الطّفلة... والملاك!

الطّفلة... والملاك!

هل‭ ‬تصدّقونني،‭ ‬يا‭ ‬أبنائي،‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬لكم‭: ‬

إنّها‭ ‬عمياء،‭ ‬صمّــاء،‭ ‬بكمــاء،‭ ‬وتقرأ‭ ‬الكتب‭ ‬بـِنهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬آخر‭: ‬بصير،‭ ‬طّليق‭ ‬الّلسان،‭ ‬حادّ‭ ‬السّمع؟‭!‬

طبعًا،‭ ‬لن‭ ‬تصدّقوني،‭ ‬وأنا‭ ‬أيضًا‭ ‬لم‭ ‬أصدّق‭ ‬نفسي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬قصّتها‭ ‬العجيبة‭!... ‬لكن،‭ ‬ستصدّقونني‭ ‬حتمًا‭ ‬عندما‭ ‬أحكي‭ ‬لكم‭ ‬ســيــرتها‭ ‬الغريبة‭ ‬من‭ ‬ألِفها‭ ‬إلى‭ ‬يائها‭!‬

إنّــها‭ ‬هيـلـيـن‭ ‬كـيـلر،‭ ‬الّتي‭ ‬لقّــبـوها‭ ‬بـ‭ (‬المعجزة‭ ‬البشريّة‭)!‬

وُلدت‭ ‬سليمةً‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬مرض‭ ‬أو‭ ‬عاهة‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬يونيو‭ ‬1880‭ ‬بِولايــة‭ (‬توسكومبيا‭/‬ألابامــا‭) ‬في‭ ‬أمريكا‭! ‬

ولمّا‭ ‬بلغت‭ ‬شهرها‭ ‬التّاسع‭ ‬عشر،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكمل‭ ‬عامين‭ ‬اثنين،‭ ‬أصابتها‭ (‬حمّى‭ ‬الدّماغ‭) ‬ففقدت‭ ‬حوّاسّها‭ ‬الثّلاث‭: ‬البصر،‭ ‬النّطق،‭ ‬السّمع‭!‬

إذ‭ ‬لاحظت‭ ‬أمّها‭ ‬أنّها‭ ‬لا‭ ‬تلتفت‭ ‬جهة‭ ‬مواء‭ ‬قطّـــتها،‭ ‬ونباح‭ ‬كلبها،‭ ‬وثغـــاء‭ ‬خروفها،‭ ‬وخوار‭ ‬بقرتها،‭ ‬وصياح‭ ‬ديـكها،‭ ‬وتغريد‭ ‬عصفـورها،‭ ‬لأنّها‭ ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬مزرعة،‭ ‬مع‭ ‬والدَيها‭ ‬الفلّاحَين‭! ‬

ولاحظت‭ ‬أنّها‭ ‬لا‭ ‬تفتح‭ ‬فمها،‭ ‬كعادتها،‭ ‬عندما‭ ‬ترى‭ ‬الطّعام،‭ ‬إلّا‭ ‬إذا‭ ‬أحسّت‭ ‬به‭ ‬يلامس‭ ‬شفتَيها،‭ ‬أو‭ ‬تداعب‭ ‬رائحته‭ ‬الطّيّبة‭ ‬أرنبة‭ ‬أنفها‭! ‬

  ‬وهذا‭ ‬يعني،‭ ‬يا‭ ‬أبنائي،‭ ‬أنّ‭ (‬هيلين‭) ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تملك‭ ‬من‭ ‬الحواسّ‭ ‬إلّا‭ ‬اثنتين،‭ ‬هما‭ ‬الّلمس‭ ‬والشّمّ‭. ‬فكانت‭ ‬تكبر‭ ‬مثل‭ ‬حيوان‭ ‬تمامًا،‭ ‬تحشو‭ ‬فمها‭ ‬بالطّعام،‭ ‬وتدخل‭ ‬فيه‭ ‬يدَيها‭ ‬كلتَيهما،‭ ‬فتجعل‭ ‬الضّيوف‭ ‬يغرقون‭ ‬في‭ ‬الضّحك‭!‬

‭ ‬‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬وِسع‭ ‬أبوَيها‭ ‬الحنــونَين،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬يعرضاها‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬طبـــيـــب،‭ ‬علّها‭ ‬تسترجع‭ ‬حواسّها‭ ‬الضّائعة،‭ ‬أو‭ ‬بعضًا‭ ‬منها‭! ‬

  ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬الأطبّاء‭ ‬فقدوا‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬علاجها،‭ ‬وأخبروا‭ ‬والدَيها‭ ‬بِأن‭ ‬لا‭ ‬يشغلا‭ ‬بالهما‭ ‬بها،‭ ‬لأنّ‭ ‬علاجها‭ ‬من‭ ‬سابع‭ ‬المستحيلات‭!‬

  ‬وبقيت‭ ‬هيلين‭ ‬الطّفلة‭ ‬قابعةً‭ ‬في‭ ‬بيتها،‭ ‬سنوات‭ ‬طويلةً،‭ ‬لا‭ ‬تلعب،‭ ‬ولا‭ ‬تسيـر،‭ ‬ولا‭ ‬تتعلّم،‭ ‬ولا‭ ‬تشاهد‭ ‬تمثيليّةً،‭ ‬أو‭ ‬تسمع‭ ‬أغنيّةً،‭ ‬كأنّها‭ ‬في‭ ‬زنزانة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬شاءت‭ ‬الصّدفة‭ ‬الحسنة‭ ‬أن‭ ‬يلتقي‭ ‬والدها‭ ‬بالدّكتور‭ (‬ألكسندر‭ ‬جراهام‭)‬،‭ ‬مخترِع‭ ‬الهاتف‭ ‬الثّابت،‭ ‬فحكى‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬عاهة‭ ‬ابنته،‭ ‬والدّموع‭ ‬تسيل‭ ‬من‭ ‬عينَيه،‭ ‬فنصحه‭ ‬بأن‭ ‬يتّصل‭ ‬بِمعهد‭ (‬بيركنز‭) ‬للعميان‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المعهد،‭ ‬سهرت‭ ‬المعلّمة‭ (‬آن‭ ‬مانسفيلد‭ ‬سوليفان‭) ‬على‭ ‬تربية‭ ‬وتعليم‭ ‬هيلين،‭ ‬فكانت‭ ‬كملاك‭ ‬من‭ ‬نور،‭ ‬أضاء‭ ‬عينَي‭ ‬الطّفلة‭ ‬وعقلها‭!‬

  ‬أوّل‭ ‬كلمة‭ ‬تعلّمتها‭ ‬ونطقتها‭ ‬هيلين،‭ ‬هي‭ (‬الماء‭)‬،‭ ‬لأنّنا‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬حين،‭ ‬ولا‭ ‬نستغني‭ ‬عنه‭. ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة،‭ ‬انطلقت‭ ‬المعلّمة‭ ‬في‭ ‬عمليّة‭ ‬التّعليم،‭ ‬عبر‭ ‬الإشارات،‭ ‬بل‭ ‬كوّنت‭ ‬لها‭ ‬صداقات‭ ‬مع‭ ‬فتيات‭ ‬أخريات،‭ ‬حتّى‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تتعلّم‭ ‬كلمات‭ ‬وتعابير‭ ‬وجملًا‭! ‬

  ‬وفي‭ ‬سنّ‭ ‬العشريــن،‭ ‬أخذت‭ ‬تتكلّــم‭ ‬بطلاقة‭ ‬تــامّة،‭ ‬فصاحت‭ ‬في‭ ‬معلّــمتها‭ ‬ووالدَيها‭ ‬وصديقاتها‭ ‬بصوت‭ ‬عالٍ‭ ‬وجرأة‭: ‬اِعلموا‭ ‬جمــيعًا‭ ‬أنّــني‭ ‬لم‭ ‬أعُد‭ ‬خرســاء،‭ ‬كــــمــا‭ ‬كنت‭ ‬من‭ ‬قبل‭!‬

  ‬ثمّ‭ ‬أقبلت‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬الرّياضة،‭ ‬كالسّباحة‭ ‬وركوب‭ ‬الخيل،‭ ‬وعلى‭ ‬لعبة‭ ‬الشّطرنج‭. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬التّعلّم،‭ ‬وقراءة‭ ‬الكتب،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نالت‭ ‬شهادة‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬وأصبحت‭ ‬محاضِرةً‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الجامعات،‭ ‬ومؤلِّفة‭ ‬كتب،‭ ‬منها‭: ‬

1‭ - ‬قصّة‭ ‬حياتي‭.‬

2‭ - ‬نورٌ‭ ‬في‭ ‬ظلمتي‭.‬

3‭ - ‬الحبّ‭ ‬والسّلام‭.‬

4‭ - ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الظّلام‭.‬

5‭ - ‬العالَم‭ ‬الّذي‭ ‬أعيش‭ ‬فيه‭.‬

6‭ - ‬هيلين‭ ‬كيلر‭ ‬في‭ ‬اسكتلندا‭.‬

7‭ - ‬أغنيّة‭ ‬الجدار‭ ‬الحجري‭.‬

  ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬قابعةً‭ ‬في‭ ‬بيتها،‭ ‬إنّما‭ ‬متنقّلةً‭ ‬بين‭ ‬خمس‭ ‬وثلاثين‭ ‬دولةً،‭ ‬بين‭ ‬إفريقيا‭ ‬وأوربّا‭ ‬وآسيا‭! ‬وأنشأت‭ ‬مؤسّسةً‭ ‬طبّيّةً‭ ‬بِاسمها،‭ ‬تعالج‭ ‬العمى،‭ ‬وتقضي‭ ‬على‭ ‬سوء‭ ‬التّغذيّة‭ ‬في‭ ‬الدّول‭ ‬الفقيرة‭. ‬فلْنستغلّ‭ ‬حواسّنا‭ ‬الخمس‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬والتّعلّم،‭ ‬كي‭ ‬نسعد‭ ‬البشريّة‭ ‬جمعاء‭ ‬بِعملنا‭ ‬وعلمنا‭ ‬وأدبنا،‭ ‬وسلوكنا‭ ‬النّبيل‭...!‬

رسم‭: ‬عبدالله‭ ‬درقاوي