ظلت مرجعاً تاريخياً فريداً من نوعه. وما ميّز هذه المحاضرة أن صاحبها، بدل معالجة مسألة من مسائل الرياضيات المتعددة كما يفعل زملاؤه، راح يقدم جملة من المسائل المعقّدة بلغ عددها 23 مسألة مفتوحة. 
وإذا كانت هذه المسائل قد عرفت ذلك الرواج طوال القرن الماضي فلأنها لم تكن مسائل بسيطة، بل كانت كل واحدة منها بمنزلة برنامج عمل طويل المدى. فقد أدت جميعها دوراً رئيساً في التقدم الباهر الذي حققته الرياضيات خلال القرن العشرين. وهكذا توصل العلماء بمحاولة حل مسائل هيلبرت إلى إنشاء عشرات الفروع والاختصاصات الرياضية الجديدة. وها قد انقضى القرن العشرون ومازال الرياضيون يواصلون البحث في ما تبقى من مسائل هيلبرت! 
ونظراً إلى ما حققه «الجيل القديم» من تقدم في شتى الفروع الرياضية، ونظراً لعزوف منقطع النظير لدى «الجيل الجديد» في باب الإقبال على دراسة الرياضيات خاصةً، والعلوم الأساسية عامةً، فقد قررت مجموعة من أشهر الرياضيين العالميين سنة 1990 خلال انعقاد الجمعية العامة للاتحاد الدولي للرياضيات باليابان أن تكون سنة 2000 - وهي الذكرى المئوية لمحاضرة هيلبرت المشار إليها أعلاه - السنة الدولية للرياضيات. وتبنى الاتحاد الدولي للرياضيات ومنظمة اليونسكو هذه الفكرة خلال اجتماع عقد عام 1992. وفي هذا السياق، نُصّبت لجنة تضم كبار الرياضيين في العالم من أجل جعل سنة 2000 سنة دولية للرياضيات، علها تفتح أبواباً جديدة أمام رياضيي القرن الحادي والعشرين... وأملاً في تحفيز الطلبة والتلاميذ على المزيد من الاهتمام بالرياضيات. 
غير أن ما يحدث الآن، لاسيما في البلدان المتقدمة علمياً هو تسجيل نتائج باهرة في مجال البحث واكتشاف النظريات الجديدة في الرياضيات، وهذا جميل جداً. لكن ما لا يدعو للغبطة هو أن الهوة التي تفصل عالَم الرياضيات بعامة الناس تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم. والأدهى من ذلك هو انتشار ظاهرة عزوف الطلبة عن دراسة الرياضيات والتخصص في فروعها المختلفة في عدد كبير من بلدان العالم. ومنذ فترة أدرك جلّ الرياضيين خطر هذا التوجّه العام عبر العالم في موضوع الرياضيات والعلوم الأساسية إلى حد أن بعض الجامعات اضطرت إلى إغلاق أقسام الرياضيات فيها لقلة أو انعدام الطلبة في هذا التخصص، والوضع شبيه بذلك في مادة الفيزياء. 
ويبذل أهل الاختصاص وأصحاب القرار جهوداً مضنية منذ ربع قرن للحيلولة دون تفاقم هذه الأوضاع الخطيرة على تقدم الأمم. لكن هذه المساعي في بلاد الغرب لم تحقق النجاح المنشود في جلب شريحة واسعة من الباحثين الشباب، كما أنها لم تزد في اهتمام التلاميذ بالرياضيات إلا قليلاً. ومن المحاولات التي قام بها المربون على مستوى المناهج التعليمية إدماج الألعاب والمسائل الترفيهية في تدريس مادة الرياضيات لشد انتباه التلاميذ. وحاولوا عندما أدركوا الصعوبات التي يتلقاها هؤلاء التلاميذ في استيعاب درس الرياضيات، إعادة النظر في طريقة إلقاء الدرس، مستغلين ما جادت به التكنولوجيات الحديثة من وسائل مستحدثة، بل لجأ واضعو المناهج وخبراء التدريس أمام الفشل الواضح لهذه المحاولات إلى تخفيف المنهاج وتجريده من كل «العقبات»، أي إزالة المفاهيم والدروس التي يجد فيها التلميذ عوائق كبيرة.

المعضلة
الواقع أن آراء الخبراء في مجال التعليم والبحث في الرياضيات تتأرجح بين موقفين: 
الرأي الأول: يرى الالتزام في مناهجنا بما تفرضه علينا صرامة الرياضيات ومتانة منطقها ودقة نتائجها حتى لو كلّفنا ذلك ترك الكثير من الضحايا في صفوف التلاميذ غير القادرين على مواكبة هذا الأسلوب.
الرأي الثاني: يرى معالجة القليل من المعلومات الرياضية في مناهجنا، مركزين على الجاهز من الحلول دون التركيز على ما تتطلّبه الرياضيات من تكوين فكري مجرد، وبذلك يتزايد اهتمام معظم التلاميذ بالرياضيات.  
 لقد ظل الجدل محتدماً إلى اليوم بين طرفين: الطرف الأول يتكوّن جلّه من الأكاديميين وبعض أعضاء سلك التدريس، فهم يدقون في كل المحافل العلمية ناقوس الخطر، ويدعون إلى تثبيت الرأي الأول. الطرف الثاني يتألف من رجال التربية ورجال السياسة الذين لا يرون بداً من تبني الرأي الثاني.
وفي هذا السياق، نذكر على سبيل المثل، موضوع الآلة الحاسبة واستخدامها في المدارس، فمن بين ما ينبغي أن يلم به تلميذ المرحلة الابتدائية هو الحساب والقراءة والكتابة. والحساب يعتمد على العمليات الأربع (الجمع والطرح والضرب والقسمة). تُعتبر هذه العمليات لدى الأكاديميين من أبرز ما يؤثر في ذهن التلميذ في مجال الرياضيات (إلى جانب الهندسة) ويسهم في تكوين فكره الرياضي والعلمي. لذا يرى جلّهم ضرورة منع استخدام الآلة الحاسبة في الفصل خلال المرحلة الابتدائية، كي يتعود التلميذ على استعمال يده وقلمه وفكره. لكن من أين لك أن تتصدى لهذا المدّ الجارف الآن في الوقت الذي صار المعلم نفسه يلجأ إلى هذه الآلة في أبسط العمليات؟!
ما من شك في أن استعمال الآلة الحاسبة صار اليوم استعمالاً يومياً من قبل الجمهور الواسع، ولها مكانتها في حياة الأطفال، وهي كثيرة الاستعمال في المدرسة، سيما في علوم الطبيعة. ولذا يرى بعض الخبراء –رغم مساوئ الآلة- أنه يمكن أن يستفيد منها خيال الطفل في المرحلة الابتدائية، إذ تدعوه إلى استكشاف قواعد الحساب من خلال اللعب. وقد بينت دراسة بالولايات المتحدة أن استخدام الألعاب في سنّ مبكّرة بشكل مناسب يسمح للتلاميذ - لاسيما القادمون من وسط فقير - بالحصول على معدّلات أعلى بعد أن كان مستواهم ضعيفاً، لكن الأكاديميين سرعان ما يستدركون وينبهون بأنه لا ينبغي على الآلة أن تعوّض الجهد الفكري، ثم إن الوضع في الولايات المتحدة ليس في هذا الباب نموذجاً يحتذى نظراً لما ظهر فيه من عيوب.
 وعندما ننظر عن كثب إلى عزوف جل التلاميذ والطلبة عن الرياضيات نتفهم جزءاً منه، لأن انشغال الشباب بما توفّره الوسائل التكنولوجية الحديثة من أنواع الهواتف والحواسيب والألواح والألعاب والصور (الأفلام، الفيديوهات، الإنترنت،...) يقضي على الوقت الذي ينبغي أن يخلو فيه التلميذ للبحث عن حل تمارين في الرياضيات والتي يمكن أن تأخذ منه وقتاً طويلاً في التفكير المركز والمتعب... وهو جهد مرهق فعلاً، لكن باذله يشعر بنشوة ليس لها مثيل إذا ما تحلى بالصبر وتوصل إلى الحل، كما يشعر بنكسة قاسية إذا ما قضى الساعات تلو الساعات والأيام تلو الأيام من دون جدوى. لكنه من المعروف في حالة الفشل أن الطالب المواظب يتعلم من أخطائه ويصل في آخر المطاف إلى مبتغاه إذا ما كان ذا نفس طويل. المشكل الكبير هو أننا جميعاً نعيش «عصر السرعة»، والتلميذ يعيش بسرعة أكبر: لماذا يا ترى سيقضي التلميذ 5 دقائق في إجراء عملية ضرب أو قسمة إذا كانت الآلة تقدمها له من دون أخطاء في رمشة عين؟ ولماذا سيقضي الطالب عشرات الدقائق في رسم بياني في الوقت الذي يكفيه أن يكتب معادلة في حاسبته الحديثة فترسمه بالألوان رسماً دقيقاً وجميلاً؟ 

الآراء والمواقف
لعل البعض يرى تناقضاً في أمرين: من جهة نؤكد أن البحث في حقل الرياضيات يعرف ازدهاراً لا مثيل له، ومن جهة أخرى نقول إنه ليس هناك إقبال على دراسة الرياضيات من قِبل الجيل الصاعد. الواقع أن «الجيل القديم» هو الذي يرعى ويواصل المسيرة في مجال البحث. ومن جانب آخر، فمن التدابير العاجلة التي اتخذتها الدول المتقدمة هي فتح مؤسسات خاصة بالمواهب الذين يُعَوّل عليهم، ومنهم أولئك القادرون على الجلوس أمام كتاب الرياضيات ومسائلها ساعات طوالاً دون ملل ولا كلل. تلك النخبة هي الكفيلة بحمل المشعل. والمتتبع إلى حال الجامعات الغربية يلاحظ أنها تناشد المواهب وتتعقب آثارهم في البلدان النامية، لجعلهم يلتحقون بها، وتوفر لهم المنح الدراسية بسخاء والظروف الملائمة للبحث والدراسة. 
نلاحظ أن من بين السبل التي يسعى من خلالها الغرب لتحبيب الرياضيات عند شباب الجامعات والثانويات القيام بتظاهرات علمية وتنظيم معارض في مختلف المؤسسات (في كل المراحل التعليمية) تبرز الجانبين التطبيقي والترفيهي للرياضيات، مركّزة على جانب المتعة عند التركيز على المسائل العويصة. وفي هذا الباب قد يستغرب القارئ أن هناك حكومات غربية تدفع ملايين الدولارات بغية تشويق التلاميذ وجعلهم يتخصصون في الرياضيات عند التسجيل بالجامعة.
ومن بين الموضوعات التي نجد فيها الرياضيات حاضرة بكثافة دون علم السواد الأعظم من الناس نذكر:
- أحوال الطقس: التنبؤ بالأحوال الجوية التي من دونها تتوقف الكثير من النشاطات عبر العالم، منها الملاحة الجوية، مبني على معادلات رياضية بالغة التعقيد وعلى نمذجتها، وكلما تحسنت هذه النمذجة صار التنبؤ أدق... علما بأن البحث فيها مازال على قدم وساق في الرياضيات بالتعاون مع علماء الأحياء والكيمياء والفيزياء والمعلوماتية.
- الهاتف النقال: إنه جهاز في متناول الجميع، لكن لا أحد يدري كمَّ الرياضيات فيه وعدد الأبحاث التي أجريت كي يقدم كل تلك الخدمات. وهنا أيضا نجد الباحثين في الرياضيات بالتعاون مع غيرهم يواصلون العمل ليلاً نهاراً لتحسين خدمات الهاتف.
التعمية (أو التشفير): تصور كيف ستصبح خدمات البنوك وبطاقات التأمين وكلمات السر بمختلف أنواعها (العسكرية والمدنية) لو لم تكن  هناك تعمية. إنه علم يتعقّد يوماً بعد يوم لأن هناك التعمية وفك التعمية (فك الشفرة). هذا العلم برمته يقوم على نظرية الأعداد (1، 2، 3، 4، ...)، وهي فرع من فروع الجبر. فأنت عندما تريد فك شفرة، فهذا يعني أنك تريد تفكيك عدد إلى ما يسمى بعوامل أولية... وبقدر ما يكون العدد كبيراً بقدر ما يصعب التفكيك، وبالتالي يستعصي فك التعمية ويكون صاحبها أكثر حماية. والموضوع أعقد من ذلك بكثير، لكن يهمنا في هذا المقام الإشارة إلى أن من يبحث في التعمية جلهم من علماء الرياضيات، وهم الذين يقع على عاتقهم التأمين بالشفرة. 
- التحكم في حركة الطيران والقطارات ومترو الأنفاق وتحسين حركة المرور وشق الطرقات: كل ذلك يخضع لمعادلات رياضية دقيقة سهر عليها مئات الباحثين، ولا يزالون. فالطائرة وحدها مثلا لا يكفي صنعها لضمان أي خدمة لها. وكيف تتصور مترو الأنفاق المٌسَيَّر ذاتيا دون سائق يقطع عشرات الكيلومترات تحت المدينة وفوقها، ويتوقف في كل محطة، ويفتح أبوابه في الوقت المناسب، وينزل النازل ويصعد الصاعد، ثم يغلقها دون إلحاق أي ضرر بالمارة والركاب، وينطلق مجدداً ليعيد الكرَّة في المحطة القادمة، وكل ذلك دون حادث مرور؟ كيف تتصور أن تتم تلك العمليات جميعها لو لم يظهر في الرياضيات فرع حديث يسمى «نظرية التحكم» Control theory يضم آلاف الباحثين يعملون على تطوير سبل التحكم دون تدخل يد الإنسان؟
- رياضيات الأحياء: رياضيات تعرف الآن ازدهاراً كبيراً، حيث ترسم هذه الرياضيات نماذج لأمراض وسبل علاجها، وتضع لها معادلات دقيقة بالتعاون مع البيولوجيين. ومن ذلك الأمراض التي ازدادت انتشاراً في عصرنا هذا، مثل السرطان.

تعلّم الرياضيات من ألفها إلى يائها!
ستطول هذه القائمة لو أردنا استعراض أبرز المسائل التي يبحث فيها الرياضيون التطبيقيون. وقد يقول قائل: هذه الرياضيات مقبولة، وهي شيقة ولا تنفِّر. فلماذا لا نكتفي بدراستها وتدريسها لتلاميذنا وطلبتنا بدل الغوص في التجريد وفي متاهات الرياضيات الجافة. وقد سمعنا هذا القول يتردد كثيرا في القارات الخمس. الإجابة عن هذا السؤال لن تروق للكثيرين: إن ما تحققه الرياضيات التطبيقية من إنجازات في جميع المجالات -الظاهر منها وما بطن - لم ولن يتحقق من دون الإلمام بالرياضيات الجافة التي لا يميل إليها إلا فئة قليلة من الطلبة! 
خلاصة القول إنه يمكن تقسيم الرياضيات إلى ثلاثة «رياضيات»: الرياضيات البحتة، والرياضيات القابلة للتطبيق، والرياضيات التطبيقية. وكل واحدة من هذه الرياضيات تمثّل حلقة من سلسلة... هي حلقات تشد بعضها بعضاً. فالرياضيات التطبيقية بحاجة ماسة إلى الرياضيات القابلة للتطبيق التي تضع لها التصاميم والنماذج. والرياضيات القابلة للتطبيق تستمد مفاهيم تصاميمها من الرياضيات البحتة والجافة. يبقى السؤال: من أين نبدأ عندما يتعلق الأمر بتدريس الرياضيات للتلميذ والطالب؟ من «التطبيق» أو «من القابل للتطبيق» أو من «الجاف»؟ ذلك هو بيت
 القصيد! ■