ذابت بِفمه مثل السكّر

ذابت بِفمه مثل السكّر

كان‭ ‬يومًا‭ ‬قائظًا‭ ‬شديد‭ ‬الحرارة،‭ ‬والشمس‭ ‬تسدِلُ‭ ‬أشعّتها‭ ‬على‭ ‬أجسادنا‭ ‬بِلا‭ ‬استحياء‭ ‬فتوقظُ‭ ‬في‭ ‬عروقنا‭ ‬اللهيب،‭ ‬وتلك‭ ‬الخيام‭ ‬البيضاء‭ ‬المنسدلة‭ ‬على‭ ‬الطرقات،‭ ‬والتي‭ ‬تتهيّأ‭ ‬لِلمواسم‭ ‬كلّها‭ ‬بِموقفٍ‭ ‬ثابت‭ ‬تشي‭ ‬بِهشاشة‭ ‬أعمدتها‭ ‬المعدنية‭ ‬وقماشها‭ ‬المشدود‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬يتمكّن‭ ‬من‭ ‬إيقاف‭ ‬تسلّل‭ ‬لهيب‭ ‬الصيف‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭.‬

‭ ‬أتيتُ‭ ‬مع‭ ‬عائلتي‭ ‬قبل‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬إثر‭ ‬حرب‭ ‬اندلعت‭ ‬في‭ ‬بلادي،‭ ‬عندما‭ ‬قرّرنا‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬مكانٍ‭ ‬آمن‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬الكريمة‭ ‬لِتحتوينا‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الدمار‭ ‬والحطام‭ ‬وأصوات‭ ‬القنابل‭.‬

انا‭ ‬أيهم‭ ‬وعمري‭ ‬اثنا‭ ‬عشر،‭ ‬عامًا‭ ‬أسكن‭ ‬في‭ ‬مخيّم‭ ‬لِمنكوبِي‭ ‬الحروب،‭ ‬وأعمل‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬المياه‭ ‬على‭ ‬اللاجئين‭.‬

أخي‭ ‬يوسف‭ ‬يحبّ‭ ‬المثلّجات،‭ ‬وفي‭ ‬كلّ‭ ‬موسم‭ ‬صيف‭ ‬لهّاب،‭ ‬يبدأ‭ ‬نُواحه‭ ‬وتذمّره‭ ‬لِعدم‭ ‬توفّر‭ ‬هذه‭ ‬الرفاهية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المخيم‭.‬

وإذا‭ ‬أردتُ‭ ‬أن‭ ‬أبتاع‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أنتظر‭ ‬حتى‭ ‬انتهاء‭ ‬توزيع‭ ‬المياه‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬لِأتوجّه‭ ‬إلى‭ ‬سوقٍ‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬المخيّم،‭ ‬وإن‭ ‬أفلحت‭ ‬محاولاتي‭ ‬بِتصبيره‭ ‬لِنهاية‭ ‬اليوم‭ ‬لن‭ ‬أنجح‭ ‬في‭ ‬إتيانه‭ ‬ما‭ ‬يريد،‭ ‬حيث‭ ‬إنّ‭ ‬محلّات‭ ‬المثلّجات‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬باعت‭ ‬جميع‭ ‬ما‭ ‬لديها‭ ‬في‭ ‬الثلّاجة‭.‬

أخذ‭ ‬يوسف‭ ‬يبكي‭ ‬بِحرقة‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬وأتعب‭ ‬والدتي‭ ‬معه‭ ‬ولم‭ ‬نستطِع‭ ‬تصبيره‭ ‬بِحلوى‭ ‬أخرى‭ ‬تسدّ‭ ‬مكان‭ ‬حلمه‭ ‬بأِكل‭ ‬‮»‬المثلّجات‮«‬،‭ ‬حينها‭ ‬شعرت‭ ‬بالضيق‭ ‬على‭ ‬حاله‭ ‬وقرّرتُ‭ ‬أن‭ ‬أعمل‭ ‬بِسرعة‭ ‬وأوفّر‭ ‬الوقت‭ ‬لِأتمكّن‭ ‬من‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنفد‭ ‬المثلّجات‭.‬

خرجتُ‭ ‬من‭ ‬الخيمة‭ ‬قبل‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬موعد‭ ‬التوزيع‭ ‬اليومي،‭ ‬وأخذت‭ ‬أجري‭ ‬وأسابق‭ ‬الريح‭ ‬،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬أغادر‭ ‬همستُ‭ ‬بِأذن‭ ‬يوسف‭ ‬وهو‭ ‬نائم‭ ‬بأنّي‭ ‬سأحضر‭ ‬له‭ ‬اليوم‭ ‬ما‭ ‬يتمنّى‭.‬

وأسعفني‭ ‬أبي‭ ‬بِمساعدته‭ ‬إياّي‭ ‬وخروجه‭ ‬المبكّر‭ ‬معي،‭ ‬وبهِذا‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬انتهيت‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬تمام‭ ‬الساعة‭ ‬الخامسة‭ ‬عصرًا،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يمنحني‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬الساعة‭ ‬قبل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬المنشود‭.‬

كان‭ ‬العرق‭ ‬يتصبّب‭ ‬من‭ ‬جنباتي‭ ‬وكأنّ‭ ‬جسدي‭ ‬تحوّل‭ ‬لِشلّال‭ ‬يتدفّق‭ ‬بِقوة‭ ‬ولم‭ ‬أهتم‭ ‬لذلك‭ ‬ولم‭ ‬أراعِ‭ ‬صوت‭ ‬معدتي‭ ‬التي‭ ‬اعتادت‭ ‬على‭ ‬تناول‭ ‬وجبة‭ ‬الغداء‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬محدّد،‭ ‬وأخذت‭ ‬قدماي‭ ‬تتلاحقان‭ ‬كعجلات‭ ‬درّاجة‭ ‬ناريّة،‭ ‬حتى‭ ‬وصلتُ‭ ‬إلى‭ ‬وجهتي‭ ‬وأنا‭ ‬ألاحق‭ ‬أنفاسي،‭ ‬وأطارد‭ ‬الثلّاجة‭ ‬بِنظراتي‭ ‬حتى‭ ‬اطمأنّ‭ ‬قلبي‭ ‬لِوجود‭ ‬ما‭ ‬أريد‭. ‬اشتريتُ‭ ‬أربع‭ ‬قِطع‭ ‬من‭ ‬المثلّجات‭ ‬وعدتُ‭ ‬كما‭ ‬أتيتُ،‭ ‬حتى‭ ‬وصلتُ‭ ‬باب‭ ‬الخيمة‭ ‬وأخذت‭ ‬أنادي‭ ‬على‭ ‬يوسف‭ ‬بِصوتٍ‭ ‬مبحوح‭ ‬وجسد‭ ‬يرتجف‭ ‬حتى‭ ‬خرجت‭ ‬الكلمات‭ ‬من‭ ‬فمي‭ ‬متلعثمة،‭ ‬وعندما‭ ‬خرج‭ ‬يوسف‭ ‬وأمّي‭ ‬لِيَريا‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬معي،‭ ‬تمالكتُ‭ ‬نفسي‭ ‬ووجّهت‭ ‬كيس‭ ‬المثلجات‭ ‬أمامه‭ ‬وانحنيتُ‭ ‬ألتقط‭ ‬أنفاسي‭ ‬لِأخبره‭ ‬باِلغنيمة‭ ‬التي‭ ‬ينتظرها‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭.‬

ركض‭ ‬يوسف‭ ‬وهو‭ ‬يقهقه‭ ‬فرحًا‭ ‬لِيلتقط‭ ‬الكيس‭ ‬بِسرعة‭ ‬البرق،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬أخذه‭ ‬وتحسّس‭ ‬ما‭ ‬بداخله‭ ‬حتى‭ ‬انفجر‭ ‬من‭ ‬البكاء‭. ‬

تعجّبنا‭ ‬لِأمره‭ ‬فأخذتْ‭ ‬أمّي‭ ‬الكيس‭ ‬من‭ ‬يده‭ ‬وقالت‭: ‬لقد‭ ‬ذابت‭ ‬المثلّجات‭. ‬

شعرتُ‭ ‬بأنّ‭ ‬صدري‭ ‬ينفجر‭ ‬من‭ ‬القهر‭ ‬على‭ ‬أخي،‭ ‬وشاركته‭ ‬البكاء‭ ‬وأنا‭ ‬أحتضنه‭ ‬إلى‭ ‬قلبي‭. ‬سمعت‭ ‬صوتًا‭ ‬يقول‭ ‬مِن‭ ‬خلفنا‭ (‬أعطني‭ ‬إيّاها‭ ‬أضعها‭ ‬في‭ ‬ثلّاجة‭ ‬المركز‭ ‬حتى‭ ‬تتجمّد‭) ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬الضابط‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬تنظيم‭ ‬دخول‭ ‬اللاجئين،‭ ‬شعرتّ‭ ‬بأنّ‭ ‬هديّة‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬وقعت‭ ‬على‭ ‬قلبي‭ ‬فأخذتُ‭ ‬الكيس‭ ‬وأعطيته‭ ‬إيّاه،‭ ‬وبقي‭ ‬يوسف‭ ‬ينتظر‭ ‬لحظة‭ ‬تلقّيه‭ ‬لِمثلّجات‭ ‬حقيقية‭. ‬تناولتُ‭ ‬الغداء‭ ‬وأنا‭ ‬أراقب‭ ‬باب‭ ‬الخيمة‭ ‬بِانتظار‭ ‬الضابط،‭ ‬وبعد‭ ‬ساعتين‭ ‬فقط‭ ‬سمعت‭ ‬صوته‭ ‬يناديني‭ ‬كي‭ ‬أخرج،‭ ‬فرافقني‭ ‬يوسف‭ ‬يعدو‭ ‬أمامي‭ ‬لينقضّ‭ ‬على‭ ‬الكيس‭ ‬ويفتحه‭ ‬وهو‭ ‬مسرفٌ‭ ‬في‭ ‬سعادته‭ ‬وتذوّق‭ ‬أوّل‭ ‬حبّة‭ ‬مثلجات،‭ ‬ورأيتُها‭ ‬‮«‬تذوب‭ ‬بِفمه‭ ‬مثل‭ ‬السكّر‮»‬‭.‬

رسوم‭: ‬أحمد‭ ‬البغلي