الصوم راحة فسيولوجية

الصوم راحة فسيولوجية

يتضمّنُ‭ ‬الصوم‭ ‬سلوكيّات‭ ‬غذائية‭ ‬خاصّة‭ ‬بالكائنات‭ ‬الحيّة‭ ‬المندرجة‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬الحيوانية،‭ ‬والتي‭ ‬يعتلي‭ ‬الإنسانُ‭ ‬قمَّتَها‭. ‬ويتمثل‭ ‬في‭ ‬الامتناع‭ ‬عن‭ ‬الأكل‭ ‬بصورة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭. ‬فيكون‭ ‬جزئيًا،‭ ‬بالامتناع‭ ‬عن‭ ‬أصناف‭ ‬من‭ ‬المأكولات‭ ‬دون‭ ‬غيرها،‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬طعام‭ ‬دون‭ ‬شراب‭. ‬أو‭ ‬كليًا‭ ‬لِفترة‭ ‬محدودة،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬تنظّمه‭ ‬الأديانُ‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬البشرُ‭ - ‬مثلًا‭ - ‬وِفق‭ ‬مقتضياتها‭. ‬

كما‭ ‬تعرفُ‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الحيوانات‭ ‬الامتناع‭ ‬عن‭ ‬تناول‭ ‬الطعام‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬معيّنة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬حياتها،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬قيامها‭ ‬بِنشاط‭ ‬حيوي،‭ ‬كالهجرة‭ ‬أو‭ ‬التكاثر،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬المرض،‭ ‬فكلّ‭ ‬الحيوانات‭ ‬عدا‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬تأكل‭ ‬إذا‭ ‬مرضت‭. ‬وثمّة‭ ‬امتناع‭ ‬عن‭ ‬الأكل‭ ‬يتّخذ‭ ‬منحىً‭ ‬فكريًا،‭ ‬نعرفه‭ ‬بِاسم‭ (‬الإضراب‭ ‬عن‭ ‬الطعام‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬طوعيٌّ،‭ ‬ويعبّر‭ ‬عن‭ ‬الاحتجاج‭. ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬مجافاة‭ ‬الطعام‭ ‬قهرية،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬التعذيب‭ ‬بِالتجويع،‭ ‬وعند‭ ‬وقوع‭ ‬كوارث‭ ‬طبيعية‭ ‬تعطّل‭ ‬عمليات‭ ‬إنتاج‭ ‬الغذاء‭ ‬وتوزيعه،‭ ‬وتصل‭ ‬لِقمّتها‭ ‬المأساوية‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬المجاعات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالفاقة‭ ‬والقحط‭. ‬

ويُوجز‭ ‬أحد‭ ‬المختصّين‭ ‬بِعِلم‭ ‬وظائف‭ ‬الأعضاء‭ (‬الفسيولوجيا‭) ‬الصومَ،‭ ‬أو‭ ‬الامتناع‭ ‬عن‭ ‬تناول‭ ‬الطعام،‭ ‬بِصفة‭ ‬عامة،‭ ‬في‭ ‬كونه‭ (‬راحة‭ ‬فسيولوجية‭)!‬

ويوضّح‭ ‬لنا‭ ‬ما‭ ‬أوجزه،‭ ‬فيدعونا‭ ‬إلى‭ ‬تتبّع‭ ‬خطّ‭ ‬سير‭ ‬الطعام‭ ‬الذي‭ ‬يبلغ‭ ‬طوله‭ ‬نحو‭ ‬عشرة‭ ‬أمتار،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬المضغ،‭ ‬فالابتلاع،‭ ‬لِيتّخذ‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬المعدة،‭ ‬ويخضع‭ ‬فيها‭ ‬لِضغط‭ ‬عضلات‭ ‬جدارها‭ ‬وإفرازاتها‭ ‬الكيماوية،‭ ‬متحوّلًا‭ ‬إلى‭ ‬عصارة‭. ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬ساعة‭ ‬وعدّة‭ ‬ساعات،‭ ‬تنتقل‭ ‬هذه‭ ‬العصارة‭ ‬إلى‭ ‬الاثني‭ ‬عشر،‭ ‬حيث‭ ‬يتعرّض‭ ‬لِمزيد‭ ‬من‭ ‬المعالجة‭ ‬الميكانيكية‭ ‬والكيميائية،‭ ‬ليصبح‭ ‬بعد‭ ‬انتهائها‭ ‬مُهيَّئًا‭ ‬للامتصاص،‭ ‬وما‭ ‬يتخلَّف‭ ‬عنه‭ ‬يُرحَّلُ‭ ‬ليُطرد‭ ‬من‭ ‬القناة‭ ‬الهضمية‭ ‬خارج‭ ‬الجسم‭. ‬أمّا‭ ‬العناصر‭ ‬الغذائية‭ ‬التي‭ ‬تمّ‭ ‬امتصاصُها‭ ‬فإنّ‭ ‬الدم‭ ‬يحملها‭ ‬ويدور‭ ‬بها،‭ ‬فتمرُّ‭ ‬بِالكبد‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬الأعضاء‭ ‬الداخلية،‭ ‬ويُختزنُ‭ ‬بعضُها،‭ ‬ويُحمَل‭ ‬الجانب‭ ‬الأكبر‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الخلايا‭ ‬المختلفة،‭ ‬حيث‭ ‬تُستخدم‭ ‬في‭ ‬أنشطتها‭ ‬المتنوّعة‭.‬

تعالوا‭ ‬نراجع‭ ‬معًا‭ ‬كلّ‭ ‬مراحل‭ ‬عملية‭ ‬الاغتذاء‭: ‬المضغ،‭ ‬النقل،‭ ‬حركة‭ ‬المعدة‭ ‬أثناء‭ ‬الهضم،‭ ‬إفراز‭ ‬عصارات‭ ‬المعدة‭ ‬الهاضمة،‭ ‬إفرازات‭ ‬الأمعاء‭ ‬وحركتها‭ ‬التي‭ ‬تستكمل‭ ‬الهضم،‭ ‬الامتصاص،‭ ‬تداول‭ ‬المواد‭ ‬المغذّية‭ ‬وتوزيعها‭ ‬وتخزينها،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬الأيض‭ ‬أو‭ ‬التمثيل‭ ‬الغذائي‭ ‬في‭ ‬الخلايا‭. ‬كلّها‭ ‬خطوات‭ ‬لها‭ ‬تكلفتُها‭ ‬من‭ ‬الطاقة‭ ‬التي‭ ‬تُخصم‭ ‬من‭ ‬رصيد‭ ‬الجسم‭ ‬لِحين‭ ‬تعويضها‭ ‬عندما‭ ‬تتعامل‭ ‬الإنزيمات‭ ‬مع‭ ‬الموادّ‭ ‬الغذائية‭ ‬لِتطلق‭ ‬ما‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬طاقة‭. ‬ومِن‭ ‬الواضح‭ ‬أنّ‭ ‬الجسم‭ ‬يفقد‭ ‬طاقة‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬الطعام‭ ‬داخل‭ ‬القناة‭ ‬الهضمية‭.‬

ثمّ،‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬يأتي‭ ‬الجسم‭ ‬بِتكلفة‭ ‬كلّ‭ ‬هذه‭ ‬المراحل‭ ‬من‭ ‬الطاقة؟‭ ‬إنّه‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬مخزونه‭ ‬من‭ ‬المواد‭ ‬المغذّية،‭ ‬ويحرقها‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬السرعة‭ ‬لتسخير‭ ‬الطاقة‭ ‬المُنطلقة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬مراحل‭ ‬الاغتذاء‭. ‬إنّه‭ ‬يفقد‭ ‬طاقة‭ ‬مُختزنة‭ ‬لديه،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬موادّ‭ ‬جديدة‭ ‬لِتكون‭ ‬بعد‭ ‬كلّ‭ ‬هذا‭ ‬الجهد‭ ‬مصدرًا‭ ‬لِلطاقة‭!‬

إن‭ ‬الصوم‭ ‬يُغني‭ ‬الجسم‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المشقّة‭ ‬التي‭ ‬يتحمّلها،‭ ‬فيحفظ‭ ‬له‭ ‬رصيده‭ ‬المُختزن‭ ‬منها،‭ ‬لا‭ ‬يهدره‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدائرة‭ ‬التي‭ ‬تُجهد‭ ‬أعضاءه‭ ‬المختلفة،‭ ‬ويتضمن‭ ‬أيضًا‭ ‬إغناءه‭ ‬عن‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬مخلّفات‭ ‬عمليات‭ ‬الهضم‭ ‬والتمثيل‭ ‬الغذائي،‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬بعضها‭ ‬سامّ،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬الجسم‭ ‬مشقّة‭ ‬في‭ ‬لفظها‭ ‬للخارج‭. ‬

وقد‭ ‬لا‭ ‬يعرفُ‭ ‬بعضُنا‭ ‬أن‭ ‬مراحل‭ ‬الاغتذاء‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬عمليات‭ ‬ميكانيكية‭ ‬وتفاعلات‭ ‬كيميائية‭ ‬يتخلَّف‭ ‬عنها‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬المواد‭ ‬السامّة‭ ‬التي‭ ‬تسري‭ ‬في‭ ‬الدم،‭ ‬وتتراكم‭ ‬في‭ ‬الأنسجة‭ ‬الحيّة،‭ ‬وتتكفّل‭ ‬الكليتان‭ ‬بالتخلّص‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬البول،‭ ‬والكبدُ‭ ‬بإنتاج‭ ‬الصفراء،‭ ‬والرئتان‭ ‬بإبعاد‭ ‬مخلّفات‭ ‬التنفّس‭ ‬من‭ ‬ثاني‭ ‬أكسيد‭ ‬الكربون‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬غازات‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيها‭ ‬عبر‭ ‬عملية‭ ‬الزفير‭. ‬

والآن،‭ ‬هل‭ ‬تتّفقون‭ ‬معي‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬الصوم‭ ‬هو،‭ ‬بالفعل،‭ ‬راحة‭ ‬للجسم‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬مُرهقة‭ ‬مُستنفِدة‭ ‬للطاقة‭ ‬والحيوية؟‭!‬.